بعد التقدم الجديد الذي أحرزته قوات المعارضة السورية في شمال البلاد، وسيطرتها على محافظة إدلب ومدينة جسر الشغور في شهر نيسان/أبريل الماضي، برزت أصوات تشكك بالتزام إيران في دعم الرئيس السوري بشار الأسد الذي بدا أضعف من أي وقت مضى. لكن تصريحات أدلى بها حاكم بنك سوريا المركزي أديب ميالة في الخامس من شهر أيار/ مايو لشبكة بلومبيرغ الإخبارية بددت تلك الشكوك، إذ أشار إلى أن إيران أعطت "موافقة أولية" على قرض جديد للحكومة السورية بقيمة مليار دولار أمريكي، سوف يستخدم في تمويل الصادرات.
وسيكون ذلك القرض هو الثالث منذ اندلاع الاحتجاجات ضد النظام السوري في العام 2011. القرض الأول، والبالغ مليار دولار أمريكي جاء في شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2013 بعد انخفاض إيرادات الحكومة السورية بشكل كبير وبنحو 50 بالمائة عنها في العام 2010. أدى النزاع المسلح والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي إلى تخفيض العوائد النفطية بنسبة 90 في المئة، فضلاً عن تقلص الفوائض الاقتصادية للقطاع الحكومي وتراجع الإيرادات الضريبية من القطاع الخاص. انطلاقا من ذلك، خصصت الحكومة السورية القرض الأول لاستيراد السلع الغذائية ولدعم الاحتياطي النقدي الرسمي الذي كان يتآكل منذ اندلاع الاحتجاجات بسبب تزايد الإنفاق العسكري. القرض الثاني كان أكثر قوة فبلغ 3.6 مليار دولار وقد حصل عليه النظام السوري في شهر آب/أغسطس 2013، وخصصه بشكل أساسي لاستيراد المشتقات النفطية. كما ساعد القرض الثاني في كبح حدة انخفاض سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار عن طريق ضخ المزيد من الأموال في السوق لتجنب انهيار العملة المحلية.
لم يكن القرض الجديد هو الوسيلة الوحيدة التي أعربت من خلالها إيران عن التزامها بدعم النظام السوري بعد سلسلة من الانتكاسات العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، استقبلت طهران وزير الدفاع السوري فهد جاسم الفريج لمناقشة "تعزيز التعاون الاستراتيجي بين الجيشين (السوري والإيراني) لمواجهة التحديات التي تتعرض لها المنطقة" بحسب تلفزيون المنار. كما أرسلت إيران رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي إلى دمشق ليعلن من هناك أن دعم النظام السوري هو "ثابت ودائم" ويؤكد عدم وجود "قيود ومحدودية للتعاون مع سورية وتقديم الدعم". أيام قليلة بعد تلك الزيارة، وقعت كل من سوريا وإيران في 18 أيار/ مايو عدة اتفاقيات شملت قطاعات الكهرباء والصناعة والنفط والاستثمار، كما ناقشا "سبل تطبيق الاتفاقيات الموقعة بين البلدين".
لعبت إيران دوراً اقتصادياً متواضعاً في سوريا قبل اندلاع الاحتجاجات، لكن دورها تطور بصورة متزايدة خلال السنوات الماضية مدفوعاً بمصالحها الاقتصادية التي باتت لافتة وتستحق الدفاع عنها. تغير موقع إيران بالنسبة لشركاء سوريا الاقتصاديين من دول الجوار منذ اندلاع الاحتجاجات لتحتل موقعاً جديداً. على سبيل المثال، تسببت المواقف المناهضة لنظام الأسد التي اتخذتها بعض دول المنطقة في تبديد أحد أقوى التحالفات الاقتصادية الناشئة، وهو التحالف الاستراتيجي الذي تطور خلال الفترة الممتدة بين عامي 2004-2010 بين سوريا و تركيا وقطر. في تلك الفترة حلت سوريا بالمرتبة الرابعة على صعيد استقبال الاستثمارات الأجنبية من الدول العربية وخصوصاً من دول الخليج. ونتيجة لذلك، ارتفعت الحركة التجارية بين سوريا والدول العربية من 5.9 مليار دولار أمريكي في العام 2004 إلى 38 مليار دولار أمريكا في العام 2005، كما ارتفع عدد المشاريع الاقتصادية التركية. وقدمت كل من تركيا وقطر دعماً سياسياً قوياً لحزب الله، الحليف الرئيسي للأسد في لبنان، في حرب الحزب مع إسرائيل صيف العام 2006، وتبرعت قطر بربع مليار دولار لدعم جهود إعادة الاعمار في بنت جبيل بلدة لبنانية موالية لحزب الله. بالمقابل، كان الجمود الاقتصادي هو ما يطبع العلاقات السورية الإيرانية، وقد بقيت الاتفاقيات الموقعة منذ العام 1990 بين الجانبين والمتعلقة بتعزيز التعاون الاقتصادي وتبادل الخبرات وتشجيع الاستثمار من دون تنفيذ حتى اندلاع الاحتجاجات في العام 2011.
