المشاحنات التي تتكرّر بين الرباط والجزائر حول الأمن الحدودي غير المناسب، بما في ذلك الجهود غير الفاعلة لمكافحة الإرهاب والمخدرات، تشكّل مرة أخرى مؤشراً عن أن المنافسة بين البلدَين على السيطرة تعرقل إمكانية التعاون الإقليمي. رسمياً، يحول الخلاف المرير على سيادة الصحراء الغربية دون توصّل الدولتَين إلى اتفاق حول الشؤون الإقليمية الأخرى مثل الأمن الحدودي. يحضّ المغرب الجزائر على وضع الخلاف جانباً من أجل العمل بفاعلية أكبر على مسائل ملحّة أخرى في شمال أفريقيا، في حين أنه ليست لدى الجزائر أي محفزات لفصل الأمن الحدودي عن التوصل إلى تسوية نهائية حول وضع الصحراء الغربية ما دامت قادرة على استخدام الأمن الحدودي وسيلة للضغط على المغرب في موضوع الصحراء الغربية.
بيد أن المغرب والجزائر، وكذلك تونس، تواجه جميعها المعضلة نفسها عند حدودها. لقد تزامنت الزيادة في التهريب عبر الحدود، خلال العقد المنصرم، مع ظهور عدد كبير من الأفرقاء الجدد الذين يستخدمون أنماط التهريب القديمة. وهذا يطرح تحدّياً على الحكومات والأجهزة الأمنية على السواء – ضمن قدرتها على العمل فعلياً في هذه المناطق – بطريقة أدّت إلى تجريد الحدود من صفة الحماية وتحويلها إلى تهديدات محتملة للأمن القومي. طبيعة التعاون الأمني غير المنتظم والذي يعاني من شح الموارد في دول المغرب العربي، ويرزح تحت وطأة الخلاف السياسي المغربي-الجزائري، والحكومات الفاشلة أو الضعفية في ليبيا وتونس، تتجلّى بشكل خاص في هشاشة المناطق الحدودية الفاضحة إزاء الجريمة العابرة للأوطان، والشبكات الإرهابية، والهجرة غير الشرعية.
في حين أن الحدود الممتدّة على طول 2400 كلم (1500 ميل) بين الجزائر والمغرب وتونس وليبيا قد رُسِّمت بوضوح، فهي لا تُستخدَم لتعيين بداية سيادة الدولة أو نهايتها بقدر ما تُستعمَل كمناطق عازلة، أي أراضٍ قائمة بحد ذاتها تربط بين مناطق متّصلة جغرافياً. ليست لهذه الحدود أهمية اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية كبيرة بحد ذاتها، بل تُستخدَم كقنوات للتفاوض على الهويات العابرة للأوطان، وبناء اعتماد اقتصادي متبادل – بما في ذلك عن طريق الهجرة وتهريب البضائع – وتسهيل حركة المجموعات المسلّحة، التي تنظر إلى هذه المناطق الحدودية كأرض خصبة طبيعية للتشدّد الأيديولوجي. خلافاً للحدود في غالبية دول القارة الأفريقية، الحدود بين المناطق الشمالية ذات الكثافة السكانية الأكبر في دول المغرب العربي، قديمة وراسخة: لم تفرضها أوروبا الكولونيالية، كما أنها لا تعكس انقسامات جغرافية أو إثنية-ثقافية قوية. على النقيض، الحدود الخارجية للمغرب العربي في الجنوب موروثة إلى حد كبير من الإدارة الاستعمارية الفرنسية، لا سيما في الجزائر. في حين أن حدود المغرب مع الصحراء تُحدّدها في شكل أساسي المستعمرة الإسبانية السابقة للصحراء الغربية، يدين الجزائر بالجزء الخاضع لسيطرته في الصحراء إلى المخطط والمصالح الاستعمارية الفرنسية في المنطقة. هذه الحدود المفروضة قسراً هي أقل منطقية في عدد كبير من الجوانب، ما يزيد من عوامل الهشاشة الأمنية في المغرب العربي.
لقد أدّت طبيعة الحدود الخارجية القابلة للاختراق في المغرب العربي، وارتباط البلدان التاريخي بالطرق التجارية في الصحراء والساحل، إلى زيادة تعقيدات المسائل الأمنية عند الأطراف الهشّة في المنطقة. في الجزائر، تسبّب غياب الفاعلية في ضبط الحدود مع ليبيا وتونس (حيث سُجِّلت تحسينات لافتة في العمليات في الأعوام الماضية)، على امتداد عقود، بتفشّي شركات التهريب، وأفضى إلى ازدهار الاقتصاد غير النظامي الذي يساعد على نشر الاستقرار في هذه المناطق المضطربة. كذلك شهد الفراغ النسبي في السلطة على طول حدود المغرب العربي، لا سيما في مالي وليبيا، ظهور الهجرة غير الشرعية وتجارة الأسلحة والمخدرات، ما يؤدّي إلى تغذية الشبكات الإرهابية – وقد تدهور الوضع سريعاً غداة الثورة التونسية وانهيار الدولة الليبية في العام 2011.
