مقدّمة
تعيش تونس منذ العام 2011 بما يتجاوز إمكانياتها. لقد تدفّقت القروض والمساعدات الخارجية إلى البلاد بعد الانتفاضة الشعبية في فترة 2010-2011 لدعم عملية التحوّل الديمقراطي، بيد أن هذا التمويل أدّى إلى طفرة استهلاكية غير مستدامة. وما يزيد الأمور سوءًا أن القدرة الإنتاجية للبلاد بدأت تتراجع بفعل غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فازدادت إمكانية حدوث انهيار مالي خطير. لذا، لا بدّ من إجراء إصلاحات ضرورية لإبعاد شبح الأزمة.
يجب أن يكون النظام السياسي التونسي قادرًا على تفادي مثل هذه النتائج الكارثية. في غضون ذلك، يسود توافقٌ في أوساط معظم الخبراء على أن المخاطر تزداد يومًا بعد يوم، وينبغي اتّخاذ الإجراءات اللازمة للتصدّي لها. لكن الآراء تتباين بشأن نطاق وتوقيت ونوع البرنامج المطلوب تنفيذه لمعالجة مشاكل البلاد. فتطبيق تدابير إصلاحية قاسية قد يؤدّي إلى اندلاع أزمة اجتماعية سياسية، في حين أن عدم تنفيذ الإصلاحات سيفضي على الأرجح إلى حدوث انهيار اقتصادي في المستقبل. يبدو أن الخيار الأسهل سياسيًا هو المماطلة وكسب الوقت، لكن جُلّ ما يفعله هذا المسار هو تأجيل الأزمة، ما يُنذِر بتفجُّر الأوضاع بشكلٍ أكبر. إذًا، يكمن التحدّي في فتح كوّةٍ للخروج من نفق الأزمة المظلم، من خلال تعزيز الثقة في مشروع وطني يُعدّ مقبولًا سياسيًا ويستطيع النهوض بالبلاد نحو مستقبلٍ واعد.
في ظل هذه التوجهات السلبية الناجمة عن الممارسات غير المستدامة والركود الاقتصادي، قد لا يَعمَد الفاعلون الاقتصاديّون إلى التكيّف مع الوضع الطبيعي الجديد فحسب، بل يُحتمَل أن يُحاولوا أيضًا نقل الأعباء إلى قطاعات أخرى من الاقتصاد، وبالتالي إلحاق أضرارٍ أكبر. يجدر النظر إلى المجتمع، وما يضمّه من مؤسسات ومنظمات، على أنه أشبه بنظام هيدروليكي. فكلّما ازداد الضغط، أصبحت الأجزاء الأضعف من الشبكة في دائرة الخطر. فتوجيه الضغط من جانب معيّن، بدلًا من التعامل مع جذور المشكلة، يزيد الضغط الممارَس على الجوانب الأخرى. وفي نهاية المطاف، سوف يتسرّب الضغط المتراكِم من النقاط الأضعف في النظام. بشكلٍ عام، لا يتبع التدهور خطًّا مستقيمًا، بل يتراكم الضغط بطرق خفيّة إلى حين تفجُّر النظام واندلاع أزمة شاملة.
قد يحدث ذلك بطرقٍ عدّة: فإمّا تُستخدَم احتياطيات الدولة من العملات الأجنبية تدريجيًا، إلى حين حدوث تهافت على سحب الودائع، ما يؤدّي إلى انهيار قيمة العملة الوطنية؛ أو يُستنزَف القطاع الخاص نتيجة الإجراءات الرامية إلى تغطية خسائر الدولة المالية، ما يقلّص الاستثمارات، ويفضي إلى تراجع النمو الاقتصادي؛ أو تُرفَع الضرائب أو تُقلَّص الخدمات العامة، أو يُطبَّق هذان التدبيران بالتوازي، ما يطلق شرارة الاضطرابات الاجتماعية؛ أو تُموَّل العجوزات المالية بقروض جديدة (أو بتراكم المتأخرات)، إلى أن يتوقّف الدائنون عن الإقراض، فتصبح طباعة النقود الحلّ الوحيد، ما يُدخل البلاد في دوّامة من التضخم المفرط؛ أو تستمرّ المصارف في إقراض الدولة إلى أن يفقد المودِعون ثقتهم بالقطاع المصرفي ويتهافتون إلى سحب ودائعهم من المصارف. وستقف البلاد أمام مهمّة إعادة بناء ما هُدم من الصفر، مقابل أثمان باهظة.
في هذا السياق بالذات تنطلق أعمال مختبر الاستدامة في تونس، التابع لكارنيغي، والذي ينطوي على هدفَين رئيسَين: أولًا، سيسعى المختبر إلى رصد المخاطر الاقتصادية المُحدقة، من خلال إعداد مراجعة دورية لقياس أداء تونس في القطاعات الاقتصادية والمالية والضريبية والسياسيةوالاجتماعية. وثانيًا، سيتابع المختبر المقترحات التي تقدّمها الجهات الوطنية والخارجية حول المسارات المُحتملة لتحقيق التقدّم، وسيحلّل هذه المبادرات ويصدر تقارير بشأنها سعيًا إلى تجنّب أسوأها. حتى الآن، قوبِلت اقتراحات عدّة قدّمها صندوق النقد الدولي برفض السلطات التونسية. ثمة مقترحات بديلة، قدّمت نبذة عن بعضٍ منها أطراف فاعلة في المجتمع المدني، لكنها لم تتحوّل بعد إلى واقع ملموس. لذلك، ومن أجل دعم الحوار الاجتماعي، سنسلّط الضوء على مبادرات متنوعة ونحاول تقييم أثرها، لنطرح في ما بعد سيناريوهات عدّة تعرض توجهات الاقتصاد الكلّي، سنعمل على تحديثها مع الوقت.
نبذة عن أداء تونس الاقتصادي في العام 2023
تشهد تونس معضلةً حقيقية نتيجة المشاكل المالية والاقتصادية المتراكمة التي تتخبّط فيها. فالاعتماد على التدابير التقشفية حصرًا يهدّد بإشعال فتيل أزمة اجتماعية، نظرًا إلى أن الأوضاع الاقتصادية والمالية صعبة للغاية أساسًا. لكنّ عجز تونس عن إبرام اتفاقٍ مقبول مع صندوق النقد الدولي لمعالجة مكامن الضعف الهيكلية واستعادة ثقة المستثمرين، يضع البلاد على شفا أزمة مالية.
في ما يلي بعض أبرز المعطيات التي شهدتها تونس خلال العام الماضي، والتي أثارت القلق حيال المسار الذي تنتهجه البلاد:
- بحلول العام 2023، تعثّرت عملية النمو في تونس، ما فاقم الأداء الاقتصادي المتردّي الذي تسجّله البلاد منذ فترة طويلة. وهكذا، غرقت تونس في ركودٍ اقتصادي مُقلِق تزامن مع ارتفاع معدّلات التضخم. وعلى الرغم من قدرة السكان على الصمود والتكيّف، يبقى أن الضغوط الاجتماعية آخذةٌ في الازدياد.
- قوّضت الاختلالات الكبيرة في المالية العامة قدرة الحكومة على التصرّف. وقد يتدهور الوضع المالي في تونس بشكل إضافي نتيجة تراكم المتأخرات وتنامي عبء الديون المضمونة من الحكومة.
- تراجع اعتماد تونس على التمويل الخارجي بشكلٍ مطّرد نظرًا إلى غياب أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وأدّى ارتفاع وتيرة الاقتراض المحلّي إلى مزاحمة القطاع الخاص، ما فاقم الركود الاقتصادي.
- تكمن مدعاة القلق الكبرى في ظل الركود الذي يخيّم على تونس في التهديدات المُحدِقة بالدعائم الأساسية للاقتصاد التونسي، التي قد تقوّض آفاق النمو في البلاد على المدى الطويل.
