المصدر: Getty
مقال

فلسطينيو الشتات: حراس القضية المبعثرة

 

أثار التباعد الكبير بين الشتات الفلسطيني والسلطة الرسمية الفلسطينية، لا سيما خلال الحرب الراهنة على غزة، الكثير من التساؤلات حول مدى شرعية تلك السلطة وأهليتها للقيادة

 سركيس سيمونيان
نشرت في ٩ يناير ٢٠٢٥

لم تعد الهوة الملحوظة بين الشتات الفلسطيني والسلطة الفلسطينية الحاكمة شرخا خفيا بل دَرَكٌ واسعٌ لا تخطئه العين. فهذان الكيانان، اللذان طالما حملا مشعل النضال الوطني المشترك، يقفان الآن على طرفي النقيض بعد أن فرقتهما سنوات طويلة من الاضمحلال المؤسسي، والقيادة الفاشلة، والتفكك المتباطئ لمشروع الدولة الفلسطينية. وبين أمطار النار التي تشعلها القنابل الهاوية على غزة وما يتحمله المدنيون الفلسطينيين من معاناة لا يمكن تصورها، ضاع صوت السلطة الفلسطينية بين الصراعات الداخلية على السيطرة واللامبالاة العالمية بالمأساة المتجددة يومياً.

 في خضم هذا المشهد المتصدع، يلوح ويلح سؤال هام : هل  يمكن أن يصبح الشتات، المنفصل عن القيادة الرسمية، حجر الزاوية الذي يحمل على عاتقه القضية الفلسطينية من جديد؟

لطالما كان الشتات الفلسطيني هو العمود الفقري للنضال الوطني بما يقدمه لحركات التحرر من حملات التضامن والتمويل والمناصرة على المنصات الدولية. وفي الفترات التي شهدت بزوغ منظمة التحرير الفلسطينية، وحدت الشبكات العابرة للحدود الوطنية الفلسطينيون في المنفى وساعدتهم على توصيل مطلبهم الجماعي بالحق في تقرير المصير بوضوح وبقوة.  ولكن وللأسف مع مرور الزمن وتهاوي الثقة في السلطة الفلسطينية، التي ابتليت بالفساد والاستبداد والحكم الفاشل، تغير الوضع واضطر الشتات إلى إعادة تعريف دوره في مساندة القضية الفلسطينية. وبما أن ما يقرب من 50  في المائة من الفلسطينيين يعيشون الآن خارج الأراضي الفلسطينية، فقد اضطر هذا المجتمع العالمي لتحويل أهدافه من السعي لبناء دولة إلى السعي لحشد التعبئة الشعبية والمناصرة الدولية في اعتراف صريح بما اعترى مهمته التاريخية من عراقيل وتوجهات جديدة في آن معاً.  

إن الهوة التي تفصل الشتات الفلسطيني عن السلطة الفلسطينية الآن مع كونها مأساوية إلا أنها لحظة حساب  هامة لإخفاقات السلطة الفلسطينية الصارخة.  ففي خضم حرب غزة، دفعت ردود الفعل الفاترة للسلطة الفلسطينية حتى أقرب حلفاؤها للتشكيك في شرعيتها. وأثار الإحباط من إدارة الرئيس محمود عباس، التي تواجه تهم الاستبداد واختلاس الأموال العامة، احتجاجات في رام الله وخارجها بعد ان أدى الفساد المستشري والحكم غير الفعال إلى تآكل ثقة الجمهور فيها.  وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 87 في المئة من الفلسطينيين يعتبر أن السلطة الفلسطينية فاسدة، ويطالب 78 في المئة منهم باستقالة الرئيس عباس. وفي الوقت نفسه، أدت الصراعات على السلطة بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة إلى شل الحكم، وتمزيق الوحدة الفلسطينية، وزلزلة الأرض تحت أي قيادة متماسكة تمثل قضية مشتركة.

وفي تناقض صارخ، تبنى الشتات الفلسطيني نشاطا ديناميكيا لامركزيا، في معظمه، مستفيداً من دوره التاريخي في دعم القضية الفلسطينية من خلال المساهمات المالية والمناصرة وجهود التضامن. وحشدت مبادرات مثل الحملات العالمية لحركة الشباب الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي الدعم الشعبي لغزة، متجاوزة القنوات الرسمية. وكذلك حشد الفلسطينيون الأمريكيون، في السنوات الأخيرة، الجهود لجمع تمويل قياسي لدعم غزة في الأزمات الانسانية التي تشهدها، حيث أعلنت منظمات مثل "صندوق إغاثة أطفال فلسطين" و منظمة "أنيرا "عن مستويات تبرع غير مسبوقة.

وبينما استمرت السلطة الفلسطينية في تخبطها، صعد الشتات الفلسطيني إلى الساحة العالمية بقوة لا مثيل لها ليعيد تشكيل السياسة والخطاب الدوليين، وبدأت المنظمات التي يقودها الشتات مثل منظمة" أمريكيون من أجل العدالة في فلسطين" و"معهد التفاهم في الشرق الأوسط"، عملها في أروقة السلطة لتعيد صياغة الرؤية الرائجة حول الاحتلال الإسرائيلي وتتحدى الروايات التي طالما روجتها وسائل الإعلام الغربيةـ، ولتضغط على الحكومات الغربية لإعادة النظر في سياساتها القائمة منذ عقود بشأن المساعدات العسكرية لإسرائيل.

حرص الشتات من خلال العمل الدعوي على بعث الحياة في "حق الفلسطينيين في العودة " ونشر المطالبة بهذا الحق في الخطاب العالمي. فعلى سبيل المثال، أطلق مركز العودة الفلسطيني الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقرا له حملات لا تكل ولا تمل من أجل حقوق اللاجئين، وتمكن من تحقيق وضع استشاري خاص لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة في عام 2015. وفي الوقت نفسه، تقود الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين، التي تعمل في خمسة وأربعين بلدا، فعاليات تدور في جميع أنحاء العالم لضمان بقاء القضية على جدول الأعمال الدولي. وتضمن هذه الجهود أن يظل حق العودة حركة لا تنام وليس مجرد ذكرى راحلة.

إن الزخم من أجل التغيير يتصاعد ولا مجال لقمعه. ويمكن أن تكون دعوة الحملة الشعبية الفلسطينية إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على منظمة التحرير الفلسطينية نقطة تحول هامة، خاصة إن تبعها تعاون بين قيادة قوية موحدة وشتات قوي متمكن. لا مفر من العمل على تحويل المناصرة المفككة والمجزأة إلى قوة حقيقية ساعية لتحقق العدالة، وأي محاولة لا ترقى لهذا المستوى قد تضع مستقبل فلسطين على طريق التفكك الذي يشوه حاضرها.  

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.