المصدر: Getty
مقال

عبثية الحرب الإسرائيلية على لبنان

لا تملك إسرائيل خيارات عسكرية كفيلة بتحقيق نتيجة أفضل من الحلّ التفاوضي أو العودة إلى الوضع القائم.

نشرت في ٢ يوليو ٢٠٢٤

في ظل احتدام التوتّر على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، يتوقع الكثير من المراقبين اندلاع الحرب قريبًا بين حزب الله والجيش الإسرائيلي. ففي 26 حزيران/يونيو، بدأت حكوماتٌ عدّة بدعوة مواطنيها إلى مغادرة لبنان. لا شك أنّ ثمة احتمالًا كبيرًا بحدوث بعض التصعيد على مدى الأسابيع المقبلة، لكننا في الوقت الراهن لم نصل بعد إلى المراحل النهائية من الاستعداد لحرب شاملة بين لبنان وإسرائيل.

 لماذا كان المتشائمون متأكّدين إلى هذه الدرجة؟ يُعزى السبب إلى إشاراتٍ ملتبسة صادرة عن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. فقد سمع وفدٌ إسرائيلي زار واشنطن مؤخّرًا تطمينات من مسؤولين أميركيين مفادها أن الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل بالكامل في حال نشوب صراعٍ مع حزب الله. دفع ذلك أحد المحلّلين إلى القول لصحيفةٍ لبنانية إن "الضوء الأحمر الأميركي ضدّ أي هجوم إسرائيلي تحوّل إلى اللون البرتقالي، وقد يصبح قريبًا ضوءًا أخضر". وتعزّزت هذه الحجج أكثر نتيجة التحذيرات الأميركية من أن حزب الله كان مخطئًا في اعتقاده أن واشنطن قادرة على منع إسرائيل من غزو لبنان.

 ربما هذه الأمور كلها صحيحة، لكن الأكثر ترجيحًا هو أن تصريحات إدارة بايدن تشكّل جزءًا من جهودٍ متضافرة لممارسة ضغوط أكبر على حزب الله ليكون أكثر مرونةً تجاه التوصّل إلى حلٍّ تفاوضي في المنطقة الحدودية. والسبب هو أن المسؤولين الأميركيين كرّروا مرةً تلو أخرى، كانت آخرها خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى واشنطن، أن اندلاع حرب لبنانية جديدة سيكون كارثيًا على لبنان وإسرائيل. وتخشى الولايات المتحدة من أن يؤدّي ذلك إلى إشعال حربٍ إقليمية أوسع تجرّ القوات الأميركية إلى الانخراط فيها. لذلك، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى نظيره غالانت إن "الدبلوماسية القائمة على المبادئ هي السبيل الوحيد لتجنّب المزيد من التصعيد في المنطقة".

 يعلم الرئيس جو بايدن كذلك أن الحرب على لبنان يمكن أن تقوّض أي فرصة لديه للفوز في الانتخابات الأميركية المقرَّرة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. فهي قد تُبقي الرئيس محاصَرًا بين جناحَي اليمين واليسار لحزبه الديمقراطي المنقسم في الأسابيع التي تسبق التصويت. ومن شأنها أيضًا أن تُفاقم تنفير الأميركيين العرب والتقدّميين، وأن تُشرذم الناخبين الديمقراطيين، وأن تُفضي إلى مستوياتٍ عالية من الامتناع عن التصويت في أوساط كتلٍ انتخابية معيّنة، ما يضرّ بحظوظ بايدن في الولايات المتأرجحة. ووفقًا لصحيفة واشنطن بوست، يتقدّم دونالد ترامب على منافسه بايدن في خمسٍ من الولايات المتأرجحة السبع التي ستحدّد على الأرجح نتيجة الانتخابات.

 مع ذلك، يعمَد الإسرائيليون وحزب الله إلى استعراض عضلاتهما في محاولةٍ لتفادي صراع أوسع. وبلغ منسوب الترهيب مستوياتٍ سُريالية. فقد هدّد أمين عام حزب الله حسن نصر الله بقصف قبرص إذا استُخدمَت قواعدها لشنّ هجمات على لبنان، فيما حذّر الوزير الإسرائيلي السابق بيني غانتس من أن إسرائيل قادرة على "إغراق لبنان في ظلام دامس وتدمير قوة حزب الله في غضون أيام"، في حال تم تعطيل شبكة الكهرباء في إسرائيل. لكن غانتس يجهل على ما يبدو أن كهرباء لبنان لا تؤمّن أساسًا سوى بضع ساعاتٍ قليلة من التيار الكهربائي يوميًا على الأكثر، في حين أن الجيش الإسرائيلي الذي عجز طوال ثمانية أشهر عن "تفكيك" قدرات حماس، لن يستطيع بالتأكيد فعل ذلك لحزب الله خلال أيام معدودة.