وعلى الرغم من أن كلاً من المغرب والجزائر يعمل على حدة على تحسين إمكاناته في مجال ضبط الحدود وزيادة التمويل لهذه العمليات، إلا أن الزيادة في حجم التهريب والنزوح عند الحدود المغربية-الجزائرية ووتيرتهما تتسبب أيضاً بارتفاع خطر الإرهاب العابر للأوطان. لقد ساهمت الجهود المتزايدة التي تبذلها الجزائر من أجل مكافحة الإرهاب، في كبح التسلل إلى المغرب عبر الحدود وخفضه إلى حدّه الأدنى، ويواجه المغرب تهديداً أكبر بكثير جرّاء عودة المقاتلين المتمرسين من سورية وليبيا. إلا أنه ليس بمقدور الرباط والجزائر أن تستمرا في التمنّع عن التعاون في مجال الأمن الحدودي في المدى الطويل. فالخطر المتدنّي الذي تمثّله الحدود يضمن، في الحد الأدنى، أن "مسألة الحدود" الأزلية ستبقى ورقة سياسية تستطيع الجزائر أن تربطها بتسوية أوسع لقضية الصحراء الغربية.
إلى جانب غياب التنسيق لدرء هذه التهديدات العابرة للأوطان، تفتقر بلدان المغرب العربي إلى سياسة لمعالجة المشكلات المشتركة للمجتمعات المحلية المفقَرة، والمهمَلة سياسياً، والتي يسهل دفعها نحو التشدد في المناطق الحدودية المشتركة – لا سيما في جنوب شرق المغرب، وجنوب شرق الجزائر، وغرب تونس. السبيل الأفضل لمعالجة الأسباب الجذرية للمظالم المتنوّعة التي تعاني منها هذه المناطق هو اعتماد مقاربة محلية عابرة للحدود ومتعددة الجوانب. فالاكتفاء فقط بالجهود الهادفة إلى ضبط الأمن عند الحدود يزيد من حدة الاضطرابات السياسية، أو حتى يزيد من جاذبية الأيديولوجيات المتطرفة، لأن التشدد في قمع التهريب يتسبب بتعطيل الخيارات المتاحة أمام السكان المحليين لكسب معيشتهم. على سبيل المثال، تضاعف عدد السكان في مدينة تمنراست جنوب الجزائر – وهي نقطة وصل تجارية استراتيجية بين ليبيا والجزائر ومالي والنيجر – ثلاث مرات في الأعوام العشرة الماضية، لا سيما بسبب التجارة غير الشرعية، التي يصعب استبدالها بأنشطة اقتصادية قانونية مربِحة بالدرجة نفسها. يمكن أن تُحقق التجارة غير الشرعية للبنزين الجزائري الرخيص عبر الحدود التونسية، متوسط أرباح يتراوح من 120 إلى 160 دولاراً في اليوم لمجموعة واحدة من المهرّبين، بالمقارنة مع 6 إلى 9 دولارات في اليوم للباعة القانونيين في شوارع تونس.
يذكّرنا ظهور هذا الاقتصاد في المناطق الحدودية، بأنه خلافاً لأوروبا – حيث نمت الدول المركزية وراحت تستخرج الثروات والنفوذ من دول الأطراف – بدأ بناء الدولة في شمال أفريقيا مع تأسيس مدن عند الطرق التجارية العابرة للصحراء، والتي استخدمتها مراكز النفوذ المحلية لاحقاً كمنصّات انطلقت منها لفرض حكم السلالة المركزي. وهكذا فإن الحدود في المغرب العربي هي فضاءات اقتصادية متماسكة، مع هويات مشتركة مُلقاة وسط أجواء خلافية على الدوام، وليست الحدود أطرافاً نائية وعصيّة على الحكم عند هامش الأراضي الوطنية. على الرغم من تحدّيات التنمية البشرية، تُعتبَر المناطق الجنوبية في الجزائر والمغرب استراتيجية بقدر "المركز". على سبيل المثال، يضم جنوب الجزائر، الذي يشكّل 80 في المئة من مساحة البلاد ويقطنه 9 في المئة من السكان، الجزء الأكبر من قطاع النفط والغاز المربح في البلاد، الذي يؤمّن 35 في المئة من إجمالي الناتج المحلي ونحو 75 في المئة من إيرادات الدولة.
الإبقاء على الوضع القائم في الأراضي الحدودية المعقّدة في المغرب العربي يمكن أن يخرج بسهولة عن السيطرة. غير أن الجمع بين الجهود الأمنية العابرة للحدود عند المستويَين الإقليمي والمحلي، وبين استراتيجية عملية للتنمية الاقتصادية تُقدّم موارد اقتصادية بديلة عن التهريب والاتجار بالبشر، قد يساهم في بسط الاستقرار في هذه المناطق. بإمكان المحافظات الواقعة عند الحدود المغربية-الجزائرية أو الجزائرية-التونسية، مثلاً، تطبيق استراتيجية مشتركة للتنمية والأمن في المناطق الحدودية على المستوى المحلي. من شأن هذا النموذج ذي الطابع المحلي، في حال حصوله على دعم مناسب من الحكومات المركزية، أن يُتيح زيادة التعاون وتعزيز الأمن من دون أن تُضطر الدول إلى تغيير مواقفها حول ما إذا كان يجب ربط المسائل الحدودية بالقضايا السياسية مثل وضع الصحراء الغربية.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
جاك روسيلييه أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة العسكرية الأميركية، شارك في تحرير كتاب "آفاق حول الصحراء الغربية: الأساطير والقومية والجيوسياسة" (Perspectives on Western Sahara: Myths, Nationalism and Geopolitics) (رومان أند ليتلفيلد: نيويورك، 2014).