مقدّمة
يتألّف الجنوب السوري من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، وهو متاخمٌ للأردن، ومرتفعات الجولان الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولبنان. لذلك، من يسيطر على هذه المنطقة يكتسب نفوذًا استراتيجيًا كبيرًا، خاصةً مقابل الأردن وإسرائيل. تتمتّع الأجزاء غير الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي في القنيطرة بقيمة استراتيجية كبيرة، لأنها تقع على أراضٍ مرتفعة بالقرب من خط فك الاشتباك الذي تم تحديده بعد الحرب العربية الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1973 بين الجيشَين السوري والإسرائيلي. ويعني قربها من الجولان أن القوات والبلدات الإسرائيلية معرَّضة للهجمات من القنيطرة.
استعاد الجيش السوري السيطرة على أجزاء من درعا والقنيطرة في العام 2018، بعد أن كان خسرها لصالح فصائل المعارضة خلال الثورة السورية في العام 2011. مع ذلك، عجز عن إعادة فرض سلطة الحكومة بشكلٍ كامل، بل على العكس، تدهورت القدرات الإدارية والاقتصادية والأمنية لدمشق باطّراد، وتراجع نفوذها أيضًا. فعلى سبيل المثال، مع أن نظام الرئيس بشار الأسد لم يفقد أبدًا السيطرة على محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، ضعفت قوته خلال السنوات الأخيرة. وتشهد المنطقة حالة اضطراب، مع استفحال عمليات الخطف والقتل، وتردّي جودة الخدمات، وتقهقر القدرة على الحكم، وندرة الموارد الاقتصادية، وانتشار الفصائل المسلّحة.
على غرار جميع المناطق الحدودية السورية، يُعتبر الجنوب السوري عرضةً لتأثيرات الجماعات المحلية والقوى الإقليمية التي تتنافس من أجل فرض هيمنتها. مع ذلك، على خلاف شمال شرق سورية أو محافظة إدلب، حيث تسيطر على التوالي وحدات حماية الشعب الكردية أو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ما من طرف محلّي أو أجنبي واحد يبسط سيطرته في جنوب سورية. كذلك، فيما تضطلع تركيا والولايات المتحدة بنفوذٍ ملحوظ في شمال البلاد، تُعدّ الروابط بين المجموعات المحلية والدول الخارجية مرنة في جنوب سورية، حيث تسعى أطراف متعدّدة إلى تحديد النتائج على الأرض.
تُعتبر إيران، من خلال حليفها حزب الله، لاعبًا رئيسًا في هذا الصدد. فهي تتمتّع بنفوذٍ في جميع أنحاء المنطقة، ولا سيما في القنيطرة، إلّا أنها لا تبسط سيطرةً مطلقة. مع ذلك، أتاح هذا الوضع بيئة مؤاتية تسمح لطهران بالحفاظ على هيمنتها، وحتى بتوسيعها مع مرور الوقت، شرط عدم حدوث تحوّلات كبيرة في الديناميات الراهنة في جنوب سورية.
جنوب سورية بعد العام 2018
خلال الفترة بين حزيران/يونيو وآب/أغسطس 2018، استعاد الجيش السوري السيطرة على معظم أجزاء الجنوب السوري، وذلك في المقام الأول بفضل التفاهمات التي تمّت بوساطة روسيا وأفضت إلى تليين المعارضة الأميركية والإسرائيلية لعودة الجيش إلى هذه المناطق. ومنذ ذلك الحين، نشطت في المنطقة قوى ودول عدة، من بينها الميليشيات المحلية والنظام السوري، إلى جانب إيران وإسرائيل والأردن وروسيا. صحيحٌ أن الانخراط الروسي انحسر بسبب الحرب في أوكرانيا، إلّا أن موسكو لا تزال مهتمّة بالجنوب السوري، إذ استأنفت تسيير دوريات هناك، وأنشأت نقطتَي مراقبة في القنيطرة. أما إيران فسعت إلى توسيع نفوذها في مختلف أنحاء جنوب سورية، ما أثار معارضة قوية من الأردن وإسرائيل. حال هذا التنافس دون بروز طرف محلّي بارز يحظى بدعم جهة خارجية، وفاقم أيضًا انعدام الاستقرار.