- تواجه تونس معضلة صعبة، ولا يمكنها تجاهل الاختلالات المالية الداخلية والخارجية التي تعاني منها. فالإبقاء على الوضع القائم سيؤدّي، عاجلًا أم آجلًا، إلى وقوع أزمة مالية، إلّا أن تطبيق تعديلات جذرية ومفاجئة قد يشعل فتيل أزمة اجتماعية سياسية. لذا، يكمن الخيار الأفضل في تعزيز النمو الاقتصادي من أجل تجاوز التحديات المُحدقة. لكن هذا المسار يتطلّب شكلًا جديدًا من أشكال القيادة التي تعمل على تشكيل ائتلافٍ من أجل التغيير، وبناء قدرٍ كافٍ من الثقة في أوساط المجتمع، من أجل خوض غمار المشروع الإصلاحي الطموح.
الاقتصاد: تعثُّر عملية النمو
في العام 2023، توقّع صنّاع السياسات المالية والشركاء الدوليون أن يحتل الاقتصاد التونسي أولوية متقدّمة على جدول الأعمال الوطني، إذ اعتقدوا أن اتفاقًا مرتقبًا مع صندوق النقد الدولي سيؤدي إلى تحفيز التعافي الاقتصادي بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في كانون الأول/ديسمبر 2022. لكن ذلك لم يحدث، بل تعثّر النمو الاقتصادي، بحيث سجّل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال الفصل الثاني من العام 2023 معدّل نمو سلبيًا قدره 1.3- في المئة، وأحرز خلال الأشهر التسعة الأولى من العام نفسه نموًّا إيجابيًا طفيفًا بنسبة 0.7 في المئة. وتشير التقديرات إلى بلوغ معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 0.6 في المئة في العام 2023، وهو الأداء الأسوأ منذ العام 2011 (باستثناء الفترة التي وجّهت خلالها جائحة كوفيد-19 ضربة موجِعة إلى الاقتصاد العالمي). وإضافةً إلى غياب الإصلاحات السياسية، ألحقت الظروف المناخية المعاكسة أضرارًا جسيمة بالموسم الزراعي، ما أدّى إلى تراجع ملحوظ في محاصيل الحبوب، التي انحدرت بنسبة 80 في المئة عن المستوى الذي سجّلته قبل عام. وعلى الرغم من التعافي الجدير بالثناء في قطاع السياحة خلال العام 2023، بقيت المؤشرات دون المستويات التي كانت سائدة قبل تفشّي وباء كوفيد-19.
واقع الحال أن الاقتصاد التونسي يسجّل أداءً أدنى بكثير من إمكانيات البلاد. فقد كانت تونس متفوّقة في نموها الاقتصادي خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، حين كان نموذجها الاقتصادي يستند إلى سياسة استبدال الواردات، وأيضًا خلال التسعينيات بعد أن عدّلت هذا النموذج ليصبح موجّهًا نحو التصدير. لكن الصعوبات بدأت تطلّ برأسها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين عجزت البلاد عن رفع مستوى إنتاجيتها بشكل كافٍ، وبالتالي لم تتمكن من مواكبة مسار توسّع الأسواق العالمية. ومنذ ذلك الحين، يشهد الاقتصاد التونسي نموًا بوتيرة أقل من مثيله في بلدان متوسطة الدخل حول العالم (انظر الشكل 1)، لأنه فشل في استحداث ما يكفي من الوظائف لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل وزيادة المداخيل. ويُعزى سبب الأداء الاقتصادي الضعيف لتونس إلى مكامن ضعف هيكلية، إذ إن بنيتها الإنتاجية عالقة في أنشطة ذات قيمة مضافة منخفضة، وشركاتها تشهد ركودًا، واقتصادها لا يتصّف بالدينامية الكافية لاستحداث فرص العمل التي يطمح إليها الشباب التونسي كمًّا ونوعًا.
زادت هذه الأوضاع من وطأة التظلّمات الشعبية وأشعلت جذوة الانتفاضة في العام 2011. لكن أوجه الضعف الاقتصادية تفاقمت على مدى العقد السابق، بسبب تأخُّر الإصلاحات ووقوع أزمات خارجية واختلال النظام السياسي، ما أدّى إلى تراجع أداء النمو الاقتصادي إلى 0.9 في المئة فقط. وأسفرت سلسلةٌ من الصدمات الاقتصادية السلبية التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الأخيرة عن مفاقمة التدهور الحاصل بوتيرة متسارعة (انظر الشكل 2)، وأبرزها تفشّي جائحة كوفيد-19، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، وتراجع الطلب الأوروبي على المنتجات التونسية، فضلًا عن زيادة معدّلات الفائدة العالمية.
الواقع أن الأداء الضعيف الذي سجّله الاقتصاد التونسي في العام 2023 ليس سوى امتدادٍ لمسارٍ يسلكه منذ عقدٍ من الزمن ويتّصف بضعف العوامل التي تسهم في بناء الحركة الاقتصادية. فقد اقتصر النمو المُحقَّق على كلٍّ من القطاع العام والاقتصاد غير الرسمي، فيما شهدت الأقسام الدينامية من الاقتصاد انكماشًا (انظر الشكل 3). وساهمت الأزمات المتتالية وانعدام الاستقرار السياسي في تقويض القطاع السياحي، بينما تضرّرت قطاعات اقتصادية عدّة بسبب توقّف التوسّع التصنيعي وانهيار إنتاج الفوسفات.
تزامن الانخفاض الحاد في النمو مع هبوطٍ سريع في الاستثمارات الخاصة والمدّخرات الوطنية. فقد سجّلت نسبة الاستثمارات إلى الناتج المحلي الإجمالي مستويات متدنّية تاريخية، إذ تراجعت من 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أقل من 10 في المئة راهنًا (انظر الشكل 4). وبين العامَين 2022 و2023، واصلت فئات الاستثمار كافة مسارها التنازلي. وبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة 0.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الأول من العام 2023، مقارنةً مع 2 في المئة في العام 2012، ومع متوسط بلغ 4 في المئة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وترافق هذا الانخفاض الحادّ في الاستثمارات الأجنبية المباشرة مع تراجع الاستثمارات المحلية، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتقلُّص المدّخرات. ويُعزى سبب ذلك بدوره إلى العجوزات الكبيرة في المالية العامة وإلى انخفاض مدّخرات الأُسر بسبب تدنّي مداخيل الطبقة الوسطى.
فاقم هبوط الاستثمارات تدهور أحوال القطاع الخاص، وهو الركيزة الأساسية لاستحداث فرص العمل وبالتالي لتأمين مصادر الدخل. وحدث ذلك نتيجة عوامل عدّة. فقد أسفر لجوء الحكومة إلى الاقتراض الداخلي عن مزاحمة تمويل القطاع الخاص على نحو متزايد. فبحلول أواخر تموز/يوليو 2023، لم يرتفع حجم تمويل النظام المصرفي المحلي للقطاع الخاص إلّا بنسبة 3.2 في المئة، وهي النسبة الأدنى المسجلة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية على الأقل، ناهيك عن أنها أدنى بكثير من الزيادة المسجّلة في معدّلات الائتمان الممنوح للدولة والبالغة 21 في المئة. وفي منتصف العام 2023، انخفض إجمالي حجم الائتمان المقدّم إلى القطاع الخاص من مستوياته المسجلة قبل العام 2011 والبالغة 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى 76 في المئة (انظر الشكل 5). وأكّدت استقصاءات البنك الدولي المعنية بمؤسسات الأعمال التجارية للعام 2020 أن الحصول على التمويل شكّل عقبة كأداء في وجه توسّع الشركات (انظر الشكل 6).
