شهدت الأشهر الأخيرة إعادة آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم قسراً من دول مجاورة، ما شكّل انتهاكاً للمعاهدات الدولية.
على سبيل المثال، أعاد لبنان خلال الأشهر الأربعة الأخيرة 2731 لاجئاً إلى وطنهم، فيما رحّلت تركيا مئات اللاجئين. وتُبرر السلطات اللبنانية والتركية سياساتها بأن سورية أصبحت آمنة، لأن نظام الأسد استعاد معظم الأراضي التي كان قد خسرها، كما أن عدداً متزايداً من السوريين اللاجئين والنازحين داخلياً يعودون إلى ديارهم. وحتى في أوروبا، بدّلت دائرتا الهجرة الدنماركية والسويدية تقييمهما للوضع في سورية، إذ اعتبرتا أن الظروف الأمنية في بعض المناطق السورية لم تعد تشكّل تهديداً لطالبي اللجوء.
هذه الحجّة موضع شك بالغ. فسورية لاتزال ترزح تحت وطأة الصراع والانفلات الأمني، ما يلقي بثقله على اللاجئين خصوصاً. صحيح أن عدداً كبيراً من السوريين عادوا، لكن أعداداً أكبر بكثير كانوا يفرّون من بيوتهم نتيجة الصراع والاضطهاد. على سبيل المثال، تُظهر الأرقام الصادرة في العام 2017 أنه مقابل كل لاجئ أو نازح داخلياً عاد، كان ثمة ثلاثة نازحين جدد. وفي حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2019، عاد 190 ألف سوري من النازحين داخلياً، لكن ثلاثة أضعاف هذا العدد نزحوا بين كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو.
الادّعاءات القائلة بأن سورية باتت آمنة لعودة اللاجئين، تغضّ الطرف عمداً عن المجموعة الواسعة من السياسات التي طبّقها نظام الأسد لمنعهم من العودة، مثل التجنيد الإجباري الذي يحول دون عودة العديد من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاماً. فالشباب الذين يُساقون إلى التجنيد الإجباري في المناطق التي أجرت "مصالحات" مع النظام بموجب ضمانات روسية، يُرسَلون إلى الجبهات الأمامية كي يلقوا حتفهم، فيما يتعرض الذين يرفضون الالتحاق بالتجنيد الإجباري قبل انقضاء مهلة الستة أشهر المُحدّدة بموجب الضمانات الروسية، إلى الخطف والإخفاء. مثال آخر هو قانون مكافحة الإرهاب الذي دخل حيّز التنفيذ في العام 2012، ويستخدمه النظام لخنق أصوات المعارضين المُحتملين، بما في ذلك النشطاء المدنيين الذين يُحاكَمون بتهمة "الترويج للأعمال الإرهابية".
تشير تقارير عدة إلى أن قوات النظام عمدت إلى احتجاز مئات اللاجئين وإخفائهم حال عودتهم إلى سورية. وقدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن القوات الحكومية احتجزت مئات المدنيين منذ حزيران/يونيو 2019، ولاسيما في محافظات درعا ودمشق وريف دمشق وحمص. ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مؤخراً اختفاء 638 شخصاً من العائدين إلى سورية، لقي 15 منهم مصرعهم نتيجة التعذيب بحسب ما أُفيد، لكن الكثير من المحلّلين يقدّرون أن الأعداد أكبر من ذلك بكثير. كذلك، تحدّثت الشبكة السورية عن جهود حثيثة لفرض التجنيد الإجباري، إضافةً إلى ارتفاع معدّلات احتجاز العائدين إلى سورية.
تشير هذه النتائج إلى المنحى الذي تشهده سورية اليوم. فعلى الرغم من أن وتيرة الصراع المسلّح آخذة في الانحسار على ما يبدو، كثّفت الدولة إجراءاتها القمعية بحق المدنيين لإنزال عقاب جماعي بهم من جهة، وكتدبير احترازي يقي من احتمال حدوث معارضة سياسية من جهة أخرى. ومع أن الصراع أضعف الجيش السوري، إلا أن نفوذ الأجهزة الأمنية العاملة في البلاد ازداد باطّراد.
في غضون ذلك، تفرض الأجهزة الأمنية على الراغبين في العودة الحصول على تصريح أمني وتلجأ إلى آليات التدقيق بالأسماء لمنع بعضهم من العودة. حالياً، يتولّى مكتب الأمن الوطني السوري، الذي ينسّق عمل وكالات الاستخبارات السورية، قبول عودة اللاجئين والنازحين داخلياً. ففي مدينة داريا الواقعة بالقرب من دمشق مثلاً، على اللاجئين أو النازحين داخلياً الراغبين في العودة طلب الإذن عبر تسجيل أسمائهم في المجلس المحلي للمدينة. ثم تُحال الطلبات إلى مكتب الأمن الوطني، وفي حال الموافقة عليها يحصل المواطنون على بطاقة إقامة شهرية. لكن، تم رفض الكثير من الطلبات، حتى في ظل هذه الشروط الصارمة. وقد أفاد مواطنون يملكون بطاقات إقامة صالحة أن عناصر الميليشيات عند نقاط التفتيش منعوهم من البقاء في المدينة.
