المصدر: Getty
مقال

التحوّل بعيدًا عن إسرائيل

على العرب استخلاص الدروس من التغيّر في مكانة الدولة العبرية داخل الحزبَين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة.

نشرت في ١٣ نوفمبر ٢٠٢٥

تزداد المؤشرات على التحوّل الذي يحصل في المجتمع الأميركي بعيدًا عن إسرائيل وبوتيرة منتظمة ومتسارعة. وقد شهدتُ بعيني بعض هذه المؤشرات بعد زيارةٍ للولايات المتحدة استمرّت ثلاثة أسابيع. أبدأ بانتخاب زهران ممداني عمدة لمدينة نيويورك. من كان يتصوّر أنّ شابًا مسلمًا في الثانية والثلاثين من العمر، من أصول هندية وأفريقية، متزوجًا من امرأة سورية، يستطيع التغلّب وبفارق كبير على عمدة نيويورك السابق، الأبيض المتمرّس والمتحدّر من عائلة نيويوركية معروفة، كما على منافسٍ جمهوري آخر أبيض كذلك. وعندما سُئل المرشّحان في مناظرةٍ عامة عن الزيارة الخارجية الأولى التي ينويان القيام بها في حال انتخابهم، سارع الجميع، إلّا ممداني، إلى القول إنها ستكون لإسرائيل. أما ممداني، فقال إنها ستكون للمناطق المختلفة في نيويورك، باعتبارها همّه الأول. ويعتقد مراقبون كُثر أن هذا الجواب حسم الأمر لصالح ممداني في أوساط الكثير من الناخبين المتردّدين.

لم يكن هذا ليحدث قبل سنوات قليلة. صحيحٌ أن الكثير من الناخبين صوّتوا لصالح ممداني لسياسته تجاه نيويورك، وليس لموقفه المنتقد لإسرائيل، ولكن صحيحٌ أيضًا أن أكثر من ثلاثين في المئة من اليهود الأميركيين، في عقر دار اليهود في الولايات المتحدة، صوّتوا لممداني: بعضهم صوّت له لأسباب خدماتية تتعلّق بنيويورك، وبعضهم صوّت له، خصوصًا الشباب، لأسباب قيمية لها علاقةٌ بالسياسة الإسرائيلية العنصرية تجاه الفلسطينيين، وبعضهم صوّت له من اليهود المتديّنين غير المؤمنين بدولة إسرائيل. لم يعد التصويت لمن يؤيّد إسرائيل بشكل أعمى، ولا سيما لدى الشباب الأميركي بمن فيهم اليهود، حقيقةً مسلّمًا بها. هذا التحوّل، خاصة لدى الشباب من الحزب الديمقراطي، آخذٌ في الامتداد بشكل يتجاوز انتخابات عمدة نيويورك، ويذكّرنا بذلك إعلان الرئيسة السابقة لمجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، عن تقاعدها هذا الشهر.

للتذكير، كانت بيلوسي من أشدّ الداعمين لإسرائيل ولعقودٍ طويلة، لكن السياسات المتطرّفة لنتنياهو، يضاف إليها التحوّل الذي يجري بعيدًا عن إسرائيل في الأوساط الشبابية في الحزب الديمقراطي، ولا سيما في ولاية كاليفورنيا التي تمثّلها بيلوسي، ساهما إلى حدٍّ كبير في تحوّل ملحوظ لها، بعيدًا عن سياسات حكومة إسرائيل في السنوات الأخيرة. لم تكتفِ نانسي بيلوسي بانتقاد سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بل انتقدت أيضًا منظمة "أيباك" (AIPAC)، اللوبي الصهيوني القوي في الولايات المتحدة، إلى حدّ الدعم العلني للوبي المُعارض "جي ستريت" (J Street)، والمؤيّد لحلٍّ سلمي بين الفلسطينيين وإسرائيل. وقد أصبحت ظاهرة المرشحين الديمقراطيين للكونغرس والمجاهرين بعدم قبولهم أيّ تبرعات من "أيباك" تزداد باطّراد.

لم أحلم يومًا، وأنا أتابع السياسة الأميركية للشرق الأوسط، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، أن يأتي مثل هذا اليوم، الذي يصبح فيه عدم قبول تبرعات من "أيباك" علامة فخر لمرشح أميركي! يكاد لا يمرّ أسبوعٌ الآن، إلّا وتخرج أعدادٌ كبيرة من الأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس برسالة تنتقد الإجراءات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. أما من ناحية الحزب الجمهوري، فثمة أيضًا بداية تحوّل بعيدًا عن إسرائيل، ولو لأسباب مختلفة. لقد راهنت إسرائيل في العقود الأخيرة على اليمين المسيحي المتطرّف في الولايات المتحدة، لدعم سياساتها بناءً على أسباب عقائدية مرتكزة على قراءة خاطئة للدين المسيحي، وبتجاهل واضح للسياسات العنصرية الإسرائيلية. نشهد اليوم مواقف من بعض قيادات هذا اليمين المتطرّف ضدّ إسرائيل، ما بدأ يؤشّر على خطأ هذا الرهان.

ثمة قيادات مهمة لهذا اليمين مثل عضو الكونغرس مارجوري تايلور غرين، والمذيع التلفزيوني تاكر كارلسون وكبير استراتيجيي الرئيس الأميركي ترامب في ولايته الأولى، ستيف بانون، ممّن يقفون اليوم ضدّ العلاقة الأميركية الإسرائيلية، اعتمادًا على مبدأ تفضيل المصالح الأميركية على المصلحة الإسرائيلية. ولعلّ أوضح ما يعبّر عن هذه الآراء ما صرّح به مؤخرًا أحد غلاة هذا اليمين المتطرّف وهو نيك فوينتس، بأن ولاءه "للمسيح أولًا ولأميركا دائمًا"، وأن على الأميركيين المسيحيين ألّا يستجيبوا لدعم أي دولة أجنبية (يقصد إسرائيل) مهما كانت ضغوط الإدارة الأميركية في واشنطن. صحيحٌ أن هذا الموقف، الذي تعبّر عنه منظمة MAGA (لنجعل أميركا عظيمة مجدّدًا) لا يعبّر بالضرورة عن موقف الحزب الجمهوري، ولكنه مكوّن مهم داخل الحزب لا يمكن تجاهله.

كل هذه مؤشّرات على تحوّل تدريجي، ولكن متزايد، بعيدًا عن إسرائيل وعن مكوّنات كبيرة داخل الحزبَين الديمقراطي والجمهوري، حتى إن اختلفت الأسباب. يجب على العرب استخلاص الدروس المناسبة من هذا التحوّل وتوظيفه للصالح العربي.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.