لكن تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي والتدهور المطّرد للقطاع الخاص نجما أيضًا عن العقبات البيروقراطية والسياسات التنظيمية التي تحدّ من المنافسة وتشجّع على الريع. وتكشف استقصاءات البنك الدولي المعنية بمؤسسات الأعمال التجارية عن عاملَين آخرَين يقيّدان نشاط الشركات، وهما: انتشار الفساد على نطاق واسع، وارتفاع المخاطر السياسية والاقتصادية الكلّية. فالكارتِلات تهيمن على قطاعات اقتصادية رئيسة، ما يضمن عدم دخول أطراف جديدة إلى قطاعات أساسية، إلى جانب قطاعَي الخدمات والمصارف. وشكّلت القواعد التنظيمية المعقّدة للغاية أرضًا خصبة لانتشار ممارسات الريع والفساد. وباتت العلاقة بين الشركات والدولة متشنّجة للغاية بعد أن وضع الرئيس قيس سعيّد مكافحة الفساد ضمن أولوياته، عقب استيلائه على السلطة في 25 تموز/يوليو 2021. لكن بدلًا من السعي إلى إصلاح القوانين والأنظمة، ركّز الرئيس على مصادرة "الثروات التي تمّ جمعها بصورة غير مشروعة"، ما أثار شكوكًا بأن شركات كبرى تُرغَم على تعويض خسائر القطاع العام وإنقاذه.
تحتاج البلاد إلى إجراء إصلاحاتٍ من شأنها تعزيز التنافسية وسيادة القانون وبيئة الأعمال بهدف بثّ الروح الدينامية في القطاع الخاص. فقطاع الأعمال في تونس خاضعٌ لهيمنة احتكارات ضخمة من القطاعَين العام والخاص، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من الشركات الصغيرة غير الرسمية. ويفتقر الاقتصاد التونسي بشدّة إلى الشركات المتوسطة الحجم - التي تُعتبر في الكثير من الأحيان الأكثر ديناميةً في توفير فرص العمل حول العالم - بسبب التنافس غير العادل من القطاع غير الرسمي وأيضًا من الشركات المهيمنة التي تتمتّع بامتيازات. ويبرز هذا التباين من خلال توزيع الشركات في القطاع الخاص وفق حجمها، إذ إن 86 في المئة من الشركات التونسية كافة تُصنَّف ضمن فئة شركات الشخص الواحد. وفي الوقت نفسه، لا تمثّل الشركات الكبرى، التي يتجاوز عدد موظفيها مئة ألف شخص، سوى 0.4 في المئة من إجمالي عدد الشركات، لكنها توفّر أكثر من ثلث إجمالي الوظائف، ما يعادل حصة الوظائف في القطاع غير الرسمي. وتُعدّندرة الشركات المتوسطة الحجم السبب الأساسي خلف تدنّي مستوى الابتكار الاقتصادي.
الأوضاع المالية: عجوزات كبيرة وحيّز مالي ضيّق ومخاطر اجتماعية عالية
في العام 2023، لم تتوصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج إنقاذ مالي جديد، على الرغم من الاختلالات الكبيرة في ماليتها العامة. وذكرت الحكومة التونسية في ميزانيتها للعام 2023 أنها تعتزم اقتراض حوالى 5 مليارات دولار من شركائها الدوليين لتمويل عجزها الأولي وخدمة الدين العام. ومع ارتفاع المخاطر المالية المُحدقة بتونس، لم تعد البلاد قادرة على الوصول إلى أسواق السندات بالعملات الأجنبية (أي سندات اليوروبوند) أو الحصول على التدفقات المالية الثنائية والمتعدّدة الأطراف التي تمّ التعهد بدايةً بمنحها لتونس شرط إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي. نتيجةً لذلك، لم تستطع تونس اقتراض أكثر من نصف المبالغ التي تحتاجها، ما فاقم الضغوط المُمارسة على سوقها المالية المحلية. إذًا، تعاني خزينة الدولة في الوقت الراهن من نقصٍ في السيولة اللازمة لتغطية نفقاتها الأساسية، وهذا أمرٌ غير مسبوق. لقد استطاعت لغاية الآن التعامل مع الوضع من خلال سداد النفقات "الحسّاسة" فقط – من رواتب ومعاشات تقاعدية وخدمة الدين – بالتزامن مع إرجاء مدفوعات مستحقّة لبعض المورّدين. لكن هذا القرار لم يفعل سوى تأجيل يوم الحساب، ما قد يفاقم التباطؤ الاقتصادي.
خلال العقد الماضي، تمّ تحقيق الحدّ الأدنى من النمو الاقتصادي نتيجة اعتماد سياسة التوسع في الإنفاق العام، والذي موّلته القروض. لكن هذه العملية وصلت إلى خواتيمها. ففي ظل غياب أيّ اتفاق مع صندوق النقد الدولي وارتفاع المخاطر المالية في البلاد، كما أظهرت وكالات التصنيف الائتماني، فقدت تونس إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية الدولية التي باتت ترفض إقراضها المال. في هذا الإطار، لا بدّ من أن تلجأ تونس إلى إعادة تمويل دينها القصير الأجل. لكن صعوبة نفاذ البلاد إلى الأسواق المالية العالمية يحول دون تمكّنها من الحصول على قروض جديدة يمكن أن تستخدمها لإعادة تمويل القروض القديمة التي يقترب موعد استحقاقها. نتيجةً لذلك، لا يتعيّن على تونس اليوم تلبية موجبات خدمة الدين فحسب، بل عليها أيضًا دفع أصل الدين من دون إمكانية إعادة تمويله. وعلى الرغم من أن خدمة الدين لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال تقليص النفقات العامة بشكل كبير، لن يفضي التقييد الشديد للحيّز المالي سوى إلى مفاقمة المعضلات السياسية التي تواجهها الحكومة.
سجّل الرصيد المالي الأولي للبلاد عجزًا سنويًا بدءًا من العام 2011 ولغاية العام 2023. فبلغ متوسط العجز حوالى 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي منذ العام 2010 (انظر الشكل 7)، مقارنةً مع تسجيله فائضًا في عهد الرئيس زين العابدين بن علي قبل العام 2011. وبعد العام 2017، باشرت تونس عملية توحيد المالية العامة وقلّصت عجزها، غير أن تفشّي جائحة كوفيد-19 تسبّب بانتكاسة حادّة. وبلغ متوسط العجز ما يعادل 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين العامَين 2020 و2022.
بات تمويل العجز المالي مُرهِقًا جدًّا. لقد كان التمويل في بادئ الأمر يتأتّى من قروض سخية من الجهات المانحة الثنائية والمصارف الإنمائية المتعدّدة الأطراف، إلى جانب قروض من أسواق سندات اليوروبوند بأسعار الفائدة المتدنّية التي كانت سائدة خلال العقد الثاني من القرن الحالي. لكن حجم العجوزات ظل كبيرًا، على الرغم من توصُّل تونس إلى اتفاقَين مع صندوق النقد الدولي خلال العامَين 2013 و2016. وفيما أصبح اجتذاب القروض الخارجية صعبًا، ولا سيما بعد العام 2017، كان لا بدّ من تمويل جزءٍ أكبر من العجز محليًا، ما أسفر عن مزاحمة الاستثمارات الخاصة بشكلٍ إضافي. وفي العام 2022، بلغت نسبة الدين العام 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً مع 68 في المئة في العام 2019، مع تقارب حجمَي الدين الداخلي والدين الخارجي (انظر الشكل 8).
أدّى تقلُّص الحيّز المالي إلى تقييد هامش المناورة المتاح أمام الحكومة التونسية. يُذكر أن ثمة ثلاث طرق لتخفيض عجز الميزانية وهي إمّا زيادة الضرائب، أو تقليل النفقات، أو تسريع وتيرة النمو الاقتصادي. ومن المستبعد أن يزداد زخم النمو الاقتصادي التونسي على المدى القصير بالقدر الذي يسمح بتفادي تنفيذ بعض الإجراءات التقشّفية على الأقل.
تُعدّ الإيرادات الضريبية مرتفعة مقارنةً مع المعايير الدولية، إذ سجّلت 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023 (انظر الشكل 9). وعلى الرغم من أن المجال المتاح أمام زيادة الإيرادات محدود، قُدِّمَت اقتراحات لجعل الضرائب تصاعدية أكثر. ومنذ الإصلاح المالي في العام 2016، تمّ تحديد الحدّ الأقصى للضريبة المفروضة على ذوي الدخل المرتفع عند 35 في المئة. هذا وتشكّل الضرائب غير المباشرة، التي تؤثّر في المقام الأول على الطبقة الوسطى، أكثر من نصف الموارد الضريبية. علاوةً على ذلك، من شأن إجراءاتٍ مثل إصلاح نظام الضريبة على القيمة المضافة من خلال التخلّص من الثغرات، ورفع الضريبة على السلع الفاخرة، وخفضها على السلع الأساسية، أن تحسّن توزيع العبء الضريبي. لقد أقرّ قانون المالية لسنة 2023 ضريبة جديدة على الثروة العقارية، لكن من المستبعد أن تُحصِّل مبالغ كبيرة على المدى القصير.
