أ- مقدمة
بعد مضي أربعة أعوام على الاجتياح الأميركي وسقوط نظام صدام حسين، يتخبط العراق في مستنقع مسدود الآفاق أمام مفترقين واتجاهين لا ثالث لهما: فإما أن يتطوّر العنف الطائفي إلى حرب أهلية واسعة النطاق أو يتحوّل الصراع الدائر إلى سياسة مؤسسية مسالمة. وفي هذا السياق، جاءت الاستراتيجية الأميركية المعلن عنها في 10 كانون الثاني/يناير 2007 بمثابة محاولة أخيرة لكسر الجمود والحؤول دون تصاعد النزاع ودفع البلد باتجاه حل سياسي حاسم. وفي هذه الدراسة، سنسلِّط الضوء على مدى عملانية الاستراتيجية الأميركية الحالية وقابليتها للتطبيق في إطار العوامل المحلية (العراقية) والإقليمية والدولية.
منذ استهداف المقامات الشيعية المقدسة في سامراء في شباط/فبراير 2006، انزلق العراق إلى حرب أهلية طائفية متوسطة المدى استعرت نيرانها بشكل خاص في بغداد. واليوم، يستمر العنف الموجّه ضد قوات التحالف، فيما يستشري الإجرام الخارج عن القانون بلا هوادة، لكن ما يؤجج العنف في المقام الأول هو الصراع الشيعي السني على السلطة في بغداد وضواحيها. فقد حال هذا الصراع الطائفي دون تقدم المسيرة السياسية الإيجابية منذ انطلاقتها المتميزة في العام 2005، وقوّض الثقة في السلطات المركزية والجهات الدولية الداعمة لها ورسّخ الاتجاهات والميول المتطرفة والناشطة في المعسكرين السني والشيعي على حد سواء، كما تسبّب على الصعيد الإنساني برحيل مئات الآلاف من الأسر خارج بغداد وهجرة أكثر من مليوني شخص بشكل عام، وقد بات هذا الصراع يشكّل أكبر أزمة تشريد ولجوء في تاريخ المنطقة منذ العام 1948، من جهة أخرى، أضعف الصراع الطائفي المتواصل الاتجاهات الوسطية وعكس التقدم السياسي المحرز منذ العام 2005. كما زعزع مؤسسات السلطة الناشئة، ما استدعى تدخلاً إقليمياً عدائياً.
وما من شك في أنّ الأسباب الكامنة وراء الصراعات الدائرة حالياً تعود بمعظمها إلى ما قبل الاجتياح الأميركي لكنها تفاقمت وازدادت حدة تحت وطأة الديناميكيات الناجمة عن سوء إدارة الاحتلال والسياسات الانتقالية المنقوصة. فمنذ العام 2005، كرّس الاحتلال على أرض الواقع هيمنة الشيعة والأكراد على العملية وما ترتب عن ذلك من تهميش للعرب السنة، أما الأطراف العراقية المختلفة فكانت وستظل تتزاحم للسيطرة على توزيع الموارد وركائز السلطة السياسية في العراق ما بعد صدام.
أضعف العنف المتصاعد المعتدلين في المجتمع عامة وداخل الأحزاب السياسية الكبرى خاصة، في حين أدّت هجرة أصحاب الاختصاص ورجال الأعمال والمفكرين من الطبقة الوسطى إلى الدول المجاورة، الى شلّ المجموعات الاجتماعية التي تعترض على سياسة الإكراه الوحشية وترنو إلى استتباب الأمن وتأكيد القومية الوطنية العراقية المشتركة. وحتى داخل الأحزاب نفسها، انكسر القادة الوسطيون أمام الأصوات الأكثر تطرفاً وتشدداً (على غرار جيش المهدي التابع للصدر الذي جاهر بادئ الأمر بخطاب قومي وطني عراقي قبل أن يتبنى آخر مرتكزاً على الانتقام الشيعي الطائفي). واليوم، يتنافس جيشا بدر والمهدي على ما يبدو لإثبات جدواهما كميليشيتين مناهضتين للسنة؛ في حين رسخت المجموعات السنية مراجعها الطائفية وتبنت مواقف متشددة رداً منها على تصاعد التوتر الطائفي. باختصار، يُعزا تدهور الوضع إلى بروز التطرف الإسلامي الناشط في صفوف الشيعة والسنة. وفي السياق عينه، جاء إشراك المتطرفين في الحكومة (مثل جيش المهدي) ليضخ توجهات متطرفة وطائفية في صفوف الجيش وعناصر الشرطة، في تحوّل قوّض شرعية هذه المؤسسات الأمنية وفعاليتها، وقد دوّت هذه الهزات الارتدادية عبر المنطقة فكادت تغرق لبنان في فتنة سنية شيعية في شتاء العام 2007 وأذكت المخاوف من نشوء اضطرابات طائفية في سورية والسعودية ودول خليجية أخرى.
إزاء هذا الوضع، كشف الرئيس جورج دبليو بوش في كانون الثاني/يناير 2007 النقاب عن سياسة جديدة حول العراق[1]، عن خطة قوامها رفع عديد القوات الأميركية ولاسيما في بغداد بغية سحق التمرد وإرساء الأمن أقله في العاصمة، مع الاستمرار في تدريب الجيش والشرطة وتزويدهما بالعتاد اللازم وإشراكهما إشراكاً مباشراً في العمليات الأمنية. كما أعلن أنّ "الحكومة العراقية تعتزم تسلّم مسؤولية الأمن في المقاطعات العراقية كافة بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2007"، وتضمّن هذا التحوّل لهجة أكثر تشدداً حيال إيران وسورية المتهمتين بدعم الإرهابيين ومساندة القوى التي تهاجم القوات الأميركية. ولم تعكس هذه السياسة توجهاً إلى تلافي أي انهيار على الطريقة الصومالية فحسب، بل حملت في طياتها الأمل في عكس التقهقر المسجل في العام المنصرم. لكنّ مصير هذه الإستراتيجية يبقى متوقفاً على القيود التي فرضها التلازم بين العوامل المحلية والإقليمية والدولية. والحق أنّ هذه الاستراتيجية لا تزال تواجه سلسلة من العوامل المتداخلة المحرِّكة للنزاع.
-أ- العملية الانتقالية: معضلات وأخطاء
شكّل اجتياح العراق واحتلاله التحدي الأكبر الذي واجهته الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية لجهة بناء الأمة، فالولايات المتحدة، وعلى الرغم من تخطيطها المشتت وفهمها المنقوص للتعقيدات السياسية والثقافية العراقية، باشرت مهمة شاقة تمثلت باجتياح العراق وتفكيك بنى السلطة القديمة فيه وإصلاح حكمه السياسي واقتصاده ومجتمعه في ضوء الديمقراطية المرتكزة على السوق الحر. غير أنّ الوقائع الميدانية العراقية فرضت تحديات لم تكن في الحسبان، إذ أنّ النظام العراقي قام على الإيرادات النفطية والاقتصاد الموجَّه والتعبئة الجماهيرية القمعية وسياسة المحاباة وسط مواطن توتر واضطراب زادتها الحروب والعقوبات حدة. أما بنى السلطة السياسية فارتدت طابعاً خاصاً وتأزمت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب أي قوى اجتماعية قادرة على إحداث التغيير المرجو وعدم توافر أي بيئة إقليمية داعمة لمثل هذا التغيير.
