في وسائل الإعلام

المسيحيون والثورة فى سورية

تحكم مواقف المسيحيين في سورية، على غرار الطوائف الأخرى، مجموعة من المصالح والمخاوف وطبيعة البدائل المتاحة أمامهم.

نشرت من قبل
الشروق
 on ٢٥ أبريل ٢٠١٦

المصدر: الشروق

تُروج أطرافٌ سورية مختلفة مقولةَ أن المسيحيين السوريين يدعمون نظام الأسد، ومن ضمنها أصواتٌ قريبة من النظام نفسه، تأمل من خلال ترديد هذا الخطاب دعمَ شرعية نظام الأسد خارجيا، باعتباره حاميا للأقليات الدينية فى ظل صعود التنظيمات الجهادية الإسلامية؛ وأصواتٌ أخرى تنتمى إلى قوى المعارضة الإسلامية، وترغب فى أن تعطى للصراع الدائر فى سورية لونا طائفيا باعتباره صراعا بين الغالبية السنية فى مواجهة الأقلية العلوية الحاكمة، مدعومة من الأقليات الدينية الأخرى.

إلا أن تحليل موقف المسيحيين السوريين يُظهر صورة أكثر تعقيدا. فالمسيحيون ليسوا كتلة واحدة ذات صوت سياسى واحد، بل هم عبارة عن مجموعات وأطراف متعددة تحمل كلٌ منها مخاوف ومصالح تتحكم بموقفها السياسى. ومحاولة البحث عن إجابةٍ واحدة بـ"نعم" أو "لا" من الثورة السورية تبدو ساذجة. فموقف المسيحيين من الثورة معقد بقدرِ تعقيد الواقع السياسى السورى على الأرض، ويختلف هذا الموقف من منطقة إلى أخرى وفقا لطبيعة التهديدات والبدائل المتاحة فى كلٍ منها.

بالتأكيد، ثمة قطاع من المسيحيين، من ضمنهم جل قيادات الكنائس السورية، يدعمون نظام الأسد بسبب تشابك مصالحهم السياسية والاقتصادية مع رموزه، كما يدعمه آخرون باعتباره الضمانة لأمن المسيحيين فى سورية. يستند هذا الموقف إلى تجربة المسيحيين فى العراق بعد سقوط صدام حسين، وما تعرضوا إليه من تنكيل وتهجير، ناهيك عن تصدر الجماعات المسلحة الإسلامية لقوى المعارضة، وصولا إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية وبسط سيطرته على مناطق عدة. إضافة على ذلك، يلعب التاريخ البعيد أحيانا دورا فى تحديد موقف بعض الطوائف المسيحية. فقد دفع الطابعُ الإسلامى للمعارضة المسلحة، والدعم التركى لها، الطائفةَ الأرمنية إلى استعادة تاريخ المذابح التى ارتُكِبَت بحقهم فى بداية القرن العشرين على يد القوات العثمانية، فعارضت غالبيتهم الثورة السورية.

لكن فى المقابل، شارك العديد من الشباب المسيحيين فى التظاهرات السلمية خلال الأشهر الأولى للثورة، كما انخرطوا فى مختلف المبادرات الرامية إلى تعريف المجتمع بمطالب الثورة وحشد الدعم لها. ففى حى باب توما المسيحى فى العاصمة السورية على سبيل المثال، نشطت مجموعة من الشابات والشبان المسيحيين فى توزيع البيانات والملصقات لحشد الدعم لمطالب الثورة، ولمواجهة خطاب الإعلام الرسمى الذى سعى إلى بث الخوف فى نفوس المسيحيين. فقد رفض هؤلاء الشباب خطاب القيادات الكنسية المؤيِد للنظام، حتى إن مجموعة منهم قررت تنظيم زيارات إلى الكنائس للإعلان عن رفضهم لموقف الكنيسة، والتأكيد على أنها لا تستطيع التحدث باسم كل المسيحيين. ولم يتوقف عمل هؤلاء الشباب عند حدود أحيائهم المسيحية، بل شاركوا فى التظاهرات فى المناطق ذات الغالبية السنية. واختار أحدهم، باسل شحادة، أن يذهب إلى حمص لتسجيل أحداث الثورة، فى محاولةٍ منه لتغيير الصورة السلبية للثورة فى نفوس الكثير من المسيحيين، إلى أن لقى حتفه خلال القصف على المدينة فى مايو 2012. وحتى داخل الكنيسة، وعلى الرغم من موقف القيادات الكنسية الداعِم للنظام، أبدت أصوات قليلة اعتراضها أيضا على مواقف قيادتها الدينية. فعلى سبيل المثال، اختار أحد الرهبان السوريين ترك الرهبنة اعتراضا على موقف قيادته الدينية المؤيِد للنظام، وقرر أن يعمل عوضا عن ذلك مع المجتمع المدنى فى مساعدة النازحين السوريين.