أنهت تفاهمات العام 2018 حكم الفصائل الثورية من دون أن تستبدله بنظام جديد. كانت التفاهمات التي أُبرمت بوساطة روسيا مشروطةً بعدم نشر إيران وحلفائها قواتها في المنطقة الجنوبية، لتجنّب التدخل العسكري الإسرائيلي. لكن هذه العملية لم تكن سلسة أو موحّدة على الإطلاق. ففي بعض المناطق، تولّت روسيا عملية التفاوض حول الاتفاقات؛ وفي بعضها الآخر، أجرى النظام صفقات مصالحة، فيما استعاد السيطرة على مناطق أخرى بالقوة، ما أسفر عن تهجير سكانها. وفي بعض الأحيان بدّلت الفصائل الثورية ولاءاتها، لكنها في أحيان أخرى ظلّت تُقاوم القوات الحكومية.
حتى في المناطق الخاضعة لسلطة الدولة، ازدادت الأوضاع سوءًا على مرّ السنوات. مثلًا، شهدت محافظة السويداء احتجاجات مناهضة للنظام منذ آب/أغسطس 2023، بدعمٍ من شيخ العقل الدرزي حكمت الهجري الذي تحدّى دمشق بشكل علني. وليس لإسرائيل انتشارٌ عسكري على الأرض، لكن ظلّها يخيّم إلى حدٍّ كبير على المنطقة الجنوبية، ولا سيما أنها نفّذت منذ العام 2013 هجمات كثيرة في سورية، وخصوصًا في القنيطرة.
الأردن أيضًا تبنّى نهجًا أكثر عدائيةً حيال الفوضى في جنوب سورية. فهو سعى منذ البداية إلى منع انتشار إيران وحزب الله في المنطقة، ولا يزال يعارض دورهما في تأجيج الصراع مع إسرائيل ودعم تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود. حاول الأردن معالجة هذه القضايا في إطار الانفتاح العربي على دمشق في صيف العام 2023، وأيضًا على المستوى الثنائي، لكن من دون تحقيق نتائج تُذكر. وفي تحوّل مُلفِت، بدأ الأردن مؤخرًا باستهداف مهرّبي المخدرات داخل سورية، وتذكر تقارير أنه نسّق مع فصائل محلية في الجنوب السوري لمكافحة التهريب.
كان لحليفَي النظام السوري الأساسيَّين، روسيا وإيران، مساران مختلفان جدًّا في المنطقة الجنوبية. فقد بدأت موسكو بتسيير دوريات للشرطة العسكرية الروسية هناك، حتى إنها حاولت جعل اللواء الثامن – الذي يضمّ في الغالب عناصر من فصيل مُعارِض سابق يُعرَف باسم فرقة شباب السنّة في مدينة بصرى الشام – قوة وكيلة لها. لكن أتت النتائج متباينة. مع ذلك، كانت الميزة الرئيسة لروسيا سياسية، لأنها الطرف الوحيد الذي لديه خطوط تواصل مفتوحة مع جميع الأطراف المُتحاربة. لكن موسكو خسرت هذه الورقة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. فإسرائيل لم تُعِر اهتمامًا يُذكر لمعارضة روسيا شنّها غارات جوية على سورية، فيما تمكّنت إيران أيضًا من تعزيز نفوذها في الجنوب السوري، على الرغم من أن الاتفاقات التي تفاوضت بشأنها روسيا في العام 2018 كانت تهدف إلى إبقاء طهران وحلفائها بعيدًا عن المنطقة الحدودية.
يجسّد جنوب سورية أيضًا عجز النظام عن الحكم. فقد تَسبَّب التدهور الحادّ للاقتصاد السوري بإفلاس البلاد، ولا سيما بعد الأزمة المصرفية اللبنانية في 2019-2020 وإقرار الولايات المتحدة قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية في العام 2019. واليوم، بات شائعًا لجوء السكان إلى حملات لجمع التبرعات من أجل ترميم وتشغيل خدمات أساسية، مثل آبار المياه، وخطوط الهاتف، وإنارة الشوارع.