بعد نصف قرن من الحكم العسكري الشمولي، خرج العراق مثقلاً بإرث شائك من الحروب المدمِّرة والعقوبات المضنية وتخلّف الحكم وسوء إدارة الاقتصاد المرتكز على النفط بشكل أساسي وتفشي المحاباة والفساد، الأمر الذي استنزف موارد الدولة ودمّر مجتمعها المدني الذي كان في ما مضى نابضاً بالحياة واختزل مؤسسات الحكم بأشخاص وترك الدولة منقسمة أشد انقسام. وعقب أفول النظام البعثي، فُتح المجال واسعاً أمام بروز سلسلة من القوى الاجتماعية والسياسية والمؤسسية والثقافية، وسارعت الفصائل المختلفة إلى قولبة النظام السياسي وإعادة تحديد المؤسسات الوطنية وفقاً لمصالحها الخاصة بما يتيح لها معالجة المظالم أو استعادة الامتيازات؛ بعبارة أخرى، لم تكن الظروف مؤاتية لبروز حياة سياسية ديمقراطية مستقرة.
من جهتها، وضعت سلطة التحالف المؤقتة تصوراً ديمقراطياً قائماً على السوق الليبرالي الحر والبنى الفدرالية اللامركزية للمرحلة الانتقالية ما بعد النزاع، وفي حين أتاحت المرحلة الانتقالية فرصة تاريخية لإعادة هيكلة نظام الحكم العراقي ومفهوم الدولة الأمة، تَكشَّفت في الوقت عينه عن التصدعات السابقة وفجّرت عدداً من قوى النزاع الخامدة. والمفارقة أنّ فهم الأميركيين لتحديات هذه المرحلة الانتقالية ارتكز على منظار محدود جداً لم يستوعب طريقة عمل النظام العراقي الاستبدادي السابق، وقد ازداد الوضع سوءاً بسبب غياب التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب وعدم استعداد القوات الأميركية لمعالجة الوضع بعد الحرب. أما الإصلاحات الهادفة التي تبنتها السلطة تحت إشراف السفير بول بريمر الثالث، ولاسيما الإسراع في حلّ الجيش وفعلياً الدولة البعثية برمتها فوُصف على أنه أكبر الأخطاء الفادحة المرتكبة – ناهيك عن تجاهل انعكاسات الاحتلال وتبعاته على المنطقة، ومما لا شك فيه أنّ العملية الانتقالية التي دخلت الآن مرحلتها الرابعة راحت تارة تمضي قدماً وطوراً تتراجع على نحو متقطع وبدت بعيدة كل البعد عن السير في اتجاه واحد سلس.
أ- المراحل الانتقالية
ب- المرحلة الأولى: بريمر وسلطة التحالف المؤقتة تحت سيطرة أميركية
تشكلت في هذه المرحلة الممتدة بين أيار/مايو 2003 وحزيران/يونيو 2004 سلطة التحالف المؤقتة لتحل محل السلطات العراقية بعد الإطاحة بصدام وسقوط العراق، وقد خضعت هذه السلطة لقوات التحالف وترأسها بول بريمر الذي بادر فور تسلّمه مهامه إلى حلّ الجيش العراقي والكيانات الأخرى في الدولة البعثية. وفي حزيران/يونيو 2003، عُيِّن مجلس حكم عراقي اختير أعضاؤه المقرَّبون من الولايات المتحدة بعناية بالغة لمعاونة سلطة التحالف المؤقتة وتقديم المشورة لها. وفي أيلول/سبتمبر، تطوّر هذا المجلس إلى حكومة أُسندت إلى وزرائها المعيَّنين حقائب وزارية مختلفة لكنّها ظلّت تابعة لسلطة التحالف المؤقتة من دون أن تتمتع بأي استقلالية. وفي آذار/مارس 2004، صدر دستور عراقي مؤقت أعدّته سلطة التحالف المؤقتة بالتعاون مع القادة العراقيين المقرّبين منها، وبموجب هذا الدستور الانتقالي، سلّمت سلطة التحالف المؤقتة في حزيران/يونيو 2004 السلطة السياسية رسمياً إلى حكومة عراقية مؤقتة.
وخلال هذه المرحلة، تبنت سلطة التحالف المؤقتة قرارات جذرية مثيرة للجدل سعت من ورائها إلى تفكيك النظام السابق (من خلال حلّ أجهزة الدفاع والأمن ووزارة الإعلام واجتثاث البعث بشكل واسع) وتكريس لامركزية الدولة وتحرير الاقتصاد، ما أفضى إلى فراغ سياسي وسلطوي. قبل الحرب، قاربت نسبة العناصر الأمنية إلى المدنيين 34 بالألف قبل أن تهبط تالياً إلى أقل من 3 بالألف، وفي ظل الظروف الناشئة حديثاً، برزت على الساحة قوى خطيرة تصعب السيطرة عليها. وفجأة، أصيبت القدرات الإستخباراتية بشلل الكامل، أما سلطة التحالف المؤقتة التي لم تكن مستعدة البتة لبسط الأمن في الداخل ولا حتى لحماية الحدود غير المُحكمة، فدمّرت سيادة العراق لكنّها فشلت في إيجاد أدوات ملائمة لضمان أمن هذا البلد المحتلّ وإدارته.
وتسلل الشعور بالوهن العراقي إلى المجالات السياسية، ما أحزن حتى أولئك الذين كانوا يساندون الإطاحة بالنظام السابق، فعمدت القوى المعادية المنبثقة من الحزب الحاكم المخلوع والإسلاميون المحليون والمجموعات المتطرفة الأصولية الغريبة (مثل القاعدة) الى شنّ حملة مسلحة لطرد قوات الاحتلال وإعاقة أي عملية انتقالية سلسة بإدارة أميركية. وفي غمرة هذه الفوضى، منيت سلطة التحالف بفشل ذريع، إذ أخفقت في بسط الأمن وتوفير الخدمات العامة الأساسية، وأمام العنف المتصاعد تداعت الخطط الآيلة إلى بناء جيش جديد وتعثّرت محاولات تشكيل حكومات محلية مُنتخبة بحرية في المقاطعات.
وما لبث أن انقسم البلد بين فريقين آثر أحدهما - وإن على مضض - التعاون مع القوات الأميركية دعماً لهذه المرحلة الانتقالية، فيما عمل الفريق الثاني ضدها. وعلى الرغم من أنّ السواد الأعظم من الشعب العراقي كان ولا يزال يميل إلى عملية انتقالية سليمة تحت مظلة المؤسسات، صعَّدت المجموعات المتطرفة، التي ارتضت العنف شعاراً لها، عملياتها المسلحة، واهتزّ الدعم العام للعملية الانتقالية بقيادة سلطة التحالف المؤقتة في مد وجزر رداً على إخفاقات قوات التحالف أو نجاحاتها كما على استحسان تحركات المتمردين أو نبذها.
