المصدر: الشروق
دون مبالغات صحفية أو تعميمات تجافى الواقع، يمر العالم العربى بلحظة بالغة الخطورة بها من التراجعات والتحديات الدولية والإقليمية والداخلية، ما يصعب مواجهته اليوم وسيثقل كاهل مجتمعاتنا ودولنا خلال الأعوام المقبلة.
دوليا، أصبح واضحا وبعد مرور عام على رئاسة أوباما أن الإدارة الأمريكية الجديدة ترتكز فى فعلها الخارجى ونشاطها الدبلوماسى باتجاه المحيط العربى ــ الإسلامى إلى أولويات ثلاث، هى النجاح العسكرى والسياسى فى أفغانستان/ باكستان، ومواصلة الحرب على الإرهاب، واحتواء الملف النووى الإيرانى إن بالأدوات التفاوضية أو بوسائل أخرى. يعنى هذا:
1) أن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من الجهد الدبلوماسى لإدارة أوباما خلال الأشهر الماضية لإحياء مفاوضات السلام العربية ــ الإسرائيلية، لا ترى فى حل القضية الفلسطينية وإنهاء غيرها من قضايا الصراع العربى ــ الإسرائيلى نقاط الانطلاق الرئيسية لإعادة تعريف دورها فى المحيط العربى ــ الإسلامى وتجديد علاقتها بدوله.
2) أن الانحياز الأمريكى لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية، وكذلك إحجام أوباما عن ممارسة ضغوط فعالة على إسرائيل.. إن لإيقاف سياستها الاستيطانية فى الضفة الغربية والقدس الشرقية أو للدفع نحو حل نهائى عادل للقضية الفلسطينية، ليسا بمرشحين للتغير على المدى المنظور.
3) أن الإيجابية التى ولدها خطاب إدارة أوباما المتوازن باتجاه المحيط العربى ــ الإسلامى، وكذلك مجمل الفعل الخارجى للإدارة المستند إلى صناعة التوافق مع القوى الكبرى الأخرى والعودة إلى تفضيل الدبلوماسية متعددة الأطراف بدلا من الانفرادية التى ميزت إدارة بوش، سريعا ما ستتوارى على وقع غياب الترجمة الواقعية لوعود أوباما بحل القضية الفلسطينية، وإنهاء الحرب على الإرهاب، وصياغة علاقات احترام متبادل مع الدول العربية والإسلامية.
4) أن على العرب، شعوبا وحكومات، ألا يتوقعوا الكثير من أوباما، ويستعدوا لمواجهة المزيد من تعنت إسرائيل، وفرضها المستمر لحقائق جديدة على الأرض فى الضفة الغربية والقدس، وذلك فى ظل انشغال الولايات المتحدة خارجيا بإفغانستان وباكستان وإيران وداخليا بأجندة تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية وملفات كالرعاية الصحية والتغير المناخى.
5) أن محاولات بعض دول الاتحاد الأوروبى أو روسيا أن تحل محل الولايات المتحدة فى تنشيط مسارات السلام والتفاوض بين العرب وإسرائيل محكوم عليها بالفشل، نظرا لمحدودية أوراق دبلوماسيات هذه الدول وانتفاء قدراتها الفعلية للتأثير على إسرائيل.
إقليميا، بجانب الفاعلية المحدودة للدور الأمريكى فيما خص قضايا الصراع العربى ــ الإسرائيلى وتعنت إسرائيل، تواجه الدول العربية سلسلة من التحديات الخطيرة متنوعة المصادر والأبعاد.
1) يشكل الملف النووى الإيرانى وتنامى الدور الإقليمى للجمهورية الإسلامية إن فى منطقة الخليج أو العراق أو فى لبنان وفلسطين تهديدا حيويا للأمن القومى لعدد من الدول العربية أبرزها دول مجلس التعاون الخليجى والعراق ومصر، والأخيرة ترى فى تنامى الدور الإيرانى تراجعا لدورها هى.
2) تتخوف الدول العربية التى تنظر بعين الريبة إلى إيران، خصوصا السعودية ومصر، من أن يرتب الانفتاح التفاوضى الراهن للولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى على إيران بهدف التسوية السلمية لملفها النووى تقديم تنازلات كبرى، تؤمن للجمهورية الإسلامية مساحات إضافية للفعل فى الشرق الأوسط، وتطلق يدها كالقوة الإقليمية الأهم فى منطقة الخليج، وهو التخوف الذى يشار إليه دوما بالحديث عن فرص «المساومة الكبرى» بين واشنطن وطهران.