لكن أزمة الحوكمة أعمق بكثير من مجرّد نقصٍ في التمويل. في الواقع، تسود حالة من الفوضى الأمنية في الجنوب السوري، تتجلّى من خلال الاغتيالات التي ازدادت بشكل ملحوظ بعد عودة قوات النظام إلى المنطقة، في ظل غياب أي مؤشّر على تراجعها. ووفقًا لمصدر محلّي مُعارض يوثّق هذه الحوادث، بلغ عدد قتلى الاغتيالات 235 شخصًا في العام 2020، و226 في العام 2021، و313 في العام 2022، و278 في العام 2023. وباتت عمليات خطف المدنيين للحصول على فدية مالية حالات شائعة في الجنوب السوري. ففي العام 2023 فقط، سُجِّل أكثر من 126 عملية خطف في محافظة درعا. وعلى نحو مماثل، وُثِّقت عمليات خطف أو سجن لحوالى خمسين شخصًا على أيدي جهات غير حكومية في السويداء. وفي القنيطرة التي تضمّ عددًا أقل من السكان، كانت مثل هذه الأحداث أكثر ندرةً، لكن المحافظة تشهد أيضًا عمليات اغتيال وخطف، وهجمات تستهدف ممثّلي النظام.
من منظور اقتصادي، شهد اعتماد جنوب سورية تاريخيًا على الزراعة، والتجارة العابرة للحدود، والوظائف الحكومية تغيُّرًا جذريًا. فقد تحوّل الاقتصاد المحلّي إلى اقتصاد ظل إجرامي، يتّصف بنقص الموارد والاعتماد على التحويلات من الخارج. ومن المؤشّرات على ذلك تراجع حجم التجارة الرسمية وغير الرسمية. وعلى الرغم من الآمال التي عُقدت على تنامي التبادلات التجارية بين سورية والأردن بعد إعادة فتح حدودهما بالكامل في العام 2021، لا يزال حجم التجارة الثنائية منخفضًا، وفقًا لدائرة الإحصاءات العامة الأردنية. ففي العام 2023، بلغت قيمة واردات الأردن من سورية 45 مليون دينار أردني (63 مليون دولار)، فيما وصلت قيمة الصادرات الأردنية إلى سورية إلى 60 مليون دينار أردني (84 مليون دولار)، وساهمت السلع المُعاد تصديرها بمبلغ 25 مليون دينار أردني (35 مليون دولار). تكشف هذه الأرقام مجتمعةً انخفاضًا بنحو 70 في المئة عن العام 2010، حين سجّل الميزان التجاري الأردني مع سورية 450 مليون دينار أردني (630 مليون دولار). في الواقع، كان حجم التبادلات التجارية على أساس سنوي في العام 2023 أقل بنسبة 15 في المئة ممّا كان عليه في العام 2022. وتراجع حجم التجارة غير الرسمية (لكن ذلك لا يشمل التجارة غير الشرعية) بسبب تدهور الاقتصاد السوري وفرض الأردن إجراءات أمنية أكثر تشدُّدًا لضبط الحدود.