باختصار، توصّلت سلطة التحالف إلى تفكيك الهيكليات السابقة بسهولة فائقة لكنّها لم تستبدلها بأخرى جديدة، فكيف بالأحرى تقويتها وضمان استقرارها! ولم تؤتِ الخطة الأولية القائمة على التطهير فالإصلاح ثمارها؛ ومن هنا اعتُبر نقل السيادة في العام 2004 أول تصحيح مهمّ في منتصف الطريق يُتخذ على أمل إضعاف المعارضة وسحق الدعم الممنوح للتمرد وإيجاد سبيل جديد للمضي قدماً – علماً أنّ هدفها الأساسي كان عرقنة العملية وتشريعها. ولعل التغيير الملموس الوحيد تمثل بصياغة القانون الإداري الانتقالي الذي مهّد لإجراء الانتخابات وصياغة الدستور.
ب- المرحلة الثانية: حكومة أياد علاوي المؤقتة
تشكلت خلال هذه المرحلة الممتدة من حزيران/يونيو 2004 حتى نيسان/أبريل 2005 حكومة انتقالية ترأسها أياد علاوي وتمثل إنجازها الأبرز بإجراء انتخابات عامة في كانون الثاني/يناير 2005، في ما وُصف بالخطوة الملموسة الأولى باتجاه إعادة إرساء الشرعية العراقية، وانتهى الأمر بالكتل الشيعية والكردية بانتزاع تمثيل مغالٍ في البرلمان الجديد نظراً لعدم إقبال السنة على المشاركة في الانتخابات بكثافة. وفي موازاة هذه التطورات السياسية، حقّق المتمردون الذين استهلوا عملياتهم باستهداف السفارة الأردنية ومقر الأمم المتحدة في آب/أغسطس 2003، تقدماً ثابتاً، فيما تبين أنّ الحرب التي أعلن بوش انتهاءها في أيار/مايو 2003 قد اندلعت للتو. وإذ سعت قوات التحالف جاهدة إلى تحييدها، واصلت المجموعات المتمردة استهداف قوات التحالف ومؤسسات الحكومة العراقية وموظفيها من دون أن توفِّر المدنيين، وبعبارة أخرى، كانت هذه المرحلة علامة من علامات التقدم السياسي رغم تدهور الوضع الأمني.
وكانت الأمم المتحدة ممثلة بالدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي توسّطت لتشكيل حكومة علاوي في حزيران/يونيو 2004 في خطوة أرادتها لتُسبغ على الحكومة الشرعية الإقليمية والدولية، لكنّ عملية نقل السيادة كانت لا تزال في تلك الفترة موضع جدل، وارتكزت شرعية الحكومة الجديدة في الداخل على إجراء انتخابات عادلة وإرساء الأمن. وبالفعل، أجرت الحكومة الانتخابات الموعودة لكنّها فشلت في بسط الأمن؛ فقد تحدى 8.5 ملايين ناخب انعدام الأمن وشاركوا في الانتخابات المنعقدة في كانون الثاني/يناير 2005 موجِّهين بعملهم البطولي هذا ضربة سياسية قاضية إلى منطق العنف. بيد أن الانتخابات أثمرت نتائج إيجابية محدودة، إذ همّشت السنة وغالت في تمثيل الشيعة (ولاسيما التحالف العراقي الموحد)، ما ساهم في تعزيز المجموعات الإسلامية والرافضة بين العرب السنة، ونزع الشرعية عن العملية الديمقراطية كسبيل إلى تشاطر السلطة بصورة عادلة، ورسَّخ منطق اللجوء إلى القوة لمواجهة الإجحاف المؤسسي الظاهر. وفي نيسان/أبريل 2005، انتخب البرلمان الزعيم الكردي جلال طالباني رئيساً للبلاد وأقرّ حكومة تحالف جديدة برئاسة إبراهيم الجعفري.
ب- المرحلة الثالثة: الانتخابات المباشرة وإرث إبراهيم الجعفري
ارتبطت هذه المرحلة الانتقالية الثالثة بحكومة الجعفري التي تسلّمت مقاليد الحكم من نيسان/أبريل 2005 حتى أيار/مايو 2006 شكّل خلالها البرلمان لجنة لصياغة دستور دائم جديد للعراق، وهو دستور تمت المصادقة عليه في استفتاء وطني في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه واستُتبع بانتخابات تشريعية جديدة في كانون الأول/ديسمبر. لكنّ التمرد اشتد خلال هذه الفترة واتسعت رقعة انعدام الأمن، وسلك الصراع منعطفاً مأساوياً جديداً في شباط/فبراير 2006 مع تفجير المقامات الشيعية المقدسة في سامراء؛ فالصراع الذي بدأ نضالاً مناهضاً للاحتلال تطوّر إلى حرب أهلية طائفية بلا هوادة بين السنّة والشيعة، إذ انخرطت الميليشيات وفرق الموت في العنف المتصاعد ضد المدنيين وفي التطهير الطائفي.
إلى ذلك، برز ميل حكومة إبراهيم الجعفري، وهي الأولى التي تتمخض عن انتخابات حرة، الى انتهاج حكم الغالبية بالمبدأ والممارسة. ولاقى الجعفري، استناداً الى نهجه الشمولي المستبد وعلاقاته بإيران، معارضة الوسطيين الأكراد والشيعة كما المعتدلين السنّة. وكان إشراك فصيلة رجل الدين المتطرف مقتدى الصدر في الحكومة العراقية مسألة شائكة، إذ منح المجموعة صوتين: واحد في الشارع من خلال الميليشيا وآخر في الحكومة، ما زعزع مصداقية الحكومة والدولة في آن.
هذا ولم تكن صياغة الدستور الجديد وإقراره موضع إجماع وطني. فقد شعرت مجموعات وقيادات سنّية عدة أنّها غير ممثلة على أكمل وجه في صياغة الدستور، كما اعترضت من حيث المضمون على الفدرالية الشاملة المكرسة والغموض الذي يكتنف الدستور الجديد لجهة تقاسم إيرادات النفط. ونتيجة لذلك، رفضت المقاطعات السنية الدستور بنسبة مرتفعة فاقت 81% في صلاح الدين و96% في الأنبار. والواقع أنّ غالبية السنة أبدت التزامها بالعملية السياسية حين شاركت في الاستفتاء لكنها أعربت عن رفضها الدستور المقترح عندما صوتت بالنفي، أما الأقلية السنية النافذة وفي عدادها المتمردون السلفيون فنبذت العملية برمتها ومضت في حربها الطائفية.