 يظهر جليًّا أن حزب الله وإسرائيل يخوضان لعبة "من يجبن أولًا" لتحديد من سيتراجع قبل الآخر، علمًا أن "أي شيء يمكن أن يسير بشكلٍ خاطئ". هذا ممكن بالتأكيد، لكن الحقيقة المُلفتة هي أن الاشتباكات بين الجانبَين بقيت محصورة عمومًا ضمن قواعد الاشتباك خلال الأشهر التسعة الماضية، وإن أقدَما أحيانًا على خرق الخطوط الحمراء لتعزيز قدرات الردع. لكن السؤال الحقيقي هو ما الذي يأملان في تحقيقه إذا قرّرا توسيع المعركة والخروج عن حدودها الحالية المُتّفق عليها؟

 في الواقع، يبدو أن إسرائيل لا تملك خياراتٍ عسكرية يمكن أن تحقّق نتيجة أفضل من الحلّ التفاوضي. أساسًا، ثمة نهجان واسعان يمكن للإسرائيليين اتّباعهما من أجل تهدئة مخاوف سكان شمال إسرائيل وتشجيعهم على العودة إلى ديارهم. الأول هو إخلاء المنطقة الحدودية من مقاتلي حزب الله، أو ضمان انسحاب أكبر عددٍ ممكن منهم، عبر إنشاء منطقة إطلاق نار حرّ في جنوب لبنان. قد يبدو هذا جيدًا من حيث المبدأ، لكنه الوضع الذي نعيشه راهنًا إلى حدٍّ بعيد، ولم يتحسّن أمن إسرائيل بشكلٍ ملحوظ. وسيردّ حزب الله من خلال شنّ هجمات فوق المنطقة على شمال إسرائيل وفرض ظروف مُقلقة هناك تُثني السكان عن العودة. ولا شكّ أن الحزب سيسعى إلى إرساء معادلة خاصة به ومفادها: لا سلام وأمن في شمال إسرائيل ما لم يتحقّق السلام والأمن في جنوب لبنان. ومن غير الواضح كيف يمكن لإسرائيل منع ذلك.

 أما النهج الثاني فيتمثّل في دخول الأراضي اللبنانية ومحاولة إرساء توازن جديد للقوى على طول الحدود. لكن ماذا يعني هذا فعلًا؟ إن لم تكن إسرائيل مستعدّة لاجتياح الجنوب اللبناني والبقاء فيه، وإنشاء منطقة أمنية جديدة على غرار ما فعلته بين منتصف السبعينيات والعام 2000، فقد تخلّف أي عملية عسكرية، حتى إذا افترضنا نجاحها، نتيجةً تُفضي إلى الإطاحة بالحكومة الإسرائيلية الضعيفة أساسًا. فالغزو المحدود النطاق يعني فقط أن حزب الله سيعود إلى المنطقة الحدودية عند مغادرة الإسرائيليين، في حين أن الاحتلال الطويل الأمد قد يُغرق الإسرائيليين في مستنقعٍ لبناني جديد بعد أن كانوا حريصين على الخروج من مأزق مماثل في العام 2000.

 يتزامن كل ذلك مع صدور تقارير في الصحف الإسرائيلية مفادها أن إسرائيل تفتقر إلى القدرات العسكرية اللازمة لخوض حرب على جبهات عدّة. فقد لفت الكاتب في صحيفة هآرتس زفاي بارئيل إلى أن إسرائيل تُواجه مشاكل متعلّقة بعدد القوات العسكرية في تنفيذ جميع المهامّ التي حدّدتها. وقال إن "العجز العميق في ميزانية رأس المال البشري في إسرائيل يتطلّب منها إعادة التفكير في عدد الحروب التي يمكنها التعامل معها - طالما أن هذا الخيار لا يزال متاحًا". في غضون ذلك، قد تكون شبكة الدفاع الجوي التي كثيرًا ما تتباهى بها إسرائيل عُرضةً للخطر، إذ حذّرت الولايات المتحدة من أنّ منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية قد لا تكون قادرةً على الصمود أمام ضربات حزب الله الصاروخية الضخمة. بعبارة أخرى، قد تتكبّد إسرائيل، على الرغم من تفوّقها العسكري، أضرارًا جسيمة في لبنان، ما قد يشكّل ضربة قاضية لحكومتها.