نظرًا إلى هذا الوضع، بات الاقتصاد المحلّي في الجنوب السوري يعتمد إلى حدٍّ كبير على التحويلات المالية من الخارج والتجارة غير الشرعية، ولا سيما تهريب المخدرات. فقد قال صاحب مكتبٍ حوالات بارز في السويداء أن قيمة التحويلات المالية من الخارج إلى المحافظة ارتفعت بأكثر من الضعف منذ العام 2018. وقدّر أن أكبر أربعة مراكز للحوالة غير الرسمية حوّلت مجتمعةً ما لا يقل عن 120 ألف دولار يوميًا.1
أحدثت المخدرات أيضًا تحوّلًا في المشهد الاقتصادي. ففي العام 2016، أشارت المنظمات الدولية إلى ارتفاع استيراد سورية للسلائف الكيميائية التي تدخل في صناعة المخدرات، ولا سيما الكبتاغون، وهو مادة مخدّرة قريبة من الأمفيتامين. لقد ازدهرت سوق الكبتاغون تدريجيًا في الجنوب السوري الذي أصبح البوّابة الرئيسة لتصدير هذه المادة إلى الأسواق الخليجية الكبرى. يقدّر البعض أن القيمة السوقية للكبتاغون نمت من حوالى 1.8 مليار دولار في العام 2017 إلى 5.7 مليارات في العام 2021، ما يعكس حالة التفلّت الأمني في المنطقة الجنوبية والتأثير المتنامي لتهريب المخدرات.
أرض خصبة للنفوذ الإيراني
فيما لا يزال جنوب سورية يشهد حالة من انعدام الاستقرار، طرأت تغيّرات بارزة على مستوى النفوذ الروسي والإيراني هناك. فقد حافظت القوات الروسية والحكومية على حضورها على الأرض، إلا أن دورها تراجع في السنوات الماضية. أما إيران، فقد احتفظت بنفوذها في المنطقة، وإن لم تستطع ملء الفراغ الحاصل. ونظرًا إلى الموارد الاقتصادية المحدودة التي توطّد الدولة السورية من خلالها سلطتها، وتآكل موقعَي النظام السوري وروسيا، والتقلّبات السائدة في الجنوب، أصبحت الظروف مؤاتية لتوسُّع النفوذ الإيراني على الرغم من العقبات القائمة.
ينطوي هدف إيران على استغلال الأهمية الجيو-استراتيجية لمنطقة جنوب سورية التي تُعدّ، ولا سيما السويداء ودرعا، مدخلًا للتأثير في التطوّرات في كلٍّ من الأردن، أحد حلفاء الولايات المتحدة الأساسيين، والضفة الغربية، وأبعد من ذلك، في منطقة الخليج. لذا، ليست الحدود السوريةالأردنية مجرّد تخوم بين بلدَين، بل تستطيع القوى الفاعلة السياسية التأثير في التطوّرات الإقليمية انطلاقًا من تلك المنطقة. ثم إن المنطقة الحدودية تتّسم بأهمية خاصة لقربها من إسرائيل، إذ إن مرتفعات القنيطرة، المطلّة على الجولان المحتلّ والمتاخمة للبنان، تمنح إيران نقطة ضغط ضدّ إسرائيل، أحد الخصوم الأساسيين لطهران، التي حدّدت أولوياتُها بشكل كبير الإطارَ الأمني للمنطقة.
لكن نظرًا إلى الطبيعة المبطّنة لأنشطة إيران، يصعب تقييم درجة النفوذ الفعلية التي تتمتّع بها على طول الحدود. ومع ذلك، من الممكن تَبيُّن الصعوبات التي تواجهها، والتقدّم الذي أحرزته مع القوى التابعة لها. فهي تواجه على المستوى الكلّي تحدّيًا ديمغرافيًا. فالغالبية الدرزية في السويداء، وتلك السنّية في درعا، تصعّبان على طهران ترسيخ حضورها في أوساط السكان، الذين ينظر كثرٌ منهم إليها بأنها عدوّ. أما في القنيطرة، فالأمر مختلف، حيث لسكّانها الأقلّ عددًا مظالمُ تاريخية ضدّ إسرائيل بسبب احتلالها الأرض، ناهيك عن أن الأقلّيتَين الدرزية والمسيحية تربطهما علاقة متوتّرة بالغالبية السنّية المُعارِضة بشدّة للنظام، ما أتاح فرصة أمام إيران لبسط نفوذها.