من الصعب التعامل مع مسألة النفقات أيضًا. ففي أفضل الأحوال، يُعتبر إقدام الحكومة على خفض فاتورة الأجور (كحصة من الناتج المحلي الإجمالي) عملية بطيئة؛ ويطرح تقليص التحويلات المالية إلى الشركات العمومية المملوكة للدولة والمسؤولة عن تزويد السوق بالمواد الغذائية وموارد الطاقة، والحدّ من الدعم على السلع الأساسية، تحديات على الصعيد السياسي؛ ناهيك عن أن تقليص فاتورة خدمة الدين صعبٌ أيضًا. حتى الآن، شكّلت الاستثمارات العامة العامل الوحيد الذي أمكن تعديله، لذا تراجعت إلى ما دون 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات القليلة الماضية (انظر الشكل 10).
بدأت فاتورة الأجور بالانخفاض بعد أن ارتفعت بشكل كبير خلال العقد الماضي. فعندما ازدادت الأجور وتسارعت وتيرة التوظيف، بلغت فاتورة الأجور 16.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020، قبل أن تهبط إلى 14.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 (انظر الشكل 10)، وهي نسبة لا تزال مرتفعة بحسب المعايير الدولية. لا يمكن لأيّ برنامج إصلاحي أن يتجاهل الحاجة إلى خفض فاتورة الأجور على المدى المتوسط، لكنّ إجراء تخفيضات كبيرة أمرٌ صعب على المدى القصير بسبب الظروف الاجتماعية العصيبة. وفي أيلول/سبتمبر 2022، وقّعت الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل اتفاقًا لزيادة أجور أعوان الوظيفة العمومية بواقع 3.5 في المئة فقط خلال السنوات الثلاث المقبلة (من 2023 إلى 2025). لكن من المرجّح أن يبقى هذا التعديل أدنى من معدّل التضخم، ما يعني أن الأجور الحقيقية ستنخفض بصورة تدريجية. في هذا الإطار، أطلق سعيّد مؤخرًا حملة شاملة لمراجعة التعيينات التي حصلت في الوظيفة العمومية خلال العقد الفائت، قد تفضي في نهاية المطاف إلى تسريح عددٍ كبير من موظّفي القطاع العام.
واصلت نسبة التحويلات المالية والدعم ارتفاعها لتصل إلى 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 (انظر الشكل 11)، وهي من بين أعلى النسب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لقد اتّسع نطاق السياسات الاجتماعية بصورة تدريجية بعد العام 2011، بيد أن السنوات القليلة الماضية شهدت ارتفاعًا حادًّا في الدعم للتخفيف من حدّة التداعيات الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومصادر الطاقة العالمية. تشمل السلع التي يغطيها الدعم بشكل أساسي المنتجات البترولية والكهرباء والغاز والحبوب، وقد ارتفعت تكاليفه من 2.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2010 إلى 6 في المئة في العام 2018، لتتجاوز نسبة 10 في المئة في العام 2022 (انظر الشكل 11). وبلغت نسبة التحويلات – أي التحويلات المالية الاجتماعية والتمويل المخصّص للشركات المملوكة للدولة على السواء – حوالى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 (انظر الشكل 11).
يُعدّ نظام الدعم، إلى جانب تكلفته المرتفعة، غير منصف اجتماعيًا، إذ إنه يفيد فئات الدخل المرتفع أكثر من غيرها، ويشجّع على الاستهلاك المفرَط وغير الفعّال، من دون أن يحسّن الظروف المعيشية للفئات الفقيرة، التي من المُفترض أن تكون المستفيدة الأساسية منه. مع ذلك، يطرح الانتقال من نظام الدعم الشامل إلى نظام الدعم الموجّه تحديات على المستوى السياسي. في العام 2023، تمّ اللجوء إلى التقنين وترشيد التوريد لخفض النفقات على الدعم، ما أدّى إلى نقصٍ في توافر الموادّ الغذائية. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2023، كان إنفاق الدولة على دعم المواد الغذائية أقل بعشر مرات ممّا كان عليه خلال الفترة نفسها من العام 2022. يُشار إلى أن مثل هذا الترشيد ليس مستدامًا من الناحية الاجتماعية، بل الحلّ الأفضل هو استبدال نظام الدعم الشامل بشبكة أمان اجتماعي واسعة ومحدّدة الأهداف. فشبكة الأمان الضيّقة قد تضرّ بالطبقة الوسطى وتثير استياءً شعبيًا وتطلق شرارة المظاهرات العمّالية. وقد أدّت المحاولات السابقة لإلغاء الدعم إلى اندلاع مظاهرات في جميع أنحاء البلاد في العام 1978، وأيضًا في العام 1984.
بات تمويل عجز الميزانية يشكّل تحديًا حقيقيًا، إذ توقفت القروض الخارجية تقريبًا في وقتٍ أضحت خدمة الدين تمثّل عبئًا كبيرًا. وفي أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2023، تجاوزت تكاليف خدمة الدين الخارجي 3.2 مليارات دولار، أو ما يعادل نسبة 6.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (مقارنةً مع 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022). وقد زاد تراجع التمويل الخارجي الاعتماد على التمويل المحلي، ما أدّى إلى مزاحمة الاستثمارات الخاصة بشكلٍ أكبر، وجرّ البلاد إلى حلقة مفرغة من الدين الآخذ في الارتفاع.
شهد وضع الماليّة العامة التونسية تدهورًا إضافيًا بسبب تراكم المتأخرات وازدياد الالتزامات الطارئة المرتبطة بالقروض المضمونة من الحكومة إلى الشركات المملوكة للدولة. تجدر الإشارة إلى أن ما من معلومات دقيقة حول حجمهما، إذ يُعتقد بأن المتأخرات تناهز مئات الملايين من الدولارات، ويُقدّر بأن حجم الديون المضمونة من الحكومة إلى الشركات المملوكة للدولة يتراوح بين 20 و40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتشير الحكومة التونسية إلى أن 110 شركة مملوكة للدولة تعمل في مجموعة واسعة من القطاعات، من بينها الاستيراد والتوزيع، والنقل، والتصنيع، والتمويل. ويُعزى تراكم الديون إلى تكبُّد بعض هذه الشركات المملوكة للدولة خسائر متزايدة بسبب فواتير أجورها المرتفعة، والسلع المدعومة إنما غير المموّلة التي عليها توفيرها، ووضع الدولة ضوابط على الأسعار من دون التعويض على الشركات. وتتحمّل هذه الخسائر بصورة أساسية كلٌّ من الشركة التونسية للكهرباء والغاز، والشركة التونسية لصناعات التكرير، وديوان الحبوب.
الحسابات الخارجية: فجوة تمويلية متزايدة في خضمّ عدم اليقين
في الأعوام الأخيرة، تراجع أيضًا الرصيد المالي لتونس في الخارج، وبحلول العام 2023، بات يتعذّر على الحكومة تمويل العجز الخارجي الكبير. من أجل الحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية، باشرت الحكومة خفض الواردات بشكل مصطنع في العام 2023، من خلال استخدام الضوابط الإدارية. وقد انخفض استيراد السلع خلال النصف الأول من العام بنسبة 0.6 في المئة مقارنةً مع الفترة نفسها من العام 2022، وأثّر هذا الانخفاض بصورة أساسية في المحروقات (20.9- في المئة)، والمنتجات الوسيطة (3.0- في المئة)، والمواد الغذائية (3.9- في المئة) (انظر الشكل 12). وأفضى الانخفاض في شراء المنتجات الغذائية الأساسية إلى نقصٍ متكرّر في المنتجات الغذائية المدعومة وارتفاع الأسعار. ويؤدّي انخفاض استيراد المنتجات الوسيطة، بسبب القيود الإدارية وتراجع الاستهلاك المحلّي، إلى تباطؤ في إنتاج المصانع التونسية. ومن دون اعتماد سياسة طويلة الأجل لإدارة الطاقة، يبقى تقنين التيار الكهربائي السبيل الوحيد المتاح أمام الحكومة لخفض فاتورتها في مجال الطاقة.