أظهر المتمردون أنّهم عازمون وقادرون على اللجوء إلى أقصى درجات العنف بغية الحؤول دون تكريس الوضع السياسي الراهن الجديد بعد الانتخابات، وسعوا إلى تقويض العملية الدستورية والانتخابات التي تلتها. وسرعان ما تطوّرت الأحداث إلى صراع طائفي مع استهداف المقامات الشيعية المقدسة في سامراء في شباط/فبراير 2006، إذ ردت حركة الصدر على هذا التحدي الطائفي بالمثل وشنت هجمات طائفية مضادة، فانزلقت السياسة المؤسسية إلى انتقام منافٍ للقانون، خدمةً لأهداف الأعداء أنفسهم.
بدد العنف المستعر مجدداً الآمال المعقودة على المحاولات التي انطلقت بين العامين 2004 و2005 لتشريع العملية من خلال صناديق الاقتراع وعرقنة المهام الأمنية. نتيجة لذلك، تفتّت الحركة الوسطية الواهنة أصلاً وشُرِّع الباب على مصراعيه أمام غياب القانون والعنف وموجات الهجرة الجماعية.
أما حكومة الجعفري فخلّفت إرثاً متناقض النتائج؛ فمن جهة، دفعت العملية السياسية قدماً وحثّت القوى الوسطية السنّية على المشاركة في الحكومة والعملية الدستورية ثم الاستفتاء والانتخابات العامة، لكنّها كرست في المقابل هيمنة تحالف كردي شيعي على مهمة صياغة الدستور الذي رفضه السنّة، ما صبّ في مصلحة الرافضين السنّة المتطرفين.
وإن كان العام 2004 عام نقل السيادة والعام 2005 عام كسب الشرعية عن طريق الانتخابات، جاء العام 2006 ليشهد انزلاقاً نحو نزاع مدني مسلح.
ب- المرحلة الرابعة: الطريق السياسي والأمني المسدود في ظل حكومة المالكي
في بداية هذه المرحلة، تسلّمت حكومة نوري المالكي السلطة بعد مفاوضات طويلة تُوِّجت في أيار/مايو 2006، لتغدو بذلك الحكومة الأولى التي تتولى مهامها في العراق الجديد على أساس دستور وطني وعقب انتخابات جديدة. غير أن المالكي ورث وضعاً صعباً بلغت فيه العملية السياسية طريقاً مسدوداً لاعتراض شريحة كبيرة من السنّة على الدستور وما أنتجه من مؤسسات وإجراءات حول السلطة، كما تدهور الوضع الأمني بصورة ملموسة، إذ عاثت الميليشيات وفرق الموت دماراً في العاصمة وكبرى المدن الأخرى. في موازاة ذلك، عجزت الحكومة عن التحرك بفعالية على الجبهة الأمنية لعدم جهوزية القوات المسلّحة جهوزية كاملة والأهم من ذلك، لأنّ ميليشيات عدة ناشطة ميدانياً، على غرار جيش المهدي مثلاً كانت ممثّلة بوزراء في الحكومة. عليه، لم تعتبر الحكومة حيادية، بل طرفاً في النزاع أو في أفضل الأحوال وجدت عاجزة عن ضبط فصائلها.
وازداد وضع الحكومة سوءاً في خضم المصاعب التي واجهتها إدارة بوش في الداخل قبل انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2006 وصدور تقرير بايكر هاملتون. عندئذٍ، شعرت المجموعات المتمردة أنّ استراتيجيتها تؤتي ثمارها وتهزّ العزم السياسي الأميركي، في حين أدركت الفصائل الموالية للحكومة أنّ الالتزام الأميركي بمحاربة التمرد، السني بغالبيته، محدود، فرد البعض بتعبئة ميليشياته وتولي زمام الأمور بنفسه.
حتّى أن رئيس الوزراء المالكي نفسه بدا عاجزاً عن إدارة هذه التناقضات وتحسين الوضعين السياسي والأمني. وبنهاية العام 2006، بدا الوضع في العراق قاتماً فكان أن أعلن الرئيس بوش في هذا الإطار عن سياسته الأمنية القائمة على إرسال المزيد من الجنود إلى العراق.
أ- إعادة توجيه السياسة
أقر بوش حين أعلن في 10 حزيران/يونيو 2007 عن خطته الأمنية الجديدة، بفشله الجزئي وبعدم صحة عدد من الفرضيات الأولية، ومنها:
· يكمن التحدي الرئيس في تمرد سنّي متجانس. لكنْ، تبين أن التحدي الحقيقي يتجسد في التطرف السني الشيعي والإرهاب المستورد وعالم عصابات "المافيا" السري.
· العملية السياسية كفيلة بسحق التمرد وإحباط المتمردين، لكن العملية الدستورية المنقوصة وهيمنة الغالبية زادتا الصراع حدة، ما أدى إلى تآكل الوسط المعتدل.
· العملية الانتخابية مرشحة لاستقطاب السنّة، لكن هذه الشريحة المؤثرة مُنيت بخيبة أمل بسبب نتائج الانتخابات، ما أفسح المجال أمام المتمردين لكسب بعض التأييد من خلال التشكيك بالعملية السياسية وفرض إستراتيجيتهم الطائفية.
· يمكن تدريب وتجهيز جيش وطني وقوة شرطة في الوقت المناسب لمجابهة التهديدات الناشئة. لكنّ هذه التهديدات فاقت التوقعات، في حين تقدمت عملية التدريب والتجهيز ببطء، وقد واجهت القوات الجديدة مخاطر عدة، منها التسلل والفساد والمخططات الطائفية.
· الحماسة التي أبداها العراقيون إزاء "التحرير" و"الديمقراطية" ستلقي بظلالها على المخاوف الأمنية وإعادة الإعمار، ولكنْ، سرعان ما برز التحرير في تصور الناس بصورة الاحتلال، وفي حين رحّب البعض بالنتائج الديمقراطية فقد رفض البعض الآخر هذه النتائج، وما لبثت المخاوف الأمنية أن طغت على أي موضوع آخر.
· المصالحة الوطنية وصياغة الدستور الجديد مهمتان شاقتان لكن ممكنتان؛ وفي الواقع، لم تتحقق المصالحة الوطنية بعد صياغة الدستور وبدأت الدولة العراقية تتفكك إلى مكونات ثانوية إثنية وطائفية.
· ستتمكن قوات التحالف ودولة عراقية أعيد بناؤها من احتواء نفوذ القوى الإقليمية، ولاسيما إيران وسورية، لكنّ احتكار السلطة العسكرية لم يتحقق على أرض الواقع، وتعاظم النفوذ الإيراني والسوري في العراق من خلال وسطاء وموالين نافذين.
وإن كانت اللائحة غير وافية لكنّها تُظهر إلى أي مدى لم تكن الفرضيات، وبالتالي الإستراتيجية الأميركية المتبعة، مطابقة للواقع المرير على الأرض. عليه، حثّ تقرير بايكر هاملتون على مراجعة الاستراتيجية الأميركية وعلى الإقرار علناً بما سبق لكثيرين في إدارة بوش أن اعترفوا به في المحافل الخاصة. ومن هنا جاءت الاستراتيجية الأمنية ثمرة غير مباشرة لهذه المراجعة وإقراراً بالإخفاقات السابقة.