3) على الرغم من تخوف أطراف عربية مهمة كالسعودية ومصر من إيران، ومساعيها لمواجهة الدور الإيرانى فى الخليج ولبنان وفلسطين، يبتعد عدد آخر من الدول العربية عن هذه القراءة، وينظر إلى إيران كحليف إستراتيجى، كما هو الحال فى سورية، أو كجار تربطهم به علاقات اقتصادية وتجارية متنامية، على النحو الذى يظهره التعامل القطرى والعمانى وبدرجة أقل الإماراتى مع إيران.
4) يواجه العرب اليوم كذلك التصاعد الواضح للدور الإقليمى التركى، الذى تحول من البحث عن دور فى الشرق الأوسط انطلاقا من التحالف الإستراتيجى مع الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى الابتعاد تدريجيا عن تل أبيب والانفتاح باستقلالية لا تخشى الاختلاف مع واشنطن على إيران والجوار العربى، ومحاولة التوسط تفاوضيا للمساهمة فى حل صراعات المنطقة أو على الاقل نزع فتيل انفجارات محتملة، وبناء علاقات تعاون اقتصادى وتجارى متطورة مع الجوار.
5) فى الوقت الذى تغيب به عن المشهد الإقليمى نماذج عربية ناجحة، تشترك تركيا مع إيران فى طرحها نموذجا متكاملا ورؤية متسقة لمستقبل الشرق الأوسط، على التباينات المركزية بين النموذجين التركى والإيرانى. ففى حين تمثل إيران داخليا حالة من التداخل بين الدين والسياسة تغيب عنها الديمقراطية، تقف تركيا معبرة عن إمكانية الجمع الناجح بين علمنة مؤسسات الدولة والمجال العام وبين التحول نحو ديمقراطية تقبل مشاركة بل وهيمنة الحركات الإسلامية على الحياة السياسية فى إطار ضمانات دستورية وقانونية واضحة. وفى حين ترفع طهران إقليميا وخارجيا شعارات مواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية فى الشرق الأوسط، ورفض الاعتراف بإسرائيل، ودعم حركات المقاومة فى لبنان وفلسطين، وتعمل على تكوين جبهة تضم إلى جانبها إطرافا عربية لمناوءة الغرب، ولا تتحفظ فى هذا الإطار عن التدخل فى شئون بعض الدول العربية، تتسم السياسة الإقليمية لتركيا بالدبلوماسية الهادئة، وبالبحث عن صناعة التوافق والحلول التفاوضية إن بين الغرب وإيران، أو بين سورية وإسرائيل، أو الأخيرة والفلسطينيين، وبتقديم التعاون الاقتصادى والتجارى على الشعارات الإيديولوجية أو التدخل غير المسئول فى شئون الدول الأخرى. والحقيقة أن أهمية وجاذبية النموذجين التركى والإيرانى، مجددا على الرغم من تبايناتهما، مرشحتان للتصاعد خلال الأعوام المقبلة وهو ما سيشكل واقعا ضاغطا على الدول العربية الحائرة بين التحالف مع الغرب والابتعاد عنه، بين المقاومة والسلام، بين الدين والديمقراطية، بين السياسة والاقتصاد.
6) تواجه الدول العربية مجموعة إضافية من التحديات والمخاطر الإقليمية ترتبط بغياب الاستقرار عن العراق، وتحول أزمات اليمن فى صعدة والجنوب إلى حالة من العجز التام للدولة اليمنية وساحة جديدة للصراع الإقليمى بعد العمليات العسكرية السعودية فى شمال اليمن وما يقال عن الدور الإيرانى هناك، عدم حسم ملفات المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس ومستقبل دور حزب الله فى السياسة اللبنانية مع تنامى التنازع حول سلاحه.
7) وفيما خص الاقتصاد، بدأت التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية فى الظهور فى الدول العربية المصدرة للنفط كما نتابع الآن بصورة يومية فى دبى وبورصات دول مجلس التعاون الخليجى، وكذلك فى الدول غير المصدرة للنفط التى تتراجع بها معدلات الاستثمارات الخارجية وتحويلات العمالة من الخارج فى حين تستمر مؤشرات البطالة والفقر فى الصعود.
التحديات الداخلية:
بعد العرض للتحديات الدولية والإقليمية التى يمر بها العرب فى خواتيم 2009، انتهيت فى مقال الأسبوع الماضى إلى الإشارة إلى التحديات الداخلية التى تواجهها مجتمعاتنا نتيجة أزمة الدولة الوطنية وتعثر الإصلاح السياسى والتنمية المستدامة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، واعدا القراء الكرام بتخصيص مقال اليوم للتحديات هذه.