النقص الحاد في السلع هو ظاهرة جديدة في تونس. ويُعزى هذا النقص إلى التردّي الشديد للموسم الزراعي مقرونًا بشحّ العملات الأجنبية، فبات من الصعب التعويض عن طريق زيادة الواردات. وينطبق ذلك بوجه خاص على المنتجات التي توزعها الشركات المملوكة للدولة. فنظرًا إلى أن هذه الشركات كانت مثقلة أصلًا بالديون ولم تحصل على تحويلات كافية من الميزانية، لم تتمكّن من زيادة مشترياتها في الخارج. على سبيل المثال، بعدما تسبّب الجفاف بخفض محصول القمح الصلب في تونس بمعدّل الثلثَين في العام 2023 مقارنةً مع العام السابق، ولم يتمكّن ديوان الحبوب من زيادة الواردات بالقدر الكافي، انخفضت كمية القمح الصلب في السوق بنسبة 18 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2023 مقارنةً مع العام السابق.
أدّى تراجع الرصيد الخارجي إلى انخفاض مطّرد في احتياطيات العملات الأجنبية بين العامَين 2012 و2018، ما ألقى بضغوط على تونس لإجراء بعض التعديلات وإعادة تكوين الاحتياطي (انظر الشكل 13). فبعدما بلغت احتياطياتها من العملات الأجنبية أعلى مستوياتها على الإطلاق عند 8 مليارات دولار أميركي في العام 2020، بدأت بالتراجع في مطلع العام 2023، وانخفضت إلى 7 مليارات دولار بحلول نهاية الربع الثاني من العام نفسه، في انخفاض قدره 5.5 في المئة على أساس سنوي. وقد بلغت احتياطيات العملات الأجنبية نحو 8 مليارات دولار في كانون الأول/ديسمبر 2023.
لقد أُعطيت الأولوية حتى الآن لضمان الملاءة المالية بدلًا من التركيز على تعزيز النشاط الاقتصادي. ويتسبّب انخفاض الواردات بتفاقم انهيار النمو. فتونس هي اقتصادٌ صغير ومفتوح يستورد جزءًا كبيرًا من المنتجات التي يستهلكها، ومن الموارد الضرورية والمنتجات شبه النهائية المطلوبة للتزوّد بما يحتاجه. وكي تتمكّن البلاد من سداد كلفة الاستيراد، يجب عليها أن تقوم بالتصدير. والتصدير ضروريٌّ أيضًا للنمو، فسوقها المحلية أصغر من أن تدعم الإنتاج المتخصّص، وهو شرط لا غنى عنه لتحقيق مكاسب في الإنتاجية. في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان النموذج التونسي القائم على التصدير هو الأكثر نجاحًا في المنطقة، فقد تمكّنت البلاد من زيادة قاعدة صادراتها وتنويعها بمرور الوقت في مجالات متنوعة مثل الصناعة، والزراعة، والموارد الطبيعية (الفوسفات) والسياحة. وكان هذا النجاح النسبي يُعزى، في جزءٍ كبير منه، إلى السياسة النقدية وليس إلى سياسة صناعية مدروسة جيّدًا. منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظلّ سعر الصرف تنافسيًّا، وتجنّبت تونس الوقوع في الخطأ الشائع المتمثّل في تقدير عملتها بسعر أعلى بكثير من قيمتها الفعلية.
في الأعوام الأخيرة، سجّل العجز في الميزان التجاري ارتفاعًا كبيرًا بسبب الزيادة في الأسعار الدولية للوقود والمواد الغذائية. وازدادت الصادرات أيضًا بسبب تضخّم الأسعار، ولكن الأسعار ارتفعت على الرغم من انخفاض كمية المنتجات المصدَّرة. ويعبّر سوء أداء الصادرات عن زيادة القيود التمويلية المفروضة على القطاع الخاص، وضعف الطلب الأوروبي على المنتجات التونسية، وانخفاض الاستثمارات الخارجية في تونس بوصفها منصة تصدير. ويُعزى تراجع الصناعات المعدّة للتصدير إلى التدنّي المستمر في وتيرة التصنيع، فقد انخفضت حصّة هذه الصناعات من المنتجات ذات القيمة المضافة من 25.2 في المئة في العام 2010 إلى 20 في المئة في العام 2022 (انظر الشكل 14). ويعكس هذا التراجع في الصادرات الصناعية، جزئيًا، إخفاق تونس في زيادة تطوّر حزمة صادراتها مع مرور الوقت بسبب النقص على مستويات الابتكار، والبحث والتطوير، وتعزيز المهارات. هذا فضلًا عن أن اتفاق الشراكة الذي وقّعته البلاد مع الاتحاد الأوروبي في العام 1995 لم يسمح بزيادة الصادرات الزراعية، وقد انهارت كذلك صادرات الفوسفات بسبب تراجع الاستثمارات والخلافات العمّالية طوال سنوات.
لقد أصبح العجز في الحساب الجاري في تونس، الذي كان مرتفعًا بالفعل في العقدَين الماضيَين، غير مستدام. تاريخيًا، كان العجز التجاري في تونس ضئيلًا، ولكن بعد العام 2011، وبسبب سياسات البلاد التوسعية وحصولها على الائتمان السهل، سجّل عجزها التجاري ارتفاعًا طائلًا، ليصل إلى 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2018 (انظر الشكل 15). وفي العام نفسه، بلغ عجز الحساب الجاري 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وحدثت بعض التعديلات خلال فترة 2017-2019، إضافةً إلى المجهود المالي. ولكن الصدمة التي أحدثتها جائحة كوفيد-19 أدّت إلى تراجع حاد في الإيرادات السياحية. وكذلك تسبّبت حرب أوكرانيا، التي اندلعت في شباط/فبراير 2022، بارتفاع كلفة الواردات من المواد الغذائية والوقود. ونتيجةً لذلك كلّه، ارتفع عجز الحساب الجاري إلى 9 في المئة تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 (انظر الشكل 15). وازدادت أيضًا خدمة الدين الخارجي، لتصل إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في ذلك العام (انظر الشكل 15).
تاريخيًا، تمكّنت تونس من تمويل جزءٍ ضئيلٍ من العجز التجاري من خلال رصيد إيجابي في قطاع الخدمات حفّزته السياحة والتحويلات المالية من التونسيين في الخارج. وبعد انتفاضة العام 2011، تراجعت الحركة السياحية إلى حدٍّ كبير بسبب تدهور الوضع الأمني جرّاء وقوع الكثير من الهجمات الإرهابية، فيما حافظت التحويلات المالية على المستوى نفسه، مسجِّلةً نسبة 4.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019 (انظر الشكل 15)، حتى إنها بدأت تزداد في العام 2021. وقد بلغت التحويلات المالية 2.2 مليار دولار أميركي في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مقارنةً مع 1.9 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2022. وبدأت الإيرادات السياحية بالتعافي في العام 2019، فبلغت 4.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (انظر الشكل 15)، بيد أن التعافي توقّف بسبب جائحة كوفيد-19، التي أبقت الإيرادات السياحية دون المستوى الذي كانت عليه قبل العام 2019 وذلك لمدة ثلاث سنوات (أي 2020 و2021 و2022). وكان على تونس الانتظار حتى العام 2023 لتشهد تعافيًا في قطاعها السياحي. ففي 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بلغت إيرادات القطاع 2.1 مليار دولار أميركي، متخطّيةً بذلك حجم الإيرادات في العام 2019 (قبل الجائحة) الذي بلغ 1.8 مليار دولار. ويمثّل هذا الأداء زيادةً بمقدار 500 مليون دولار (32 في المئة) مقارنةً مع الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2022.