-أ- معالم الاستراتيجية الأمنية
عندما أعلن بوش عن خطته الأمنية في كانون الثاني/يناير 2007، حوّل الجسم الإعلامي والرأي العام أنظارهم بشكل خاص إلى الشق العسكري – أي التعهد بإرسال قوات إضافية لقمع التمرد - رغم أنّ هذه الخطة كانت تنطوي على مكونات أخرى سياسية ودستورية وقانونية وإقليمية.
تُركِّز الحملة العسكرية على بغداد وضواحيها فضلاً عن مقاطعة الأنبار التي وصفها الرئيس الأميركي بوش بـ "معقل" القاعدة، وتتضمن هذه الحملة النقاط التالية:
· نشر 20 ألف جندي أميركي إضافي في العراق سيعمل معظمهم إلى جانب القوات المسلحة العراقية بغية التوغل داخل القطاعات العسكرية العشرة في بغداد وفي محيط 30 ميلاً حول العاصمة لتمشيط المنطقة وحماية المواطنين بصورة مباشرة وإنهاء التطهير الطائفي القسري.
· إطلاق حملة تمشيط وتدمير ناشطة في مقاطعة الأنبار لسحق التمرد فيها.
· وضع "قواعد إشراك" تتيح للقوات إشراك عناصر من الميليشيات بغض النظر عن انتمائها الطائفي أو السياسي.
· ضمّ وحدات أميركية إلى التنظيمات العراقية مثل تعزيز كل فرقة عراقية بفصيلة أميركية.
· إشراك الشرطة في هذه العملية.
· "وقف تدفق الدعم" السوري والإيراني إلى القوات غير الحكومية في العراق.
وسعت هذه الحملة إلى إنهاء الحرب والتطهير الطائفيين في العاصمة وإرساء مستوى مقبول من الأمن وبالتالي استعادة ثقة المواطنين، ولو جزئياً، في السلطات المركزية والولايات المتحدة وتشجيع المجتمعات المحلية على معاونة السلطات في بسط الأمن.
أما التحرك العسكري فكان متنفساً للحكومة لتعيد إحياء المصالحة الوطنية باعتبارها الشرط الأساسي لإرساء الأمن والاستقرار؛ غير أنّ نجاح المصالحة الوطنية متوقف على توافر عدد من الشروط السياسية والدستورية، ألا وهي:
· الاتفاق على التعديلات المرتقبة منذ فترة طويلة والواجب إدخالها على الدستور.
· إصلاح قانون اجتثاث البعث، الأمر الذي سيساعد على إعادة البعثيين القدامى إلى وظائفهم أو على الأقل منحهم التعويض الملائم شريطة ألاّ يكونوا أعضاء في القيادة العليا أو متهمين بارتكاب جرائم.
· تمرير قانون يكرس تشاطر العراقيين كافة إيرادات النفط بصورة عادلة.
كما تدعو الخطة الحكومة العراقية إلى رصد عشرة مليارات دولار لإعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية بغية خفض معدلات البطالة في المجتمعات المتضررة. وأخيراً، من المرتقب تنظيم انتخابات محلية في المقاطعات نهاية العام 2007 بغية تمكين القادة المحليين في بيئة نأمل أن تغدو بحلول هذا التاريخ أقل تهديدا.
ب- البعد الإقليمي
خلافاً للتوصيات التي تضمّنها تقرير بايكر هاملتون، تمحورت الاستراتيجية الأميركية المعلن عنها مطلع العام 2007 حول السياسة القديمة وقوامها تعبئة "المعتدلين" الموالين للولايات المتحدة في المنطقة ضد إيران وسورية. فتحركت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس على الجبهة الدبلوماسية ولم تألُ جهداً لبناء محور إقليمي مناهض لإيران (يضم السعودية ودولاً أخرى في مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر) وحشد الدعم للاستراتيجية الأميركية في العراق (حكومة الوحدة الجديدة). من جهتها، راهنت إدارة بوش على قلق دول المنطقة من تنامي النفوذ الإيراني والمخاوف "الطائفية" المتصلة بالتوتر السني-الشيعي. وبالفعل، أعرب الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني الملك عبد الله وقادة آخرون في المنطقة عن قلقهم من تعاظم النفوذ الإيراني ومصير السنة. كما تبنى رجال دين، من أمثال الشيخ قرضاوي موقفاً مماثلاً، وحتى دول مثل سورية والسودان كانت مسرحاً لردود فعل عنيفة على تقارير تطرقت إلى محاولات مزعومة لتشييع المواطنين. وعلى الرغم من هذا القلق حيال المد الشيعي والنوايا الإيرانية، فشلت الولايات المتحدة في تشكيل جبهة مشتركة، خصوصاً أنّ دول المنطقة كافة أرادت تلافي مواجهة مباشرة مع إيران. بالإضافة إلى ذلك، وجّهت دول المنطقة رسالة لا لبس فيها إلى الإدارة الأميركية مفادها أنّها لن تلقى الدعم إن لم تسعَ جاهدة إلى إحياء عملية السلام بين العرب وإسرائيل، فعكفت وزيرة الخارجية على الانخراط بشكل أكبر في عملية السلام، والأهم، أجرت محادثات مباشرة مع إيران وسورية بحلول أيار/مايو 2007.
أ- القيود والتحديات
بدت الاستراتيجية التي أطلقها بوش مطلع العام 2007 متقنة ومترابطة ومعقولة ظاهرياً، لكنّها انطوت في الواقع على شوائب مريبة وما لبثت أن جابهت تحديات أساسية.
ب- التحديات العسكرية
تتمحور هذه الاستراتيجية حول مقاربة الأمن أولاً، ما يفترض أنّ الصورة لن تكتمل إلاّ متى حققت المقاربة الأمنية نتائج ملموسة. وقد اصطدمت الحملة الجديدة بمشاكل عسكرية وأمنية عدة:
ج- الأهداف السهلة، نشر الجنود، والانتشار المقوِّض: غيّر المتمردون استراتيجيتهم فاستبدلوا "الأهداف الصعبة"، مثل المرافق والقادة تحت حماية أمنية مشددة بـ "أهداف سهلة" - أي المواطنين العاديين الذين تتطلب حمايتهم تكثيف الجنود والسيطرة على المواقع. ومن هنا، تم نشر 30 لواء مختلط في بغداد والأنبار، في خطوة لم تنسحب على البلد بأكمله. بالتالي، تُرِكت الأهداف السهلة من دون حماية في مناطق أخرى مختلطة، مثل ديالى وكركوك والموصل والبصرة، فاستغلّ المتمردون هذه الفجوة، في حين وجدت قوات التحالف المنهكة نفسها عاجزة عن التصدي للعنف في بغداد ومناطق أخرى.