تُطبّق دول مجاورة عملية مماثلة للتعامل مع اللاجئين الراغبين في العودة. ففي لبنان مثلاً، على اللاجئين أن يقدّموا طلباتهم عبر المديرية العامة للأمن العام اللبناني التي تُحيل أسماءهم إلى مكتب الأمن الوطني السوري، والذي بدوره يقرّر إما السماح بعودتهم أو رفضها. ومع أن مئات اللاجئين قدّموا طلبات، لم يُسمح إلا لحفنة منهم بالعودة. على سبيل المثال، يتحدّر 5 في المئة من اللاجئين السوريين في لبنان من مدينة القصير القريبة من الحدود اللبنانية والتي كانت معقلاً للثوار في محافظة حمص. ومع أن قوات النظام وحزب الله أعادت بسط سيطرتها على المدينة في العام 2013، لم يُسمح إلا لعُشر سكانها بالعودة.
يواجه اللاجئون السوريون في لبنان عقبات كأداء أخرى، مثل الظروف الصعبة في مناطق سكنهم الأصلية. وتشير البيانات الصادرة في العام 2015 عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن 21 في المئة من اللاجئين المُسجّلين في لبنان يتحدّرون من حمص، و21 في المئة منهم من حلب، و14 في المئة من ريف دمشق. بعبارة أخرى، يتحدّر أكثر من نصف اللاجئين في لبنان من محافظات لحق بها دمار هائل، ولايزال الوضع الأمني فيها مزعزعاً للغاية. ففي مدينة حمص، قّدّرت تكلفة الدمار الذي حلّ بها بنحو 2.7 مليار دولار في آذار/مارس 2016. أما في حلب، التي كانت سابقاً أهم مركز صناعي في سورية، فقد بلغ حجم الدمار فيها 7.57 مليارات دولار في شباط/فبراير 2017.
إلى جانب الدمار المادي الذي لحق بالقرى والمدن، وصل عدد كبير من الخدمات إلى حالة يُرثى لها. فنظام الاتصالات عشوائي وانقطاع التيار الكهربائي مُتكرر، وخدمات الرعاية الصحية شبه غائبة عملياً، حتى أن بعض المناطق تعاني من نقص شديد في أبسط ضروريات الحياة اليومية كالخبز. مثلاً، ليس باستطاعة سكان مدينة الرستن الواقعة في محافظة حمص شراء الخبز سوى من مخبز واحد فقط قيد العمل، لأنه وبعد مرور عام على "مصالحة" البلدة مع النظام، لم يتمّ تأهيل أي من المخابز المتضرّرة. في الوقت نفسه، لايُسمح لأولئك الذين يتمكّنون من الدخول إلى مناطقتهم الأصلية من إحضار مواد البناء، ما يعني أنهم غير قادرين على إعادة تشييد منازلهم. الجدير ذكره هنا هو أن أسعار مواد البناء باهظة، وليست في متناول معظم السوريين، في حين أن الحصول على مثل هذه المواد غالباً ما يتطلب دفع رشاوي.
علاوةً على ذلك، لن يسمح النظام بإعادة الإعمار إلا بشروطه الخاصة، وذلك بناءً على أولوياته وليس حاجاته. فقد فضّل النظام في العام 2018، إعادة تأهيل حرستا التي تقع في محافظة ريف دمشق ويبلغ عدد سكانها 1100 نسمة تقريباً، بالمقارنة مع دوما وعبرين اللتين يبلغ عدد سكانهما حوالى 13000 و41000 نسمة على التوالي. ويُعزى ذلك في الدرجة الأولى إلى قُرب حرستا من العاصمة دمشق وإلى تعاطف سكانها الحاليين مع النظام. لكن حتى في هذه المنطقة، بدا النظام أكثر اهتماماً بإعادة تأهيل الخدمات الإدارية للدولة وليس بالخدمات العامة. ففي حلب، فضّل ثماني مناطق في الجزء الغربي من المدينة التي كانت بقيت خاضعة إلى سيطرة الحكومة طيلة فترة الصراع هناك.