في العام 2010، حلّ صافي الاقتراض الخارجي مكان الاستثمارات الأجنبية المباشرة باعتباره المصدر الرئيس لتمويل عجز الحساب الجاري. لقد موّلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة نحو 80 في المئة من عجز الحساب الجاري في المتوسط حتى العام 2010 (انظر الشكل 16). وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى نحو 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 (625 مليون دولار)، بعدما كانت 3 في المئة في العام 2010 (1.5 مليار دولار). علاوةً على ذلك، ازداد العجز الخارجي، الذي يعكس الاحتياجات التمويلية للبلاد، وجرى تمويله بصورة أساسية من خلال صافي الاقتراض الخارجي البالغ مليارَي دولار إلى 3 مليارات دولار سنويًا (انظر الشكل 16). وكانت التدفقات الرأسمالية الخارجية تأتي من المصارف الإنمائية المتعدّدة الأطراف، والجهات المانحة الثنائية، والأسواق المالية. ولكن بحلول العام 2022، انهار صافي التدفقات مع فقدان تونس النفاذ إلى أسواق سندات اليوروبوند.
يكشف تحليل القدرة على تحمّل الديون أن الدين العام التونسي بلغ مستويات غير مستدامة، في ضوء عدم الحصول على قروض جديدة لتغطية العجز في ميزان الحساب الجاري، وبقاء النمو الاقتصادي على حاله. والسبب وراء ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي هو تراكم العجوزات المالية الكبيرة طوال الفترة الممتدّة بعد العام 2011، فضلًا عن تباطؤ النمو الاقتصادي (انظر الشكل 17). وقد خفّضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لتونس في مطلع العام 2023، وحذت وكالة فيتش حذوها في شهر حزيران/يونيو. نتيجةً لذلك، سجّلت أسعار الفائدة في أسواق السندات الدولية ارتفاعًا كبيرًا إلى درجة أن تونس فقدت فعليًا نفاذها إلى الأسواق، ما يعني أنها ستُضطر إلى إعادة تمويل ديونها المستحقة من خلال السحب من احتياطياتها من العملات الأجنبية.
في الأعوام الأخيرة، اضطلع الدعم من صندوق النقد الدولي بدور مهم في تمويل عجز الحساب الجاري في تونس. في العامَين 2013 و2016، دعم صندوق النقد برنامجَين إصلاحيَّين منفصلَين، من خلال قرضٍ بقيمة 1.78 مليار دولار للبرنامج الأول وقرض بقيمة 2.8 مليار دولار للبرنامج الثاني. ولم يساهم أيٌّ من البرنامجَين في تحسين أداء الاقتصاد، فقد ظلّ النمو بطيئًا وبقيت معدلات البطالة والتضخم مرتفعة. وفي العام 2020، وافق صندوق النقد الدولي على برنامج دعم طارئ بقيمة 745 مليون دولار لمكافحة تداعيات جائحة كوفيد-19. وفي العام 2021، خصّص صندوق النقد 522 مليون دولار لتونس من حقوق السحب الخاصة. ونتيجةً لهذه البرامج، منح الصندوق مبالغ كبيرة لتونس في الأعوام الأخيرة، بمقدار 200 إلى 300 مليون دولار في السنة تقريبًا في العامَين 2017 و2019، وأكثر من 700 مليون دولار بين العامَين 2018 و2020.
تاريخيًا، أعطت تونس الأولوية لضبط التضخم. ولكن معدّل التضخم ارتفع إلى ما يناهز 9 إلى 10 في المئة في العام 2023، بدفعٍ من الارتفاع في أسعار المواد الغذائية التي ازدادت بنسبة 15.3 في المئة في الربعَين الأولين من العام 2023. ولكن في الربع الثالث من العام، لم يحدث تضخم، نظرًا إلى أن قيمة الدينار لم تتراجع مقابل العملات الأجنبية الأساسية. وفضلًا عن ذلك، انخفضت الأسعار العالمية للموادّ الغذائية الأساسية المستوردة. وهكذا، يعبّر ارتفاع الأسعار في تونس بوضوح عن شحّ المواد الغذائية محليًا وعن تأثير الكتلة النقدية التي ولّدها المصرف المركزي من خلال التمويل غير المباشر للعجز.
لقد ارتفع سعر الصرف الحقيقي في الأعوام الأخيرة (انظر الشكل 18)، علمًا بأنه جرى تثبيت سعر الصرف الاسمي في مرحلة تشهد ارتفاعًا في معدّل التضخم. هذا المنحى خطيرٌ ويمكن أن يتسبّب باختلالات أكبر في الحسابات الخارجية. وبدلًا من إجراء تعديلات تدريجية لسعر الصرف، مثلما جرت العادة في السابق، جرى تقييد الواردات في الأشهر الأخيرة من خلال زيادة الحواجز غير الجمركية. وإذا استمر هذا التوجّه، فقد يصبح من الضروري إجراء تصحيح كبير في سعر الصرف، مع كل ما ينجم عنه من تأثيرات جانبية مُسبِّبة للركود ومُكلِفة اجتماعيًا.
السعي إلى تأمين حزمة إنقاذ مالي
نظرًا إلى وصول عملية التحوّل الديمقراطي في تونسإلى حالة من الانسداد، خسرت البلاد "الريع الديمقراطي"، أي الدعم المالي السخي الذي حصلت عليه من الشركاء الغربيين والمؤسسات المالية الدولية مقابل ثمن زهيد. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها، لم تتمكّن تونس خلال العامَين المنصرمَين من جذب ما يكفي من التدفقات المالية الضخمة من مصادر جديدة لإحداث فرقٍ في اقتصاد الدولة. فمنذ العام 2022، لم تحصل تونس سوى على مساعدة مالية من السعودية بقيمة 500 مليون دولار، وعلى قرض بقيمة 200 مليون دولار من الجزائر (أُودِع منها مبلغ 100 مليون دولار في البنك المركزي التونسي)، وعلى مساعدة مالية كلّية من الاتحاد الأوروبي بمقدار 300 مليون يورو ( 330مليون دولار). قد يكون من الممكن لتونس أن تجد الموارد اللازمة لتأجيل الانخراط في عملية إصلاح شاملة. فبيعُ بعضٍ من أصول الدولة، مثل الوكالة الوطنية للتبغ، قد يُرجئ هذه المسألة لمدة سنة أو أكثر. وقد أمّنت تونس قروضًا عالية بأسعار فائدة مرتفعة (مثل اتفاقية القرض التي وقّعتها مع البنك الأفريقي للاستيراد والتصدير)، ويمكنها أن تؤمّن المزيد، لكن هذا المنحى سيسرّع وتيرة عجز البلاد عن سداد ديونها.
في تشرين الأول/أكتوبر 2022، توصّلت السلطات التونسية وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق على منح قرض للبلاد بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن سعيّد رفض شروط الصندوق ووصفها بأنها "إملاءات خارجية" لن تؤدّي سوى إلى زيادة نسبة الفقر. وقد أوقف البنك الدولي بصورة مؤقتة برنامجه الرامي إلى دعم الميزانية التونسية في العام 2022، وعلّق مناقشات التعاون المستقبلي مع تونس بعد التصريحات التي أدلى بها سعيّد بشأن المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، والتي أثارت موجةً من المضايقات بدوافع عنصرية وحتى حوادث عنف في آذار/مارس 2023. في غضون ذلك، بات التمويل الذي تحصل عليه تونس من الاتحاد الأوروبي شحيحًا، إذ يُعدّ الدعم المالي الإضافي مشروطًا إلى حدٍّ بعيد بقبولها تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي.