ج- القيود الزمنية: يتعين على إدارة بوش، إزاء ما تتعرض له من ضغوط في الداخل، أن تمضي في تسليم المهام الأمنية إلى قوى الدفاع والأمن العراقية؛ وبوش نفسه حدد في خطابه شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2007 موعداً يرتقب بحلوله أن "تتولى الحكومة العراقية مسؤولية الأمن في كافة المقاطعات العراقية". وعلى الرغم من رفض إدارة بوش رفضاً قاطعاً أي جدول زمني ثابت، من شأن موقفها المتشدد هذا أن يؤدي إلى نتائج عكسية ويقوِّض الدعم للحرب داخل الولايات المتحدة ويسبِّب بالتالي نكسة سياسية لحكومة بغداد.
ج- بناء القدرات: لا تسير مهمة تدريب الجيش العراقي الجديد وتجهيزه بحسب الجدول الزمني المحدد. فالقوات العراقية غير مستعدة البتة لتولي مهام الأمن القومي في المستقبل القريب، بينما لا يزال الجيش العراقي الجديد عبارة عن وحدة من جنود المشاة الذين يواجهون مشاكل عدة إن من حيث التدريب أو الالتزام أو الولاء للمجموعة. لذا، سيستغرق تحويله إلى قوة فعالة وقتاً أكثر من المتوقع.
ج- إشكالية الشرطة: يشكل نشر قوة الشرطة التي لا تحظى بالثقة نقطة ضعف إضافية، ولاسيما ان وحداتها الخاصة الشبيهة بفرق "الكوماندوس" مخترقة من قبل عناصر تنتمي الى المجموعات المتمردة والميليشيات وفرق الموت و"المافيات". وقد ركّز الجيش الأميركي لدى تدريب الشرطة العراقية على وحدات "الكوماندوس" هذه لسحق التمرد، بينما أولت وزارة العدل الأميركية اهتماماً خاصاً لمحاربة الجريمة، في ازدواجية أساءت إلى قوة الشرطة وأدت إلى تداخل المهام الملقاة على عاتق الشرطة والجيش. ومع تقسيم بغداد إلى قطاعين، تمتّعت وحدات الشرطة الخارجة عن السيطرة بالحرية المطلقة لتنفيذ مخططاتها الثأرية الخاصة.
ب- التحديات السياسية
القيادة: من المستبعد أن يصمد رئيس الوزراء المالكي طويلاً؛ فحزبه منقسم بين حليفين شيعيين قويين هما "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" الوافر الموارد و"الصدر" الشعبي والشعبوي، وقد وجاء إعدام الرئيس صدام حسين المخلوع نهاية العام 2006 ليعزز مكانة المالكي في صفوف الشيعة وبينهم مجموعة الصدر، لكنّه أكسبه في المقابل حنق عدد كبير من السنّة، واضطُر المالكي خلال الحملة العسكرية لاستعادة السيطرة على بغداد إلى التخلي عن نفوذ إجرائي تنفيذي، ما قوّض مصداقيته الوطنية ودفعه إلى الرهان على نجاح العمليات. على صعيد آخر، من المرجّح أن تتفاقم التحديات المطروحة في ظل الغموض السياسي الذي يلفّ صحة الرئيس طالباني المتدهورة ومسألة خلافته، ولا سيما أنّ وفاته لن تثير أزمة خلافة في كردستان وداخل حزب العمال الكردستاني فحسب، بل أيضاً على المستوى الفدرالي العراقي.
ج- البرلمان: ممّا لا شك فيه أنّ كسب الدعم البرلماني للخطة الأمنية الحالية والحفاظ عليه مهمة ضرورية لكن غاية في الصعوبة؛ فبناء التوافق يستدعي استمالة شرائح واسعة من الكتل البرلمانية الكردية والشيعية والسنية. وبعد أشهر عدة على وضع الخطة الأميركية موضع التنفيذ، لم تلح في الأفق أي بوادر تبشِّر بحشد هذا الدعم. بالتأكيد، ستُسهِّل "المعركة من أجل بغداد"، في ما لو كُلِّلت بالنجاح، بناء التوافق حتى إن اعتُبرت الحكومتان الأميركية والعراقية محايدتين. وفي مطلق الأحوال، لا يمكن بناء التوافق بلمح البصر، بل على العكس، تستدعي هذه الخطوة بذل جهود حثيثة لكسب دعم القوى لكل خطوة عسكرية وسياسية واقتصادية ودستورية.
ج- حلّ الميليشيات: سيكون التعامل مع جيش المهدي وكتائب بدر والميليشيات الأخرى مضنياً وتدريجياً وطويل الأجل معرضاً لانتكاسات ونتائج عكسية محتملة. وعلى سبيل المثال، تكيّف جيش المهدي مع الخطة الأمنية الأميركية فقلّص تواجده الظاهر في بغداد وقلل من تحركاته تجنباً لمواجهة مباشرة. في المقابل، تحدّت الميليشيات المتمردة هذه الخطة الأمنية وصعّدت هجماتها الانتحارية.
ب- تحديات السيادة
من شأن حرية التحرّك واتخاذ القرار التي تمنحها العملية الأمنية الحالية للقوات المتعددة الجنسيات، إضعاف الحكومة الوطنية في حال تم تبني إجراءات جذرية أو شُنّت غارات عمياء عشوائية من دون أي اعتبار سياسي ملائم. أضف إلى ذلك أنّ مصداقية الحكومة الوطنية عانت من المزيد من التراجع بسبب سوء الأوضاع الأمنية.
ويتضح أنّ الدور الثانوي المُسند إلى الجيش العراقي حالياً أو الذي قد يضطلع به مستقبلاً سيكون مؤذياً سياسياً على المديين القصير والمتوسط. وسبق لرئيس الوزراء المالكي أن أبدى استياءه من التلكؤ الأميركي في السماح للجيش العراقي بالتزوّد بالمدرعات الثقيلة والأسلحة المتطورة الأخرى[2]، لينضم بانتقاده هذا إلى سلفه رئيس الوزراء المؤقت اياد علاوي. وإذ يبرر ضعف الجيش العراقي إلى حد ما الوجود الأميركي وحتى رفع عديد القوات وإطالة مدة بقائها في العراق، فهو ينطوي في المقابل على مطالب وطنية قومية تنادي بسيطرة العراق وحده دون سواه على وسائل الإكراه الشرعية - أي بعبارة أخرى على السيادة العراقية كاملة.
ومن المستبعد أن تدوم الحجة الأميركية القائلة بأنّ جنود المشاة هم الأكثر ملاءمة وقدرة على قهر التمرد، ذلك أنّ هذه الحجة ستعمّق مشاعر الريبة في صفوف الطبقة السياسية العراقية التي تهاب أصلاً النوايا الأميركية المبطنة؛ حتى أن القادة الشيعة يحمّلون الولايات المتحدة مسؤولية الفشل الأمني، مؤكدين أنّ كفة الميزان كانت لترجح لمصلحة الاستقرار لو كانت المسائل الأمنية بيد العراقيين أنفسهم.