تمر الدولة الوطنية ومؤسساتها فى الأغلبية الساحقة من المجتمعات العربية بأزمة عميقة تتنوع مستوياتها ومضامينها. فالتطورات الراهنة فى اليمن تنذر بخطر انهيار الدولة على وقع عجز متنامى عن ضمان حد أدنى من الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأغلبية المواطنين، وكذلك تمرد مناطق فى الشمال (حركة الحوثيين) والجنوب (الحراك الانفصالى) على السلطة المركزية بعد أن عانت طويلا من التهميش الاقتصادى والسياسى والثقافى، وأخفقت ديناميكية التعددية السياسية منذ الوحدة اليمنية (بداية التسعينيات) فى بلورة مساحات حقيقية للتمثيل والتعبير المنظم عن مطالبها داخل المؤسسات الرسمية.
ثم يفاقم من خطر انهيار الدولة فى اليمن عاملان إضافيان، المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية ــ خاصة المياه ومصادر الطاقة ــ فى علاقتها بالكثافة السكانية المتصاعدة، والتدخل الخارجى من بعض الأطراف الإقليمية ومن تنظيمات عنيفة كالقاعدة التى أضحت بعض مناطق اليمن بمثابة سماوات مفتوحة لفعلها التخريبى.
وإن كانت اليمن اليوم، وبدرجة أقل السودان ومن قبلهما الصومال، تواجه خطر انهيار الدولة، فإن مجتمعات عربية أخرى تعانى من تراجع شديد فى قدرات وفاعلية الدولة على نحو يفقدها تدريجيا شرعية الوجود أو يحول بينها وبين استعادتها.
والإشارة هنا هى من جهة إلى لبنان الذى لم يعد فى استطاعة مؤسسات دولته الاضطلاع بدور حقيقى فى تخصيص موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية بعد أن استولت الطوائف وتنظيماتها السياسية على الوظيفة التوزيعية للدولة، ومازالت استعادة الأجهزة العسكرية والأمنية لحقها الدستورى فى احتكار الاستخدام المشروع للقوة المسلحة فى الداخل والخارج وممارسته على الأرض غائبة بالكامل.
من جهة أخرى، تبدو الوضعية الراهنة للعراق مع انهيار استقرار عام 2008 وبدايات 2009 الأمنى ومع الشكوك المتنامية فى الآونة الأخيرة حول قدرة ورغبة أطراف اللعبة السياسية العراقية الالتزام بقواعد عادلة لإداراتها وللتنافس السلمى على السلطة مثيرة للعديد من المخاوف والتساؤلات بشأن مستقبل الدولة الوطنية وشرعية مؤسساتها.
فاستمرار غياب السلم الأهلى والتوافق السياسى والمجتمعى يدفع المواطنين العراقيين للارتماء فى أحضان طوائفهم وتنظيماتها كسبيل وحيد لضمان الحماية والحصول على حد أدنى من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، ويحول بينهم وبين تطوير شعور جمعى بالثقة فى نزاهة وعدالة الدولة العراقية الجديدة وفاعلية مؤسساتها.
يضاف إلى خطر انهيار الدولة فى اليمن والسودان وأزمة شرعية الوجود التى ترد على مؤسساتها فى لبنان والعراق، وكلا الأمرين يعطى مصداقية كبيرة لاستخدام مفهوم الدولة الفاشلة فى الحالات الأربع، مستويان مكملان لأزمة الدولة الوطنية هما الأكثر شيوعا فى العالم العربى وإن صعب توصيفهما بعبارات رنانة أو جمل خاطفة.
ففى الخليج ــ باستثناء الكويت ــ وكذلك فى سوريا وليبيا تتبدى ثنائية خطيرة بين مجتمعات تعرضت بناها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية خلال العقود الماضية لتحديث أنتج حقائق جديدة على الأرض، ودول تحكم هذه المجتمعات، استنادا إلى ترتيبات سياسية قديمة أحادية الطابع باتت تخفق بصورة شبه يومية فى الاستجابة لمقتضيات وأفاق التطور المجتمعى.
فعلى سبيل المثال، فى حين تغيب التعددية السياسية والفصل الفعلى بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن الخليج وترد العديد من القيود على ممارسة المواطنين للحريات العامة والمدنية، فى استمرارية تقليدية لسلطوية لم تنقطع منذ نشوء أو استقلال دول الخليج، تعكس البنى الاقتصادية المدارة وفقا لمبادئ اقتصاد السوق والإدارية ذات التعقد المشابه لمجتمعات الغرب الرأسمالى، صورة لمجتمعات حديثة لم يعد فى الإمكان اختزالها فى القبيلة والعشيرة والولاءات البسيطة لأولى الأمر.
