المصدر: الشروق
خلال محاضرة للدكتور أحمد يوسف قبل سنوات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حول الحقبة الناصرية، اعترض أحد الطلبة على الحديث حول شعبية ناصر الجارفة في نفوس المصريين، مؤكداً أن نظام عبدالناصر سجن وعذب العديد من المصريين، فرد أحمد يوسف بهدوئه المعتاد بأن عبدالناصر لم ينكل بالمصريين لكن بمعارضيه.
بهذه العبارة البسيطة شرح أحمد يوسف أحد أركان الاتفاق بين دولة يوليو 1952 وبين المجتمع المصري القائم على ابتعاد المواطن المصري عن العمل السياسي المعارض للنظام، في مقابل الحياة الآمنة له ولأسرته. ظل نظاما السادات ومبارك وفيين لهذا الاتفاق غير المكتوب، وكذلك معظم المجتمع المصري.
فحتى مع تفاقم نشاطات الجماعات الإسلامية المسلحة، اعتمد نظام مبارك ما درج على تسميته «القمع الانتقائي»، والذي يعني ضبط درجة القمع طبقاً لدرجة خطورة الفعل السياسي. فالتعامل مع الجماعات الإسلامية العنيفة يختلف عن التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين أو مع المعارضة المدنية. إلا أن المؤسسة الأمنية أصابها خلال عهد مبارك ما أصاب مؤسسات الدولة الأخرى من تدهور في أدائها. فالجهاز الأمني الذي بدأ قادراً على القمع بكفاءة، إذا جاز التعبير، بمعنى قيامه فقط بالتنكيل فقط بالمعارضين وليس بعموم المصريين، وبشكل متوازن طبقاً لمدى خطورة العمل السياسي المعارض، تراجعت كفاءته. فبدأت زيادة في حالات استهداف الأبرياء ممن ليسوا بالضرورة معارضين للنظام، أو ممن حتى لا يعملون فى السياسة أساساً. وتزامن هذا التصاعد في وتيرة القمع العشوائي مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي مع قدرتها على نشر أخبار تلك التجاوزات على نطاق واسع، ما ضاعف من تأثيرها على المجتمع.لقد عرفت مصر خلال السنوات القليلة التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 حدثين فارقين أدى فيهما تراجع كفاءة القمع إلى ردود فعل واسعة: أحداث مدينة المحلة الكبرى فى 2008 ومقتل خالد سعيد فى 2010. وخلافاً لما يعتقده الكثيرون، لم تشتعل أحداث المحلة الكبرى نتيجة لإضراب العمال، بل انطلقت شراراتها الأولى بعد أن قبل العمال بالفعل تعليق إضرابهم وبسبب احتكاك الأعداد الكبيرة لقوات الشرطة بالأهالي، مما دفع أهالي المحلة إلى التظاهر، فكانت انتفاضة المحلة التى أسقطت فيه صورة مبارك للمرة الأولى أمام عدسات المصورين. وجاءت بعدها حادثة خالد سعيد فى العام 2010 الذى فقد فيها شاب اسكندري حياته تحت وطأة التعذيب، لتبعث برسالة واضحة إلى الكثير من الشباب مفادها أن القمع في مصر بات عشوائياً ولم يعد فقط يستهدف المعارضين السياسيين، بل امتد إلى كل من يلقى به حظه العثر في طريقه. بعدها بأشهر قليلة خرج هؤلاء الشباب ضد نظام مبارك فى ثورة 25 يناير 2011 آملين فى بناء دولة جديدة توفر لهم الحرية والكرامة. وعقب خمس سنوات شهدت تقلبات سياسية عنيفة، واستقطاباً حاداً داخل المجتمع بين التيار الإسلامي والقوى المدنية، عادت مؤسسات الدولة المصرية لتتصدر المشهد السياسي في يوليو 2013 وسط دعم وقبول من قطاعات واسعة من المجتمع المصري. وقد ناصب هؤلاء جماعة الإخوان المسلمين العداء، ورأوا في الحفاظ على مؤسسات الدولة المصرية أولوية على الحرية السياسية.
إلا أن المؤسسة الأمنية عادت لتتجاوز في قمعها معارضي النظام الحالي لتستهدف مواطنين مصريين في مكان عملهم، كما حدث قبل أسابيع في مستشفى المطرية من تعرض الطاقم الطبي إلى اعتداء من قبل قوات الأمن. هذا الحادث أطلق رسالة عنيفة إلى الأطباء ومن خلفهم قطاعات واسعة من المجتمع، مفادها أن عشوائية القمع التي عرفتها مصر خلال سنوات مبارك الأخيرة لا تزال على حالها، وأن الابتعاد عن العمل السياسي المعارض، بل وحتى دعم النظام الحالي وسياساته، لا تحمى صاحبها من بطش ماكينة القمع. وفي حالة أطباء المطرية، لا يتعلق الأمر بنشاط سياسي، ولا حتى بالتواجد في المكان الخطأ بالصدفة، فالطبيبان كانا في مكان عملهما، وهو ما دفع آلاف الأطباء للاستجابة إلى الجمعية العمومية الطارئة التي دعت إليها النقابة والتي رفعت شعار جمعية الكرامة.
تشكل هبة الاطباء للدفاع عن كرامتهم تحدياً جدياً للنظام السياسى في مصر. وتكمن خطورة هذا التحدي أنه يأتي من خارج الفئات المعارضة للنظام السياسي الحالي، بل من دوائر أيد العديد منها ترشح عبدالفتاح السيسي للرئاسة أو على الأقل رأت في وجوده ضرورة للحفاظ على استقرار الوطن. وعليه فقد قبلت بتأجيل حرياتها السياسية في مقابل الحياة الآمنة، وهي الآن تطالبه بأن يتدخل لوضع حد لعشوائية العنف وضمان أمنها طبقا للاتفاق غير المكتوب بينهما.