أما القادة السنّة المعتدلون فيحبّذون على ما يبدو بقاء الولايات المتحدة لفترة أطول لمواجهة الهجوم الشيعي المدعوم إيرانياً والرامي إلى إضعاف السنّة وتهميشهم بدءاً بـ "تشييع" بغداد. وفي هذا الإطار، يصف معظم القادة السنّة هذا التطهير الطائفي بالـ "مخططات الصفوية"، في إشارة منهم إلى اجتياح إيران العراق العثماني في القرن السادس عشر. ولا يزال المتطرفون السنّة والبعثيون يعتبرون أنّ انسحاب قوات التحالف كفيل بإسقاط الحكومة "الشيعية الإسلامية".
وفي الواقع يطرح بقاء القوات المتعددة الجنسيات إلى أجل غير مسمّى في العراق مشكلة كبيرة، في حين قد يكون الالتزام الصريح بالانسحاب في مقابل جهوزية القوات العراقية للقتال مفيداً جداً على الصعيد السياسي. ومن هنا، اعتُبر إعلان بريطانيا سحب قواتها جزئياً في شباط/فبراير إشارة مطمئنة لكن غير كافية، أما الالتزام الأميركي الصريح بالانسحاب التدريجي فقد يعزز مكانة المالكي ويلبّي بعضاً من مطالب المجموعات المسلّحة.
ب- تحديات المصالحة
تُعتبر المصالحة، ولا سيما بين التحالف الشيعي الكردي الحاكم والمعارضة والتمرد السنيّين، الشرط السياسي المسبق لعودة الحياة إلى طبيعتها. ومن هنا الحاجة إلى مقاربة عملية تنطوي على خطط قابلة للتطبيق على مراحل وجداول زمنية واضحة، وتفترض هذه المقاربة الاتفاق على مبادئ عامة ووضع آلية لحوار منظم ومضطرد ومنح العفو ومناقشة صيغ لتشاطر الموارد والسلطة والمشاركة تالياً في الحكومة. وعندئذ، سيصبح الاتفاق على التعديلات الدستورية نهائياً وفائق السهولة.
ج- المصالحة: لم تحدِّد الحكومة بعد إلى أي مدى تريد من عملية المصالحة أن تكون شاملة. فهل ستشمل الأطراف كلها؟ أم الأطراف كافة باستثناء القاعدة وغلاة المتطرفين في الخارج؟ أم الأطراف كلها خلا المجموعات السابقة الذكر والمجموعات السلفية المتطرفة في الداخل؟ وفي هذا السياق، يتعيّن على المالكي أن يستقر على مقاربة متماسكة واحدة، في حين يتعين على الحكومة أن تبني توافقاً وطنياً حول مبادئ الإشراك هذه؛ والواقع أنّ المجموعات المتمردة الثلاث (المقاتلين الجهاديين المتطرفين السنّة (القاعدة والسلفيين)، والقوى المؤسسية والبعثية، والسنّة المعتدلين) تنتهج استراتيجيات ثلاث مختلفة. وبدأ خطاب المتمردون أنفسهم يميِّز بين "المقاومة الشريفة" و"غير الشريفة"، في حين باشرت الولايات المتحدة التمييز بين "المتمردين" و"الإرهابيين". من جهته يتبنى نائب الرئيس طارق هاشمي والأكراد هذا التمييز بين "الإرهابيين والآخرين". إنها لنقطة انطلاق قابلة للتنفيذ في حال تبنت الغالبية الشيعية موقفاً لا لبس فيه لجهة إشراك الأطياف كلها ما عدا القاعدة. ولكنّ هذه الخطوة أكثر صعوبة مما تبدو عليه، لا سيما أنّ ملف المصالحة عُهد به إلى نائب الرئيس عادل عبد المهدي الذي، وعلى الرغم من عملانيته الضرورية لتحقيق الغاية المنشودة، قد لا تجدي جهوده نفعاً بسبب الصلاحيات المحدودة الموكلة إليه.
ج- الحوار: لا بد من إطلاق حوار وطني في أسرع وقت ممكن، حوار يضم المجموعات الثانوية قبل أن يتوسع سريعاً. وفي هذا الإطار، يعتبر الجيش الإسلامي أكبر المجموعات المتمردة يليه حجماً جيش محمد (البعثي) فجيش ثورة العشرين (بقيادة حارث الضاري). لذا، إن قُدِّر لهذه العملية النجاح، وإن أثبتت مسألة الإشراك فعاليتها وجاذبيتها، قد تتوصل المجموعات الكبرى إلى التأثير على المجموعات الأصغر حجماً أو حتى تحييدها.
ج- العفو: لم تبتكر الحكومة العراقية بعد المصطلح أو الأرضية القانونية الضرورية للجوء إلى العفو كأداة فعالة. فكلمة "العفو" بحد ذاتها جد قاسية من منظور المجموعات المسلّحة لكن جد متساهلة من منظور القادة الشيعة. لذا، لا بد من ابتداع مصطلح جديد أشبه بـ "إسقاط التهم" أو "تعليق الإجراءات القانونية" أو "إقفال لائحة التهم"...إلخ، في مقابل مفردات مثل "الاعتذار" أو "التنديد بالفظائع السابقة". ولم يُناقش بعد كيف ولمن وتحت أي ظروف يمكن منح العفو. بالمثل، لم تُجرَ أي مناقشة جدية لمسيرة الحقيقة والمصالحة على غرار تلك التي حصلت في إفريقيا أو مؤخراً في المغرب، وهي استراتيجيات مهمة لحقبة ما بعد النزاع وتستدعي بالتالي اهتماماً مكثفاً وجهوداً حثيثة.
ج- اجتثاث البعث: يُفترض بالحوار والعفو أن يُتوَّجا أو أن يكونا جزءاً من ميثاق لتعديل النظام الأساسي لاجتثاث البعث باتجاه إيجاد أرضية قانونية مشتركة لا تستهدف إلاّ كبار القادة المتّهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية. كما لا بد من تقوية السلطة القضائية المسؤولة عن هذه العملية وتحسين شفافيتها بغية تعزيز مصداقيتها وتدعيم حيادها المهتز. وقد قبلت المجموعات السياسية والمسلحة كلها تقريباً، على انتماءاتها المختلفة، البعثيين السابقين في صفوفها انطلاقاً من عملانيتها الذاتية واعتقاداً منها أنّه من الأجدى نفعاً استمالة غالبية البعثيين السابقين مجدداً إلى القضية الوطنية.
ج- الإشراك: يمكن، لا بل يجب على المصالحة الوطنية أن تفضي في نهاية المطاف إلى حكومة وحدة وطنية شاملة، حكومة عادلة وممكِّنة تشكل انطلاقة جديدة لبناء الدولة في العراق بعد التحرير والاحتلال. كما يمكن لمثل هذه المقاربة الاندماجية الشاملة أن تتجسد في تشكيل المحكمة الدستورية والجمعية الاتحادية المرتقب تأسيسها.