ومن بين الصعوبات الرئيسة الأخرى التي تواجهها إيران معارضةُ إسرائيل لوجودها في جنوب سورية. لقد مرّت الإجراءات الإسرائيلية ضدّ ترسُّخ إيران في سورية بمراحل عدّة، بدءًا بـ"المعركة بين الحروب" في العام 2013، عندما استهدفت إسرائيل القوات الإيرانية وحزب الله، والفصائل المتحالفة معهما. وأعقب ذلك تدخّل روسيا في سورية في العام 2015، وإنشاؤها مناطق خفض التصعيد التي شملت المنطقة الجنوبية، ما أثارًا نقاشًا بين روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل والأردن حول الوجود الإيراني هناك. وعلى الرغم من ازدياد التنسيق الإسرائيلي الروسي، لم تتوقّف إسرائيل عن استهداف إيران وحلفائها داخل سورية، بل صعّدت هجماتها مع الوقت. وكما هو موضّح في الشكل 1، تزايدت الغارات الإسرائيلية تدريجيًا بعد العام 2017.
بدأت مرحلة جديدة عقب هجمات حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فشنّت هذه الأخيرة، مذّاك الحين، 26 هجومًا في سورية، أي ما يعادل هجومًا واحدًا كل خمسة أيام. وتغيّرت أيضًا طبيعة الأهداف، إذ لاحقت إسرائيل مسؤولين رفيعي المستوى في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، واغتالتهم في قلب دمشق. صحيحٌ أن مدى فعالية هذا التكتيك موضع شكّ، إلا أن الحرس الثوري كان قلقًا إلى حدّ أنه أعلن مؤخّرًا عن سحب ضباط من سورية.
والواقع أن إيران غالبًا ما عملت عبر ميليشيات محلية انتهازية تسعى إلى تحقيق النفوذ والمكاسب الاقتصادية وإرساء الأمن، ويُعرَف عناصرها وقادتها بتغيير ولاءاتهم. فعلى سبيل المثال، أحد هؤلاء القادة، وهو من إنخل ومعروف باسم "جدّي"، كان مزارعًا قبل أن يصبح زعيمًا مُعارِضًا، ثم تصالح مع النظام في العام 2018، وحاول بعد ذلك إقامة علاقات مع حزب الله.2 ومثالٌ آخر على هؤلاء عماد أبو زريق، الذي كان عضوًا سابقًا رفيع المستوى في جيش اليرموك، وفرّ إلى الأردن في العام 2018، ثم عاد إلى سورية ليصبح حليفًا للنظام في قريته نصيب الواقعة على الحدود الأردنية.3
لكن هذه التحدّيات لا تقف حائلًا دون تمتّع إيران بأفضلية مؤكّدة في جنوب سورية، خصوصًا على طول المحور بين محافظة ريف دمشق والقنيطرة، حيث لا تتمتّع طهران بحضور واسع النطاق فحسب، بل تمتلك أيضًا بنية تحتية أمنية متينة. روسيا بدورها لديها هذه البنية التحتية في المنطقة، إلا أنها أقلّ رسوخًا على الأرض من إيران.
إضافةً إلى ذلك، تشير الأدلّة المتوافرة إلى أن لإيران مركز عملياتٍ في جنوب دمشق، يقع استراتيجيًا على مقربة من مطار دمشق. هذه المنطقة تتمتّع بكثافة سكانية عالية، وتضمّ سكانًا شيعة، ولا تبعد عن لبنان سوى 20-30 كيلومترًا، وعن القنيطرة 30-40 كيلومترًا. وتفيد تقارير كثيرة بأن لإيران حضورًا في حيّ السيدة زينب الواقع جنوب دمشق وغرب المطار، والغارات الإسرائيلية المكثّفة على ريف دمشق إنما تعزّز هذه الحجة (انظر الشكل 2). فمنذ العام 2013، استهدفت 100 غارة إسرائيلية من أصل 244 هذه المحافظة، ما جعلها المنطقة الأكثر استهدافًا، تليها القنيطرة التي شنّت عليها إسرائيل 30 غارة. وقد شهدت السنوات الأخيرة تصعيدًا، إذ ارتفع عدد الغارات على ريف دمشق من 6 غارات في العام 2018، إلى 22 غارة في العام 2023 (انظر الشكل 3).