حاول الاتحاد الأوروبي من جانبه ربط استعداده لتقديم مساعدات مالية لتونس بسعيه إلى تعزيز الشراكة معها للحدّ من تدفّق المهاجرين عبر حدودها. فمن مصلحة الاتحاد الأوروبي الحفاظ على استقرار تونس لكبح جماح هجرة المواطنين الأفارقة نحو سواحل أوروبا.وعلى ضوء مساعي أعداد متزايدة من المهاجرين إلى دخول الأراضي الأوروبية عبر تونس، خفّف الاتحاد الأوروبي من حدّة موقفه تجاه قضايا الحوكمة وانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد. وفي تموز/يوليو 2023، وقّع الاتحاد الأوروبي مذكّرة تفاهم مع تونس، يقدّم بمقتضاها مساعدات مالية للاقتصاد الكلّي التونسي بقيمة 900 مليون يورو (980 مليون دولار) على شكل قرض، شرط أن تتوصّل البلاد إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وتضمّن ذلك مساعدة مالية بقيمة 150 مليون يورو (160 مليون دولار) يتم ضخّها في ميزانية العام 2023، بهدف توطيد العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري، ودعم الطاقة النظيفة والمتجدّدة، وتعزيز التعاون بين الشعوب من خلال مشاريع عدة، إضافةً إلى حزمة مالية بقيمة 105 ملايين يورو (115 مليون دولار) لمكافحة الهجرة غير النظامية. أدّى التأخير في تطبيق الاتفاق إلى زيادة حادّة في وتيرة الهجرة غير الشرعية من السواحل التونسية، وبدت هذه خطوة مقصودة لممارسة المزيد من الضغط على الاتحاد الأوروبي لإبداء مرونة أكبر وتسهيل الشروط التي يجب على تونس استيفاؤها للمضيّ قدمًا في الاتفاق.
دفعت الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمجلس أوروبا إلى تأخير تحويل مذكرة التفاهم إلى اتفاق ملموس وسريع بهدف المساعدة في إنعاش الاقتصاد التونسي، الأمر الذي أثار حالةً من التوتّر مع السلطات التونسية. وأعلن سعيّد في تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن رفضه المساعدة المالية التي قرّر الاتحاد الأوروبي منحها لبلاده. وبات فصل اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عن الصفقة مع صندوق النقد الدولي ركيزةً أساسية من الاستراتيجية التونسية. ويُقابَل هذا المسعى حتى الآن بالرفض في أوساط دول الاتحاد الأوروبي التي تعتبر أن زيادة التمويل يجب أن تكون مرتبطة بتطبيق الإصلاحات. فهذا الفصل بين المسألتَين من شأنه تحويل التمويل إلى نوعٍ من ريع جيوسياسي قد يشجّع تونس وربما دولًا أخرى واقعة في الجوار الجنوبي لأوروبا على استخدام تدفّقات المهاجرين كورقة ضغط.
قد تؤدّي إعادة هيكلة الدين التونسي إلى تخفيف الأعباء التي تثقل كاهل البلاد، لكن الشروط غير المرنة لهذا الدين تضيّق هامش إعادة الهيكلة. فجزءٌ كبيرٌ من ديون تونس الخارجية يعود إلى جهات دائنة متعدّدة الأطراف (انظر الشكل 19) لا تقبل بإعادة التفاوض بشأن الدين، ما يقلّل من التأثير الذي قد يُحدِثه أي اتفاق محتمل شبيه بالاتفاقات التي تبرمها دول نادي باريس. في غضون ذلك، يمثّل الدين التجاري نسبة صغيرة من إجمالي الدين العام (انظر الشكل 19)، لذا، لن تخفّف إعادة هيكلة الدين التجاري بشكلٍ كبير عبء الدين. علاوةً على ذلك، قد يفضي هذا الإجراء إلى عزل تونس عن الأسواق المالية العالمية لسنوات عدّة مقبلة، ويُرجَّح أن يلحق الضرر بميزان الحساب الرأسمالي.
يُشار إلى أن خفض الدين المحلي، الذي يمثّل نسبة 40 في المئة من إجمالي الدين العام، قد يتيح حيّزًا ماليًا. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إجراءات "القمع المالي"، أي تحديد أسعار فائدة أدنى من معدلات التضخم (جعل معدلات الفائدة سلبية)على الدين المحلي.ويمكن تحقيق ذلك أيضًا من خلال إعادة جدولة الدين المحلي من دون التفاوض مع الدائنين، ما من شأنه نقل عبء الدين إلى عاتق المستثمرين المحليين الذين لن يكون أمامهم من خيار سوى القبول، نظرًا إلى أن القيود القانونية ستحدّ من خروج رؤوس الأموال من تونس. لكن إجراءات القمع المالي قد تُضعِف النظام المصرفي وتفاقم حالة فقدان الثقة بين السلطات والنخب المالية. تكمن المشكلة في أن المدّخرات الوطنية منخفضة أساسًا (انظر الشكل 4)، ويُحتمل أن تتضاءل أكثر على وقع اتّساع فجوة انعدام الثقة.
آفاقٌ مستقبلية
ستواجه تونس صعوبة أكبر في خفض إجمالي ديونها خلال الأشهر المقبلة، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى الارتفاع في تكاليف خدمة دينها الخارجي. ففي العام 2023، بلغت تكاليف خدمة الدين حوالى مليارَي دولار، ويُتوقَّع أن تصل إلى نحو 4 مليارات دولار في العام 2024، ما سيضاعف حجم التحديات المُلقاة على كاهل تونس. وتشمل هذه التكاليف تسديد استحقاقات أصل الدين بالعملات الأجنبية (أي اليوروبوند)، وهي سندات مُتداولة في الأسواق المالية بقيمة 850 مليون يورو (930 مليون دولار). وفيما تحاول تونس النهوض بهذه التحديات، يتعيّن على صنّاع القرار التفكير بثلاثة سيناريوهات مُحتملة.
يتمثّل السيناريو الأول في إحجام تونس عن إجراء الإصلاحات وعن تطبيق برنامجٍ بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وستبقى بموجب هذا السيناريو العجوزات الداخلية والخارجية في تونس كبيرة نسبيًا، وستضطر البلاد إلى تغطية عجز الميزانية عن طريق القروض المحلية، وتأجيل سداد المتأخرات المستحقة، وطباعة الأوراق النقدية. وفي ظل تضاؤل فرص الحصول على تمويل خارجي، ستضطر السلطات إلى إجراء تعديلات اقتصادية مؤلمة. وحتى مع خفض فاتورة الاستيراد، سيبقى العجز في ميزان المدفوعات كبيرًا – بين 3 إلى 4 مليارات دولار بحسب تقديرات المؤلّفين – وسيُستخدَم الاحتياطي العام بشكلٍ أساسي من أجل تمويله. وقد بدأت السوق المحلية تشكو من نقص بعض السلع والمواد الأساسية، بالتزامن مع التراجع الشديد في الطلب المحلي. لكن ما لم يتم الاتفاق على برنامجٍ مع صندوق النقد من شأنه تلبية الحاجات المالية لكلٍّ من الحكومة والشركات المملوكة للدولة، ستزداد حدّة المعضلات التي تتخبّط فيها البلاد. فمن دون رؤية واضحة لبناء مستقبل أفضل، قد يتسبّب الاعتماد حصرًا على التدابير التقشفية للمماطلة وكسب الوقت (من خلال زيدة الضرائب وخفض الإنفاق العام) بإشعال فتيل أزمة اجتماعية. لكن التقاعس سيؤدّي لا محال إلى تراجع شديد في قيمة العملة المحلية، ما سيفاقم بدوره المعاناة الاجتماعية، على وقع ارتفاع مستويات التفاوت الاجتماعي والفقر، وتسارع وتيرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. وقد تميل السلطات إلى التخلّف عن سداد جزءٍ من الديون الخارجية المستحقّة على تونس. وبين أواخر العام 2024 وخلال العام 2025، ستزداد مخاطر الانخفاض القسري في قيمة العملة، ما سيسفر عن تداعيات مالية متتالية، مثل تدهور قيمة الأصول المالية، والحاجة إلى زيادة أسعار الفائدة للتعويض عن المخاطر، وهروب الرساميل. نتيجةً لذلك، ستنزلق البلاد إلى دوّامةٍ من الركود الاقتصادي الأعمق، وسيزداد التهديد بزعزعة الاستقرار الاجتماعي.
