منذ فوز رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بولاية ثانية في كانون الأول/ديسمبر 2010، تحوم الشكوك حول التماسك الداخلي للحكومة العراقية وقاعدة الدعم النيابية لها. لكن، ومع أن التحدّيات في الأشهر القليلة الماضية لم تنِ عن التراكم ومعها المؤشّرات عن تراجع الدعم لرئيس الوزراء أكثر فأكثر في مجلس النواب، لايزال المالكي في منصبه، ويسعى خصومه جاهدين للتنسيق في ما بينهم بهدف إطاحته.
صدرت الانتقادات الأقوى للمالكي في الأشهر الثمانية عشر الماضية عن الحركة الوطنية العراقية العلمانية المدعومة من السنّة، والتي لم تلمس شيئاً من المؤسّسات الجديدة التي تلقّت وعوداً بإنشائها على أساس تقاسم السلطة، في مقابل موافقتها على استمرار المالكي في رئاسة الوزراء لولاية ثانية. من تلك المؤسّسات "المجلس الوطني للسياسات العليا" الذي كان موضع نقاشات واسعة، وكان يُفترَض أن يضطلع بدور الإشراف على الأمن القومي وأن يترأسه إياد علاوي. وقد احتدمت المواجهة بين "العراقية" والمالكي بعد ساعات من انسحاب القوات الأمريكية من العراق في كانون الأول/ديسمبر 2011، عندما أصدر القضاء العراقي مذكّرة اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي في قضايا تتعلّق بالإرهاب، في خطوة اعتُبِرت مسيَّسة نظراً إلى توقيتها المشبوه.
منذ مطلع العام 2012، دعمت الأحزاب الكردية (التي لديها 43 نائباً في البرلمان) الحركة الوطنية العراقية (85 نائباً)، فهي مستاءة أيضاً من نكث المالكي لوعوده، بما في ذلك الاتفاقات السابقة حول الصادرات النفطية من كردستان العراق. وفي نيسان/أبريل المنصرم، أوقف إقليم كردستان تصدير النفط بسبب خلافات مالية مع الحكومة في بغداد، ثم انضمّت الأحزاب الكردية إلى "العراقية" في المطالبة بطرد المالكي من منصبه.
لكن خلافاً للتحدّيات السابقة التي واجهها المالكي، يقف الصدريون هذه المرّة بحماسة إلى جانب منتقدي رئيس الوزراء. ففي العام 2010، كانت أصوات الصدريين عنصر الحسم الذي سمح للمالكي بالفوز برئاسة الوزراء، وظهورهم الآن في موقع "الصوت المتأرجح" الذي قد يساعد الأكراد و"العراقية" على إطاحته هو تطوّر مهم فعلاً. وحدهم الصدريون يملكون كتلة كافية من النوّاب (نحو 40 نائباً) بين الأحزاب الشيعية المنضوية تحت مظلّة تحالف المالكي تتيح للكتلة المناهضة للمالكي أن تتجاوز عتبة المئة وثلاثة وستّين نائباً وتحصل على الغالبية المطلقة الضرورية لطرح الثقة بالحكومة في مجلس النواب.
لكن ليس واضحاً بعد ما إذا كان الصدريون جادّين فعلاً في سعيهم إلى تنحية المالكي. ففي البداية ساهموا بتحديد مهلة 15 يوماً للمالكي في أواخر نيسان/أبريل كي يباشر بتطبيق الاتّفاقات السياسية مع الأكراد و"العراقية" التي كانت قد ضمنت له الفوز بولاية ثانية في رئاسة الوزراء في كانون الأول/ديسمبر 2010. إلا أنهم عادوا فبدّلوا نوعاً ما خطابهم المناهض لرئيس الوزراء، مايشير إلى أن الهدف من الخطوة كان دفعه إلى تغيير أساليبه وليس إزاحته من السلطة بأي ثمن. وبعد انقضاء مهلة الخمسة عشر يوماً، أخفق تجمّع ثانٍ للقادة العراقيين في النجف برعاية صدرية في منتصف أيار/مايو الجاري في التوصّل إلى أي متابعات حاسمة بعدما طولبوا بأن يقرنوا القول بالفعل.
يثير موقف الصدريين المستجدّ تساؤلات عن دور إيران في التصعيد الأخير. فنظراً إلى التأثير الكبير الذي تمارسه إيران على التيار الصدري، يمكن أن يسلّط موقفهم ضوءاً وافياً على الاستراتيجية الإيرانية الراهنة في العراق. صحيح أن التيار الصدري اعتُبِر في السابق حركة عراقية محلية تتمتّع بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي عن الرعاة الإقليميين، إلا أن أتباعه دُفِعوا نحو الأحضان الإيرانية بعدما بدأ الجيش الأمريكي باستهدافهم - بواسطة القوة الفتّاكة أحياناً - بعد العام 2007. يقيم زعيمهم، مقتدى الصدر، في إيران لفترات طويلة، مايزيد من تأثيرها ونفوذها عليه. ولو كانت نشاطاته تضرّ بالمصالح الإيرانية، لما سمحت له طهران على الأرجح بالتنقّل بحرّية بين البلدين. ولذلك، لو كانت إيران تخشى فعلاً من تحرّك يسعى إلى تنحية المالكي، لاستخدمت الكم الكبير من الأدوات الاقتصادية والأمنية التي بحوزتها للتأثير على الصدريين.