أما محافظتا درعا والسويداء، فتعرّضتا للقصف الإسرائيلي بوتيرة أقلّ، بحيث استُهدِف كلٌّ منهما ثلاث مرات فقط منذ العام 2013، وهذا عددٌ أدنى بكثير من الغارات التي تعرّضت لها القنيطرة أو مناطق خاضعة للنفوذ الإيراني في حلب ودير الزور. قد يشير هذا التباين إلى غياب أنشطة إيرانية كبيرة في المحافظتَين، أو إذا كانت موجودة، فهي لا تشكّل تهديدًا كبيرًا لإسرائيل. ويشي هذا الفارق في عدد الغارات أيضًا بأن النفوذ الإيراني في القنيطرة أكبر، وذلك لأسباب عدّة.
أولًا، تختلف القنيطرة من ناحية الجغرافيا والموقع عن أجزاء أخرى من الجنوب السوري. فطبيعتها الجبلية تُسهّل إخفاء القوات العسكرية فيها، وهي ليست بعيدة عن مركز إيران الحيوي في ريف دمشق، ناهيك عن قربها من لبنان، الذي يسيطر حزب الله على حدوده فعليًا. هذه الظروف تُعدّ مؤاتيةً لإيران، وليست متوافرة في محافظة درعا مثلًا، باعتبارها منطقة مسطّحة بمعظمها وبعيدة عن ريف دمشق، ولحزب الله فيها حضورٌ أقلّ.
أحد العوامل الأخرى التي تنفرد بها القنيطرة هو أن إيران وحزب الله كان لهما وصول فعليّ إلى خطّ المواجهة في المراحل الأولى من الحرب، حتى إنهما طوّرا قدرات إطلاق نار بفضل انتشار النظام المستمرّ في بعض جيوب المنطقة. وقد شهدت القنيطرة غارة جوية كبيرة في العام 2015، قتل الجيش الإسرائيلي فيها محمد علي الله دادي، العميد في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إلى جانب ستةٍ من عناصر حزب الله، بمَن فيهم الشخصيتان البارزتان جهاد مغنية ومحمد عيسى. وفي أيار/مايو 2018، تعرّض الجولان لهجوم من عشرين صاروخًا أُطلِق من القنيطرة، حمّلت إسرائيل مسؤوليته لإيران، ثم ردّت عليه بقوة، ما أسفر عن مقتل 38 شخصًا، بمَن فيهم 18 مقاتلًا أجنبيًا.
وثمّة أفضلية أخرى تتمتّع بها إيران في القنيطرة، ترتبط بديناميات الصراع المسلّح في المنطقة، وببنية هذه الأخيرة الاجتماعية والديمغرافية، اللتَين أتاحتا الفرصة لطهران من أجل ترسيخ نفوذها. فمع اشتداد حدّة الصراع في سورية، ازدادت الانقسامات الطائفية في القنيطرة، حيث أصبحت بيت جن والقرى المحيطة بها ذات الغالبية السنّية مراكز للاحتجاجات والمعارضة المسلّحة ضدّ النظام. ومع مرور الوقت، فرضت الفصائل السنّية المتطرّفة بقيادة جبهة النصرة هيمتنها، وسَعَت إلى القضاء على القوات الحكومية. وفي العام 2013، هجّر الثوّار سكان قرية مغر المير الدرزية بكاملها، وحاولوا السيطرة على معاقل النظام مرات عدّة، ولكن من دون جدوى.
ونتيجةً لذلك، ما كان من الأقلّيات الدرزية والمسيحية في المنطقة إلا أن لجأت إلى النظام وحلفائه. فعلى حدّ تعبير أحد المحامين من المنطقة، كانت هذه الأقلّيات على استعداد "للتحالف مع الشيطان" لحماية نفسها بعد أن شعرت بالعزلة والتهديد من جبهة النصرة.4 وهكذا، أقامت علاقات مع إيران، خصوصًا بواسطة حزب الله. وفي أوائل العام 2017، بدأت الأوضاع تنقلب لصالح النظام، الذي فرض على الثوّار ما سُمّي باتفاقات المصالحة، إلى أن استعاد السيطرة على المنطقة، بما فيها بيت جن ومحيطها، بحلول أواخر العام 2017.
