المصدر: Getty
مقال

السبيل نحو نجاح سورية

يجب اتّخاذ خطواتٍ لإرساء وضعٍ مستقر يسمح بإعادة إعمار البلاد ويُشرك المواطنين في صنع القرار.

نشرت في ١٨ نوفمبر ٢٠٢٥

يكاد يمرّ عامٌ على نجاح الثورة السورية في الإطاحة بالنظام السوري السابق غير المأسوف عليه، بعد أن احتكر السلطة لصالح فصيل دون غيره، وبعد أن نكّل بالشعب السوري وقتل مئات الآلاف منه كما شرّد الملايين. وممّا لا شك فيه أن وضع الحريات العامة في سورية اليوم تحسّن بما لا يُقاس عن السابق، ولم يعد السوريون، حتى الذين ينتقدون النظام الجديد من وسط دمشق، خائفين على أمنهم الشخصي. يُضاف إلى ذلك أن الوضع الخدماتي، من كهرباء ومواد غذائية وغيرهما، آخذٌ في التحسُّن وإن ببطءٍ مفهوم.

لكن المرحلة المقبلة بحاجةٍ إلى ما هو أكثر من ذلك حتى تصل سورية إلى وضعٍ مستقر يسمح بإعادة إعمار البلاد ويطمئن جميع السوريين والسوريات إلى أن صوتهم مسموعٌ، وأنّهم شركاء في صناعة القرار. يقول الكثيرون إن الحديث عن الديمقراطية في سورية سابقٌ لأوانه، وإن الوضع الحالي لا يسمح بمثل هذه الديمقراطية قبل أن يتحقّق قدرٌ من الاستقرار، وخاصةً على المستويَين الاقتصادي والخدماتي. ويُضيف البعض أن الرئيس الشرع لديه مشكلةٌ حقيقيةٌ في التعامل مع قاعدةٍ ساعدته في الوصول الى الحكم، هي جهاديةٌ عقائدية تضع عقيدتها فوق مصلحة سورية، بل لا تؤمن أصلًا بسورية وطنًا.

وبالتالي، سيبقى هذا الخلاف حول توقيت فتح النظام السياسي وإرساء نظامٍ تعدّدي تشاركي منفتح، قائمًا إلى حين. لكن المؤمل ألّا يكون هذا النقاش مدعاةً للاختلاف، بل المطلوب في النهاية خارطة طريقٍ تؤدي إلى مثل هذا النظام التعدّدي. فلا أسهل من بديلٍ آخر يتم فيه الانزلاق إلى حكمٍ سلطوي يبتعد عن الحوكمة الرشيدة، وينتشر فيه الفساد، وينتفع منه الأقرباء والأصدقاء على حساب باقي الشعب. فالتجربة العربية ليست واعدةً بعد أن أتت ثوراتٌ عدّة على الحكم مبشِّرةً فيها بالديمقراطية، ولم تحقّق منها شيئًا بعد عقود من استلامها السلطة، إلى أن انتهى بها الحال أسوأ من الأنظمة التي سبقتها.

إذًا، ومع إيماني أن موضوع الديمقراطية لا يمكن فصله عن الحوكمة الرشيدة أو عن خارطة طريق تؤدي إليه، إن شاء البعض أن يضع النقاش حول الديمقراطية جانبًا الآن، فلا أقلّ من أن نبحث في العوامل التي من شأنها المساعدة في تقدُّم سورية نحو الحوكمة الرشيدة والتعدّدية والتشاركية. ومن أهم هذه العوامل:

عملية إعادة إعمار سورية، التي ستحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات، فمن أين ستأتي هذه الأموال؟ الإدارة الأميركية تعلن صباحًا ومساءً أن الأموال لن تأتي منها، والدول الخليجية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، مهتمةٌ بشأنها الداخلي وليس لديها مثل هذه الأموال لتنفقها على سورية، وكذلك الاتحاد الأوروبي والمنظمات المالية الدولية.

واقع الحال أن إعادة الإعمار ستكون مسؤولية القطاع الخاص السوري في الدرجة الأولى. هذا القطاع متردّدٌ اليوم، ولديه ملاحظاتٌ عدّة على الإجراءات الاقتصادية للنظام الجديد. فالصناديق السيادية التي يتم إنشاؤها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الشفافية، إذ لا يُعرف كيف تُدار ولا يوجد نظامٌ رقابي عليها. ولم يعد سرًّا أن تجّار دمشق وحلب غير راضين عمّا يجري، بل إن بعض المصانع السورية قد أغلقت أبوابها اليوم.

إن تحقيق الشفافية في إعادة بناء سورية يحتاج إلى إرادةٍ سياسيةٍ واضحة لطمأنة القطاع الخاص أن استثماراته ستكون بمأمن. ويتطلّب ذلك نظامًا قضائيًا مستقلًّا، وقوانين مالية تضمن الشفافية وتحقّق الرقابة والمساءلة، وهذا كلّه ليس متوافرًا اليوم

يقتضي هذا الهدف أيضًا وحدةً وطنية سورية تتمثّل في الاتفاق على شكل الحكم. ليس سرًّا كذلك أن معظم أفراد الشعب السوري، وبغضّ النظر عن طوائفهم، لا يرغبون في دولةٍ إسلاميةٍ عقائديةٍ جهادية، بل يريدون دولة مدنية ذات قوانين وضعية؛ وأن موضوع إعادة الإعمار وضخّ استثماراتٍ كبيرة من القطاع الخاص داخل وخارج سورية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بشكل الحكم. فإن كان مقبولًا من مكوّنات الشعب السوري كافة كانت له فرصةٌ في النجاح، أما إن كان شكل الحكم ونظام حياة الشعب السوري مفروضًا من جهة عقائدية واحدة، فلن تتم مثل هذه الاستثمارات الضرورية.

هذه عوامل لا بدّ من البتّ بها، بعيدًا عن جدلية الديمقراطية السياسية وتوقيت الانفتاح السياسي والحياة النيابية الحزبية. ومن دون انتفاء حاجة أيّ مجتمعٍ لمثل هذه الحياة النيابية الحزبية الحقّة، فأقلّ الإيمان ريثما يتحقّق ذلك أن يتم الانتباه إلى العوامل المذكورة أعلاه لتعظيم فرص الوصول إلى مجتمعٍ تعدّدي تشاركي ينتج استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.