وبدرجة أقل يظهر الواقع السورى والليبى الراهن ذو الثنائية الخطيرة، المجتمع المتطور المعقد فى مواجهة الدولة التقليدية الأحادية، وإن اكتست الدولة بالرداء الجمهورى ورفعت مؤسساتها شعارات تقدمية.
وعلى الرغم من نجاح دول الخليج وسوريا وليبيا إلى اليوم فى المحافظة على استقرار الحكم إلى حد بعيد، معتمدين فى ذلك إن على ريع الوفرة النفطية أو قمع الأجهزة الأمنية أو كليهما، إلا أن ثنائية المجتمع المتطور والدولة التقليدية تنذر بتوترات قادمة سيرتبها عملا نزوع قوى المجتمع الحية إلى الاصطدام بحكام الدول لانتزاع المزيد من الحريات المدنية والعامة وللدفع باتجاه تحديث المؤسسات.
ثم يأتى غياب الرضاء الشعبى عن السياسة والساسة فى مجتمعات كالمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن، وهى فى المجمل تتمتع بتواكب حداثة بنى مجتمعاتها مع حداثة ظاهرية لمؤسساتها ولا تتعرض شرعية وجود دولها لمساءلة شعبية واسعة النطاق، ليشكل المستوى الأخير لأزمة الدولة الوطنية فى العالم العربى.
تختلف طبيعة الترتيبات السياسية فى المجتمعات محل النظر هنا وتتنوع مكونات نخب الحكم بها، كما تتفاوت قدرات مؤسسات الدولة على ضمان الخدمات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمواطنين، وتتطور الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى اتجاهات متباينة، بعضها إيجابى كحالة تونس التى نمت طبقتها الوسطى سريعا خلال العقود الثلاثة الماضية، والبعض الآخر سلبى كالمثالين المغربى والمصرى، وبهما يضغط الفقر على ما يزيد على 20٪ من المواطنين.
مع ذلك، يوحد هذه المجتمعات تصاعد معدلات الرفض الشعبى الموجه ضد مؤسسات الدولة وحكامها وفقدان قطاعات واسعة من المواطنين الأمل فى غد أفضل على الرغم من الاستقرار النسبى الذى تتمتع به الدولة فى المغرب العربى ومصر والأردن.
والحقيقة أن أبرز إرهاصات هذا الرفض الشعبى أضحت ترتبط فى المقام الأول بتواتر الاحتجاجات الاجتماعية ذات الخلفيات المحددة، كمكافحة الغلاء والبطالة وتحسين الخدمات الأساسية ومستويات الأجور والإعانات المقدمة لمحدودى الدخل وغيرها، وبدرجة أقل بالعزوف الشعبى عن المشاركة فى الحياة السياسية الرسمية بمقاطعة الانتخابات والابتعاد عن الأحزاب بعد أن شاع الشك بصدقيتها وقدرتها على التعبير المنظم عن مطالب وتطلعات المواطنين.
تثقل كاهلنا أزمة الدولة الوطنية فى العالم العربى بمستوياتها الأربعة، خطر انهيار الدولة وتحدى فقدانها شرعية الوجود وثنائية المجتمع المتطور فى مواجهة الدولة التقليدية وغياب الرضاء الشعبى فى الدول المستقرة، وتحول دون اضطلاع مؤسسات الدولة بأدوارها ووظائفها الرئيسية. والحصيلة المؤلمة لذلك فى حدها الأدنى هى إعاقة التنمية المستدامة فى مجتمعاتنا واستمرار تعثر مساعى التحول نحو الديمقراطية والحكم الرشيد، وفى حدها الأقصى تفكك الدولة وتقطع أوصال المجتمع. هنا تكمن التحديات الداخلية الكبرى التى سنواجهها كعرب خلال الأعوام القادمة وهنا مناط البحث عن سبل وإستراتيجيات الحل.
فهل ستسمح ثقافتنا السياسية وبنية نقاشاتنا العامة، بما صار يغشاهما من تحايل فى الطرح وتهافت فى القضايا، بالتناول الجاد للتحديات المترتبة على أزمة الدولة الوطنية دون خطوط حمراء وبموضوعية جريئة تتناسب مع ما يتهددنا إن فى اليمن ولبنان أو فى الخليج والمغرب العربى ومصر؟ أغالب شكوكى وتشاؤمى لأضع كلمة «أتمنى».