ج- انتخابات المقاطعات: تتيح هذه الانتخابات المرتقبة نهاية العام 2007 فرصة مهمة لتوسيع حجم المشاركة ولا سيما في المقاطعات السنّية المضطربة، بما أنّها كفيلة بتكريس التمييز بين النخب المناطقية والمجموعات المسلحة المعتدلة من جهة وأصوليي القاعدة المتطرفين من جهة أخرى. ففي الاستفتاء والانتخابات العامة في العام 2005، أثبت المعتدلون قوتهم بحيث شلوا الهجمات المسلحة في مناطقهم. بالمثل، يمكن لتقدم سياسي ملموس أن يفرض وضعاً مشابهاً أواخر العام 2007. لهذه الغاية، من الأهمية بمكان دعم المجموعات والنخب المعتدلة في مثل هذه الانتخابات لتعزيز فرصها بالنجاح، خصوصاً أنّ الانتخابات المحلية في مناطق نزاع أخرى حول العالم غالباً ما كانت تؤدي إلى نتائج عكسية في مصلحة المتطرفين.
ب- التحديات الدستورية: لم يكن الدستور الحالي موضع توافق وطني، فقد اعترض عليه السنّة كما الفصائل الشيعية والقوميون العراقيون المعتدلون. وتتمحور مسائل الخلاف الأساسية حول وحدة العراق وسلامة أراضيه وتوزيع الموارد والخوف من التهميش. وجاء الفراغ المؤسسي والتشريعي ليؤجج هذه المخاوف؛ فما يزيد عن 60 قانوناً يرتقب التشريع، فيما الأنظار شاخصة لتأسيس مؤسسات، منها المحكمة العليا الدستورية. في السياق عينه، تثير الفدرالية (الاثنية بالنسبة إلى الأكراد والطائفية في المقاطعات الشيعية التسع) مخاوف القادة السنة والمجموعات الوسطية – ناهيك عن وضع كركوك المتفجِّر ومبدأ حكم الغالبية البسيط. والواقع أنّ الدستور يلحظ إلغاء المجلس الرئاسي الائتلافي، ما أقلق المجموعات الصغرى في البرلمان. غير أنّ مبدأ الحكم المناطقي المحلي يلقى استحساناً واسع النطاق على الرغم من التحفظات التي يبديها السنّة حيال الصلاحيات الواسعة المكرّسة دستورياً لحكومات الأقاليم، مثل سيطرتها على حراس الحدود وحقها في الفدرالية. بيد أنّ الحكم المناطقي سيكبح بطبيعة الحال الاتجاهات الاستبدادية وقد يلقى استحسان القوى الوسطية نفسها.
ب- التحديات الإقليمية
تعصف بمنطقة الشرق الأوسط أزمات كثيرة تضاف إلى الأزمة العراقية وتجعل من الصعوبة بمكان نزع فتيلها. ومن هذه الأزمات المشتعلة الصراع العربي الإسرائيلي الذي تجد الولايات المتحدة نفسها فيه على طرف نقيض مع إيران/سورية، والمأزق الإيراني الأميركي حول البرنامج النووي الإيراني، والجمود الأميركي/السعودي والسوري/الإيراني في لبنان. وقد نَشُطت الدبلوماسية السعودية وأطلقت مبادرات عدة، منها مؤتمر مكة حول العراق (أواخر العام 2006)، واتفاق مكة بين فتح وحماس، والمحاولات لحل المأزق اللبناني، والقمة العربية نهاية آذار/مارس 2007. أما الولايات المتحدة فلم تُوفَّق في تشكيل تحالف سني "معتدل" في مواجهة إيران وسورية وأقرت بضرورة التحاور مباشرة مع إيران وسورية، لكنّها لم تحدد بعد بصريح العبارة الأهداف التي تنوي تحقيقها من خلال هذه المحادثات.
إلى ذلك، تميل حكومة المالكي إلى طمأنة سورية وإقامة علاقات جيدة مع إيران. وهنا يبرز تضارب السياسات جلياً. والواقع أنّ انقساماً طائفياً حول السياسة الإقليمية قد يشل العملية الانتقالية في العراق أكثر فأكثر، وحكومة المالكي مدركة تماماً لهذا الخطر الداهم. صحيح أنّ طمأنة السعودية وسورية واستمالتهما قد تلقيا استحسان السنّة العراقيين لكنهما لا تضمنان البتة توقف الرياض أو دمشق عن تمويل المجموعات السنية المسلحة ودعمها. كذلك، ستوقع هذه الخطوة، في حال وافقت عليها حكومة المالكي، الشقاق داخل الكتلة الشيعية في هذه المرحلة السياسية الحرجة. غير أن التقرب من إيران قد يعمّق هو الآخر المخاوف السنية من هيمنة شيعية.
ومن هنا جاء المؤتمر الدولي المنعقد في بغداد مطلع آذار/مارس 2007 ثم اجتماع شرم الشيخ مطلع أيار/مايو ليؤكدا على إقرار دول المنطقة والمجتمع الدولي بالحكومة العراقية وليفسحا المجال أمام الولايات المتحدة للاتصال بإيران وسورية رغم فشلهما في التوصل إلى اتفاق أو تعاون مشترك لتسوية الأزمة العراقية. لكنّ هذين اللقاءين يشكِّلان مع ذلك خطوة لا طائل تحتها لتوثيق عرى التعاون الإقليمي والدولي وتعزيز المسيرة الأمنية والسياسية في العراق وإبعاد شبح الحرب الأهلية الناشئة.
وما من شك أنّ إحراز تقدم على مسارات خلافية أخرى، مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والمواجهة النووية الإيرانية والأزمة السورية بسبب المحكمة الدولية الأممية قد يلطِّف بواعث التوتر في المنطقة ويتيح للعراق فرصة المضي قدماً، والأمر سيان بالنسبة إلى أي محاولة لثني سورية عن تحالفها الوثيق مع إيران وإعادة دمجها بالمسار العام للسياسة العربية.
أ- الخاتمة
لا يمكن تسوية الأزمة العراقية إلاّ بتكريس حكم شامل تعددي فدرالي يضمن مشاركة واسعة ويقوم على مؤسسات سياسية وأمنية قوية. لهذه الغاية، لا بد من إرساء ركيزة اجتماعية ضرورية عمادها طبقة وسطى قوية متحررة من أي محسوبية تجاه الدولة ومتجذِّرة في اقتصاد السوق، طبقة وسطى تكون على الإثر محررة من قيود سياسة الهوية الخاصة بمجموعات معينة. كذلك، يفترض بالحكومة العراقية أن تستقل على المدى القصير عن الدعم العسكري الأميركي وتعزز قدراتها المؤسسية وقدرتها على إنفاذ القانون وأن تسعى جدياً إلى إقامة مؤسسات أكثر شمولية وتمثيلاً وقدرة على اتخاذ القرارات، وستكون هذه العملية ولا ريب شاقة وطويلة، لكن لا بديل آخر قابل للحياة.
د. فالح عبد الجبار هو مدير المعهد العراقي للدراسات الاستراتيجية في بيروت، لبنان.
تعكس الأفكار الواردة في هذه الدراسة وجهة نظر الكاتب ولا تعبِّر بأي شكل من الأشكال عن مواقف أي من المؤسسات التي ينتسب إليها.