لكن موقف الشباب المسيحيين الذين شاركوا فى فعاليات الثورة خلال أشهرها الأولى، بدا صعبا مع عسكرة الثورة، ثم ازداد صعوبة مع صعود التيارات الإسلامية التى هيمنت على مشهد معارضة للنظام. وفى ظل انحسار البدائل التنظيمية التى يستطيع من خلالها الشباب أن ينخرطوا فى دعم الثورة السورية، اتجه العديد منهم إلى العمل الإغاثى والإعلامى، الذى يرَوْنه أيضا من ضمن وسائل دعم الثورة. وتظهر بجانب هاتين المجموعتين الداعمة والمعارِضة لنظام الأسد، مجموعةٌ ثالثة يبدو أنها الأكثر عددا حاليا ولم يَعُد يشغلها سؤال النظام والثورة، بل أمنها ومستقبل وجودها فى سورية. وتدعم هذه المجموعة الطرف السياسى الذى تعتقد أنه الأقدر على حماية حقوقها. وفى بعض الأحيان، قد تنقسم المجموعة المسيحية نفسها وفقا لرؤيتها للطرف الأقدر على تحقيق مصالحها. ففى محافظة الحسكة على سبيل المثال، انقسم المسيحيون الأشوريون إلى فئتين: إحداهما أقرب إلى نظام الأسد، وأخرى أقرب إلى الإدارة الذاتية الكردية. من ضمن هذه المجموعة الثالثة أيضا، هؤلاء الذين أضحوا يرَوْن أن المسيحيين لم يَعُد لهم مستقبل فى سورية، وعليهم الرحيل لضمان مستقبل أفضل لأولادهم. على سبيل المثال، وفى إشارة ٍإلى حجم هجرة المسيحيين ومعهم المسلمون من حلب، أخبرتنى صديقتى التى لا تزال تعيش فى هذه المدينة، أن صفها كان يضم 92 طالبا غالبيتهم من المسيحيين، لكن لم يتبقَ منهم اليوم سوى 17 طالبا فقط.

إضافة إلى ذلك، لا ترى هذه المجموعة فى فصائل المعارضة المسلحة أو معارضة الخارج بديلا سياسيا لنظام الأسد، إلا أنها فى الوقت نفسه لم تَعُد تقبل بعودة النظام القديم وممارساته، وبات يزعجها استخدام نظام الأسد للمسيحيين كورقة ضغط سياسى على الحكومات الغربية. يُعبر أحد المسيحيين السوريين عن موقف هذه المجموعة، قائلا: "لست مع النظام، لكن ما البدائل المتاحة أمامى... أن أصمت أو أن أرحل".

إن البحث عن إجابة واحدة لموقف المسيحيين من الثورة السورية يبدو غير مجدٍ. فمواقف المسيحيين، على غرار الطوائف الأخرى، تحكمها المصالح والمخاوف وطبيعة البدائل المتاحة أمامهم. وإذا كانت مشاركة المسيحيين فى الثورة السورية ضعيفة، خاصة مع عسكرتها، هذا لا يعنى أن المسيحيين مسانِدون لنظام الأسد. فالشريحة الأكبر منهم باتت تهتم فقط بمستقبل وجودها فى سورية، وستكون داعمة لحلٍ سياسى يضمن لها أمنها وحقوقها، بصرف النظر عن بقاء نظام الأسد أو عدمه.

تم نشر هذا المقال في جريدة الشروق.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.