ويستند السيناريو الثاني إلى الاتفاق على برنامجٍ مع صندوق النقد الدولي، وإجراء بعض الإصلاحات. قد تمارس التشنّجات الداخلية في أوساط النخب السياسية والأمنية التونسية ضغوطًا متنامية على الرئيس لدفعه إلى القبول ببرنامج صندوق النقد، سعيًا إلى لجم السخط الشعبي المتصاعد. وسيترافق هذا البرنامج على الأرجح مع تمويل إضافي توفّره دولٌ أخرى، ما من شأنه تخفيف الضغوط على الحسابات الخارجية لتونس. لكي يحظى البرنامج بقبول السلطات، يجب أن يتجنّب فرض تدابير تقشّفية قاسية، ويمكن إطلاقه في الواقع قبل موعد انتخابات العام 2024. وفيما من المستبعَد أن ينجح هذا البرنامج في قلب الاقتصاد التونسي رأسًا على عقب، يُحتمَل أن يستمر بخطى متعثّرة، على غرار برامج مشابهة طُبِّقت في مصر وباكستان، وأن يجذب إلى البلاد تدفّقات مالية خارجية متواضعة. وستكون هذه الإصلاحات المحدودة مصمَّمة بشكل أساسي لضمان الملاءة المالية للبلاد وقدرتها على الحصول على التمويل الثنائي والمتعدّد الأطراف. إذًا، من غير المرجَّح أن تُحدِث هذه الإصلاحات تحوّلًا جوهريًا في الاقتصاد التونسي.
أما السيناريو الثالث فينطوي على إطلاق تونس عملية إصلاحية يُعتدّ بها تنجح في دفع عجلة النمو الاقتصادي. وهذا من شأنه أن يعالج مشكلة الدين التي تثقل كاهل البلاد. فتطبيق برنامجٍ إصلاحي وطني قد يخفّف عبء التعديلات الاقتصادية، مثلًا من خلال جذب تمويل جديد، ربما من المصارف الإنمائية المتعدّدة الأطراف. ويجب دعم هذا البرنامج من خلال اللجوء إلى إعادة هيكلة استباقية للدين الخاص والدين الثنائي. من شأن برنامج الإصلاحات الداعمة للنمو المطبَّق طوعيًا أن يشمل إجراءَ تعديلات على مستوى الاقتصاد الكلّي، وتحرير السوق، والمنافسة العادلة، وإصلاح القطاع العمومي. وسيستفيد هذا البرنامج من الفرص الجديدة المتاحة في أوروبا لإعادة توطين الأعمال في مناطق مجاورة (nearshoring)، ولتعزيز التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة.
مسارات سياسية واقتصادية لتحقيق التعافي: الصورة الأوسع
تتأرجح تونس على حافة الانهيار منذ سنوات عدّة، بيد أن اقتصادها أبدى قدرًا كبيرًا من المرونة. وقد جادل الكثير من المراقبين بأن أسباب المصاعب التي تواجهها البلاد سياسية في الغالب، وأن التقدّم يتطلّب في المقام الأول إجراء إصلاحات سياسية. يُشار إلى أن انتفاضة العام 2011 أدّت في نهاية المطاف إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد. فنظام بن علي، على الرغم من مساوئه الكثيرة، استطاع الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلّي والإمساك بالنظام العام وفرض سلطته. لكن بعد العام 2011، أتى التقدّم السياسي المُحرَز على حساب الاقتصاد، إذ أعطى النظام السياسي الفوضوي والتنافسي الذي نشأ الأولويةَ لتحقيق التحوّل الديمقراطي وكان عليه تلبية مطالب رفع الأجور، وزيادة التوظيف في القطاع العمومي، وتحسين الظروف المعيشية. نتيجةً لذلك، فشلت الحكومات الثلاث عشرة التي تشكّلت بعد الانتفاضة في تحقيق توازن المالية العامة، ما أسفر عن عجوزات مالية كبيرة طوال هذه الفترة، وإلى ارتفاع الدين العام. وأدّى السخط الاجتماعي إلى تفاقم الشعبوية، وعجز النظام القائم عن تطبيق الإصلاحات غير الشعبية التي ستسمح لتونس بتحقيق إمكانياتها الاقتصادية بالكامل.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن انتفاضة العام 2011 وُلدت من رحم التظلّمات الاقتصادية، إذ لم ينجح نظام بن علي في استحداث آلاف فرص العمل الجيّدة التي يحتاج إليها الاقتصاد سنويًا لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المواطنين المتعلّمين. ونظرًا إلى أن النظام كان مدفوعًا بالسعي إلى تعزيز صموده واستمراره، فهو لم يعمَد إلى إصلاح الشركات المملوكة للدولة التي تكبّدت خسائر مالية كبيرة أو نظام الدعم الذي شكّل عبئًا متزايدًا. أما النظام التنافسي الذي أعقبه فقد ورِث هذه المشاكل الهيكلية، لكنه اضطرّ إلى التركيز على التحديات القصيرة المدى، وبالتالي عجز عن تحديث الاقتصاد من خلال تنفيذ الإصلاحات اللازمة. ويرزح نظام سعيّد الشعبوي راهنًا بدوره تحت وطأة ضغوطٍ مماثلة قصيرة المدى.
خلال السنوات المقبلة، ستُفرز التطوّرات الاقتصادية تداعيات سياسية مهمة، وإن لا تزال غير واضحة بعد. لذا تكتسي الانتخابات الرئاسية المُرتقب إجراؤها في أواخر العام 2024 أهمية كبرى. وستكون حظوظ سعيّد رهنًا بمدى تدهور المشهدَين الاجتماعي والاقتصادي خلال المرحلة التي تسبق هذه الانتخابات. فإذا انهارت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بوتيرة متسارعة قبل حزيران/يونيو 2024، ستتعزّز حظوظ خصوم سعيّد في الفوز. أمّا في المقابل، إذا أبدى الاقتصاد قدرةً على الصمود والتكيّف، فسترتفع احتمالات إعادة انتخاب سعيّد لولاية جديدة.
ستستمرّ التحديّات التي تواجهها تونس من أجل تحسين ظروفها الاقتصادية في التأثير على مسار الأحداث السياسية في المدى المتوسط. وهذه الظروف مرتبطة في حدّ ذاتها بالتحدّي السياسي البارز المتمثّل في الخروج من "فخ الدخل المتوسط"، أي العجز عن إدارة عملية التحوّل الاقتصادي وعدم تجاوز فئة الدول المتوسّطة الدخل. ولا يقتصر إحراز التقدّم على تحقيق نمو اقتصادي سريع واللحاق بركب الدول الأغنى وبناء المؤسسات، بل يتطلّب عملًا جماعيًا يهدف إلى تحسين جودة التعليم، وتعزيز إنتاجية العمل، ورفع مستوى الابتكار والأبحاث والتنمية، وبشكل عام الارتقاء في سلاسل القيمة العالمية. لكنّ تطبيق هذه الإصلاحات صعبٌ على المستوى السياسي، ويستلزم توافر درجة عالية من الثقة بين جميع مكوّنات الوطن الواحد، إلى جانب التنسيق السياسي الفعّال والقيادة السليمة.
إن الفرصة سانحة أمام تونس اليوم لإحراز تقدّم مهمّ من أجل تحسين آفاق النمو في البلاد من خلال الاستفادة من المنافع التي يمكن أن يحقّقها الشروع في عملية إصلاحٍ اقتصادي. في غضون ذلك، يحاول الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي إعادة توطين عمليات إنتاج سلاسل القيمة العالمية ذات الأهمية الاستراتيجية في مناطق مجاورة، وتتمتّع تونس بموقع يخوّلها الاستفادة من هذه الظاهرة. ونظرًا إلى أن التركيز على تطبيق الإصلاحات الاقتصادية قد يسهم بشكلٍ أكبر في تعزيز الازدهار الاقتصادي، أصبح الرهان على الإصلاحات الداعمة للنمو مُغريًا أكثر من ذي قبل. لكن، كي تتمكن تونس من جني هذه المكاسب، لا بدّ من تشكيل ائتلافٍ من أجل التغيير تقوده قوى سياسية ملتزمة بنجاح هذه العملية.
نُشرت هذه الدراسة بفضل الدعم الذي قدّمته مؤسّسات المجتمع المفتوح (Open Society Foundations).