 لذا، فالنتيجة الأضمن للإسرائيليين هي ربما تلك التي يرفضونها بشدّة وتتمثّل في العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر والذي تم الحفاظ بموجبه على الاستقرار في الجنوب طيلة ثمانية عشر عامًا. هذا هو السيناريو الذي يفضّله حزب الله، بيد أن قبول حكومة نتنياهو به لن يشكّل فحسب اعترافًا بفشلها في تحقيق الأهداف المُعلنة للحرب، بل لن يفضي أيضًا إلى طمأنة مخاوف سكان شمال إسرائيل، ما سيدفع عددًا كبيرًا منهم إلى مغادرة المنطقة بصورة دائمة.

 إذًا، ما الذي يمكن أن يفعله الإسرائيليون؟ عادةً، عندما يقعون في معضلة كهذه، يكون ردّ فعلهم التلقائي تدميرَ كلّ شيء من دون تغيير شيء يُذكر. هذا ما حدث في لبنان خلال العام 2006 وما يحصل مجدّدًا في غزة، حيث أدّى افتقار الحكومة الإسرائيلية إلى خطة واقعية لمرحلة ما بعد الحرب إلى عرقلة الحملة العسكرية من خلال حرمانها من هدف سياسي محدّد. وحتى الجهود التي تبذلها إسرائيل لتدمير غزة من أجل إرغام السكان على مغادرة القطاع بصورة تدريجية، لن تحقّق النجاح على الأرجح.

 مشكلة إسرائيل هي اعتقادها أنها قادرة على تذليل كل الصعوبات التي تواجهها من خلال اللجوء إلى العنف. لكن هذا المنطق أفضى إلى تضاؤل المكاسب المُحقَّقة على مدى العقود الثلاثة الماضية. ومارست إيران وحزب الله ضغوطًا إضافية على إسرائيل، التي واصلت التملّص من أي حلٍّ للقضية الفلسطينية، وهو أمرٌ استغلّه أعداؤها الإقليميون لتعزيز مصالحهم الخاصة. لم يأخذ قادة إسرائيل ومجتمعها هذا العامل في الحسبان عندما أمعنوا في تجاهل الفلسطينيين طوال سنوات.

 وما لا يصبّ في صالح إسرائيل كذلك واقع أن حزب الله مستعدٌّ للقتال حتى آخر لبناني في سبيل الحفاظ على نفوذ إيران في المنطقة. في غضون ذلك، إذا أحجم الإسرائيليون عن قصف المدن والبنى التحتية اللبنانية، فمن المستبعد أن يخطو الحزب الخطوة الأولى في هذا المسار. ويعني ذلك أن النتيجة النهائية للمواجهات ستُحسم على الأرض في المنطقة الحدودية حيث تتركّز التوترات راهنًا.

 تدرك إسرائيل أن وقف إطلاق النار مع حزب الله يرتبط بوقفٍ دائم لإطلاق النار في غزة، وهذا أحد أسباب تردّدها في الموافقة على الطرح الأخير. فوقف الأعمال العدائية في غزة قد يدفع حزب الله إلى إنهاء عملياته العسكرية، وبالتالي سيصبح أصعب على إسرائيل فرض واقعٍ جديد في الشمال. لكن تحقيق ذلك يعني أن على إسرائيل أن تحدّد ما هي قدراتها. وتدلّ كل المؤشّرات على أن خياراتها قليلة. وقد تكون جعجعتها الخطابية ناجمة عن الإحباط الذي تشعر به لأن النتيجة الأكثر منطقية هي العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا في السابق. قد لا يقبل الإسرائيليون بذلك أبدًا، لكن في ظل الأوضاع الراهنة، ليست لديهم أي نهاية بديلة مقنعة لصراعهم الحدودي.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.