ما يكتسب هنا أهمية بالغة أنه حتى لو بدأت عملية الإعمار، إلا أن التغييرات في الإطار القانوني في سورية تشير إلى أن النظام يعمل بدأب لتعقيد، أو حتى منع، عودة اللاجئين. فبموجب القانون الرقم 10 للعام 2018، باتت مصادرة أملاك السوريين سياسة ناشطة يعتمدها النظام، وهو يسمح للدولة بإدراج أي منطقة في سورية إلى إعادة التطوير العقاري، ومصادرة ملكية أراضي من لا يستطيع تقديم "ما يُثبت ملكيته" في غضون شهر (عُدّلت المدة لاحقاً إلى سنة) من تاريخ الإدراج. وكما ذكرت هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى، يجري منع سكان من العودة إلى منازلهم بحجة إعادة الإعمار وإعادة التطوير.
مثلاً، أدّت عملية إعادة الإعمار في دمشق وحلب وحمص التي جرى تنفيذها بموجب القانون الرقم 10 إلى حرمان السكان الأصليين من حقهم في العودة، وضمنت نقل ممتلكاتهم إلى أتباع النظام. وتم تجريد سكان بساتين الرازي والقابون، وهما معقلان سابقان للمعارضة في ضواحي دمشق، قسراً من ممتلكاتهما نتيجة لأنشطة إعادة التطوير، مع الإشارة إلى أنه من المستبعد بناء مساكن منخفضة التكلفة للسكان الذين صودرت ممتلكاتهم. وتتكشّف قصة مماثلة في حماة، حيث جرت عمليات تدمير كبيرة تحت غطاء إعادة الإعمار وإعادة التطوير. في الوقت نفسه، تم إعادة تقسيم مدينة داريا بموجب خطة تطوير جديدة صدرت مؤخراً وتتضمن هدم وسط المدينة بالكامل.
تؤدي مثل هذه التطوّرات إلى تأبيد التغييرات الديموغرافية الناجمة عن الحرب، وتضمن قيام سورية "أكثر تجانساً"، كما صرّح الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2014. أما في ما يتعلق بالنازحين داخلياً، فقد كشف النظام عن كيفية التعامل معهم، فهو يعمد إلى إرسالهم مثلاً إلى مايُعرف بـ"معسكر الطلائع" في قرية رساس في محافظة السويداء، التي تستضيف 5000 سوري نزحوا من منطقة الجزيرة شمال شرق سورية. ويخضع المعسكر إلى رقابة شديدة، بحيث يؤمّن القنّاصة السيطرة المُحكمة على التنقل داخله وخارجه، ولايُسمح للنازحين داخلياً بالمغادرة إلا في ظل ظروف خاصة. كما يتمّ عادةً ترتيب وسائل نقل لإيصال التلاميذ من المعسكر إلى مدارسهم. مع ذلك، يفتقر هذا المرفق إلى البنية التحتية المناسبة، بما في ذلك توافر مساحة لإيواء النازحين أو مركز لإعادة التأهيل وتقديم المساعدة النفسية.
تترك الضغوط التي يرزح تحتها اللاجئون السوريون للعودة إلى ديارهم أثراً ضاراً على مجتمع اللاجئين. فالعديد من السوريين يخاطرون بحياتهم مجدداً من خلال الهجرة إلى أوروبا عن طريق البحر، ومعظمهم من خلال تركيا، على الرغم من السلوك العدواني الذي يُظهره خفر السواحل التركي نحوهم على نحو متزايد. كما سجّلت اليونان من جديد ارتفاعاً في أعداد اللاجئين الذين يصلون إلى شواطئها، بينما أوقف خفر السواحل التركي أكثر من 100 قارب، واحتجز أكثر من 3000 شخص في الأسبوع الواقع بين 29 تموز/يوليو و4 آب/أغسطس. الجدير ذكره هنا هو أن هذه الأرقام هي الأكبر منذ العام 2015، عندما كانت أزمة اللاجئين في أوجها. كما يدفع عامل آخر، وهو المضايقات، السوريين إلى المخاطرة بحياتهم في رحلة طويلة من لبنان على متن قوارب صيد، التي غالباً ما ينتج عنها وفيات.
على الرغم من تأكيداته على حدوث العكس، يواصل النظام السوري اتّخاذ مروحة من التدابير القانونية والأمنية والعسكرية والاجتماعية لمنع عودة اللاجئين. ونظراً إلى أن عملية وضع هذه التدابير بدأت منذ العام 2012، ما يدلّ على وجود نية لدى النظام منذ وقت طويل، يتعيّن هنا على المجتمع الدولي والدول المجاورة إعادة النظر في سياساتهم الخاصة بإعادة اللاجئين إلى وطنهم. وحدها عملية سياسية بإمكانها عكس الخطط التي يرسمها النظام السوري لشعبه في مرحلة ما بعد الصراع وللجهود التي يبذلها للانخراط في الهندسة الديموغرافية. في المقابل، سيواصل النظام استخدام سياسات مابعد الحرب لإساءة معاملة السوريين وفرض حقائق جديدة على الأرض، محافظاً على سورية كمركز لعدم الاستقرار في المنطقة.