لا تزال الانقسامات الطائفية مستمرّةً حتى اليوم، وكذلك وجود حزب الله في المنطقة، والدليل على ذلك مقتل ثلاثة من عناصره في هجوم مسيّرة شنّته إسرائيل في كانون الأول/ديسمبر 2023. وقد لجأ الكثير من الميليشيات المحلية إلى حزب الله للحصول على التمويل والحماية. فكما شرح لنا أحد الذين قابلناهم من المنطقة، لا يؤمّن دعمُ حزب الله الحمايةَ في بيئة لا يمكن التنبّؤ بها فحسب، بل يوفّر المداخيل أيضًا، إذ يتيح المشاركة في أنشطة مربحة غير مشروعة، مثل التهريب مع لبنان أو صناعة المخدّرات والإتجار بها.5
يتأتّى التفوّق النسبي الذي تتمتّع به إيران في جنوب سورية إلى حدٍّ كبير عن شبكتها الأمنية التي تتيح الوصول إلى الحدود، وتربط بين مناطق العمليات الرئيسة، أي ريف دمشق، ودمشق، والقنيطرة، ومنطقة الحدود اللبنانية. والواقع أن الأسلوب الذي تتّبعه إيران في بناء التحالفات عن طريق المحسوبية، والحماية، وتخصيص الموارد المحلية للحلفاء، عبر إشراكهم في التجارة غير المشروعة، أكسبها أيضًا دعم الميليشيات في جميع أنحاء سورية. في المقابل، فشلت روسيا في اتّباع مثل هذا النموذج في درعا مع اللواء الثامن، بينما يفتقر نظام إلى الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك. وهكذا، باتت روسيا والنظام السوري يعتمدان بشدّة على إيران وحلفائها، ما منح طهران الأفضلية في المنطقة الجنوبية، ولا سيما في القنيطرة.
خاتمة
أظهرت الحرب الإسرائيلية المستمرّة على غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 أن المصالح الإيرانية والإسرائيلية تشهد تصادمًا حادًّا في جنوب سورية. وإذا تم تقليص أو تحييد قدرة إيران على ضرب إسرائيل من غزة أو لبنان عند انتهاء الصراع، قد تضعف قوّتها، ما يعزّز دافعها للحفاظ على وجود راسخ في الجنوب السوري. ويُعدّ ذلك مصدر قلق للدول المجاورة لسورية - ولا سيما إسرائيل، التي تهيمن على المجال الجوي السوري – وللقوى الدولية أيضًا. لذلك، إن لم تطرأ تغييرات على الوضع الراهن، من المرجّح أن تتصاعد حدّة التوترات تدريجيًا في جنوب سورية، ما قد يؤدي إلى حدوث مواجهة كبيرة بين إيران وإسرائيل في المستقبل.
شُكر
يودّ المؤلّفان التوجّه بالشكر إلى الباحث المتدّرب في كارنيغي هوشيغ كايماكاميان، لعملها على تحديد وجمع البيانات المتعلّقة بجميع الغارات الإسرائيلية في سورية. ويعربان عن امتنانهما أيضًا إلى الباحثين المحلّيين الذين ساعدوا في هذا المقال، وإلى عبدالله الجباصيني لمساهمته القيّمة.
هوامش
1مقابلة أجراها باحث مساعد للمؤلّفَين في السويداء، آذار/مارس 2024.
2مقابلة أجراها المؤلّفان مع صحافي سوري من إنخل (عبر واتساب)، شباط/فبراير 2024.
3مقابلة أجراها المؤلّفان مع صحافي سوري من إنخل.
4مقابلة أجراها المؤلّفان مع محامٍ من مغر المير (عبر واتساب)، شباط/فبراير 2024.
5مقابلة أجراها المؤلّفان مع محامٍ من مغر المير.