و ربما تلعب إيران على وتر استياء "العراقية" والأكراد عبر السماح للصدر بالانضمام مؤقّتاً إلى الضغوط التي تُمارَس على المالكي، إنما من دون خلعه من منصبه. ومن شأن هذه المقاربة أن تخدم غايات عدّة. أولاً، سلّطت الأزمة مع المالكي الضوء على النفوذ الإيراني في العراق مباشرة قبل اجتماع مجموعة الدول "الخمس زائد واحد" (الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا) حول الملف النووي الإيراني الذي عُقِد في بغداد في 23 أيار/مايو. ولُمِّح في كلام جدير بالتصديق إلى أن الولايات المتحدة قد تبدي استعداداً لتسليم النفوذ في العراق إلى إيران مقابل تنازلات في الموضوع النووي. ثانياً، توجّه إيران، من خلال ضغوط الصدريين على المالكي، رسالة للتذكير بأنها لاتحبّذ فكرة أن يصبح رئيس الوزراء العراقي قوياً ومستقلاً في تفكيره أكثر من اللازم. وفي الواقع، تصرّ إيران أكثر بكثير من المالكي نفسه على الحفاظ على حكومة توافقية في العراق. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن الصدريين والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي - وكلاهما يُعتبران في شكل عام أقرب إلى إيران من ائتلاف دولة القانون التابع لرئيس الوزراء - كانا من أشدّ المنتقدين للمالكي في العامين الماضيين، ولاسيما كلما أظهر الأخير استياء من حكومة الشراكة الحالية، وأبدى دعمه لحكومة تتألّف من الأغلبية السياسية.
وبالاضافة الى حسابات الاستراتيجية الإيرانية في العراق، يُظهر العجز عن تنحية المالكي أيضاً نجاح استراتيجياته المضادّة. فقد نجح الرئيس أولاً في لعب ورقة كركوك، المدينة التي هي موضع نزاع كبير بين الأكراد والعرب والتركمان. في خطوة جريئة، عقدَ المالكي قبل نحو أسبوعَين اجتماعاً للحكومة في كركوك، معلناً إياها مدينة عراقية. وقد لقي هذا الموقف المقرب من الحكومة المركزية حظوة لدى ناخبي "العراقية" المستائين من تودّد قيادتهم إلى الأكراد، والذي يتخوّفون من أن يؤدّي ذلك إلى تنازلات في مسألة كركوك وأراضٍ أخرى متنازع عليها في شمال العراق. ويأتي هذا الأمر عقب نجاحات مماثلة للمالكي في التقرّب من القبائل السنّية في محافظات مثل الأنبار وصلاح الدين بهدف مواجهة النزعات المؤيّدة لقيام أقاليم فدرالية التي تنتشر أكثر فأكثر في تلك المناطق، وربط مصيرها بقوة أكبر بالحكومة المركزية. أخيراً، حقّق المالكي بعض النجاح في زرع الشقاق في صفوف الأكراد حول مسألة إطاحته من السلطة، مستغلاً ببراعة واقع أن الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه الرئيس جلال طالباني أكثر تردّداً من الأحزاب الكردية الأخرى في السعي إلى إبعاده من الحكم. ويبدو أيضاً أن المالكي تمكّن من التوصّل إلى اتفاق مع نائبه المحاصر المنتمي إلى الحركة العراقية، صالح المطلك، الذي يُعتقَد أن عودته إلى الحكومة باتت وشيكة.
لقد اتّخذ المالكي، من خلال هذه الخطوات، احتياطاته للتصدّي لاحتمال طرح الثقة به. وحتى إذا قرّر الصدريون الانضمام إلى الحملة الهادفة إلى إطاحة رئيس الوزراء، إلا أن الاستراتيجية التي طبّقها المالكي نجحت الى حد ما في زرع الانقسام في صفوف كتلتَي "العراقية" والأكراد. ففي مؤشّر عن ترجمة "العامل الشمالي" في الحسابات البرلمانية، تعهّد ما لايقل عن 19 نائباً من "العراقية" والمجموعات المنشقّة عنها قبل بضعة أسابيع بدعم المالكي، وبينهم 12 نائباً لايزالون اسمياً مع "العراقية". ومعظمهم نوّاب سنّة غير راضين عن السياسات التي تنتهجها قيادة "العراقية" حيال الأراضي المتنازع عليها. وفي حال التصويت على الثقة، " لن تتمكّن "العراقية من جمع أكثر من 75 صوتاً من أصل 85 نائباً في كتلتها. ولذلك من المستبعد أن يتمكّن نوّاب "العراقية" والأكراد والكتلة الصدرية مجتمعين من التصويت على سحب الثقة من المالكي، حتى لو كانت نسبة الحضور في مجلس النواب مرتفعة (عادةً لايزيد عدد الحضور في البرلمان العراقي عن الثلثَين).
لكن حريٌّ بالمالكي أن يدرك أنه إذا لم يتمكّن من توسيع ائتلافه واستقطاب بعض أصدقائه الجدد على الأقل إلى ائتلاف دولة القانون الذي يتزعّمه (إن لم يكن إلى حزب الدعوة) وإقناعهم بالانضمام رسمياً إليه، فسيبقى موقعه هشاً في مواجهة متحدّيه في الداخل والمكائد الإقليمية في آن، في ما تبقّى من ولايته الثانية.
ريدار فيسر مؤرّخ عن العراق يدوّن على www.historiae.org.