بعد أن دمرت الحرب قسماً كبيراً من البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية السورية، قامت إيران، وبخلاف بقية دول المنطقة، بإبرام الكثير من اتفاقيات التعاون والعقود الاقتصادية مع الحكومة السورية من اجل إعادة تشييد تلك القطاعات. شمل ذلك مجالات الخدمات والبنية التحتية والكهرباء والصحة والمطاحن والمواد الغذائية والقطاع المالي. فضلاً عن القروض التي أبرمت في العام 2013 لتمويل المستوردات بشرط أن تأتي نسبة كبيرة منها من إيران وعبر شركات إيرانية. وقد أعفت دمشق في تموز من العام 2013 شركة إيرانية مختصة بتصدير المواد الغذائية من كل الرسوم والضرائب لدى دخول بضائعها إلى سوريا. كما سرت أنباء غير مؤكدة عن أن النظام السوري قام برهن ممتلكات وعقارات حكومية مقابل الحصول على القروض الإيرانية.
في العام 2012، شرعت كل من سوريا وإيران بتطبيق اتفاقية التجارة الحرة وباتت السلع والمنتجات التي يجري تبادلها بين البلدين غير خاضعة للضريبة و التعرفة الجمركية. ساهم ذلك بارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 280 مليون دولار في العام 2010، إلى مليار دولار في العام 2014، بنسبة نمو تقارب 260 في المئة في غضون أربعة أعوام. ولا يخفي الجانبين رغبتهما الكبيرة في الرقي بحجم المبادلات التجارية إلى ملياري دولار في العام 2015 من خلال تسيير خطين بحريين مباشرين بين إيران وسوريا كما صرح الملحق التجاري في السفارة الإيرانية لدى دمشق مطلع شهر أيار/ مايو الحالي. قد لا يبدو حجم تبادل تجاري بقيمة ملياري دولار كعامل مؤثر في مقاربة إيران للملف السوري وخصوصاً إذا ما قيس بأكثر من عشرة مليارات دولار هي حجم التبادل التجاري بين إيران والعراق على سبيل المثال. لكن النمو السريع للعلاقات التجارية بين البلدين وفي ظل حرب دموية يبقى أمراً لافتاً، إذ يذكرنا بمصالح طهران في سوريا، وبحجم رهاناتها على اقتصاد البلاد بعد انتهاء الحرب.
فضلاً عن العقود المجزية التي تحظى بها الشركات الإيرانية حالياً في سوريا والتبادل التجاري المزدهر بين البلدين، تقع سوريا ضمن مخططات إيران البعيدة الأمد والمتمثلة في توسيع نشاطها في سوق الغاز الطبيعي العالمي. وقد نجحت إيران، مستفيدة من اعتماد النظام السوري على دعمها المالي، في توقيع اتفاقية بين البلدين في نهاية العام 2011 لمد أنبوب ينقل الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا ليجري تصديره عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. وفي حين أعاقت الحرب في سوريا تنفيذ ذلك المشروع الحيوي للمصالح الإيرانية، فربما يمثل انتهائها بهزيمة النظام السوري تلاشي آمال إيران في مد أنبوب الغاز وتعزيز حصتها من سوق الغاز الطبيعي العالمي.
كما تبقى عين إيران على مرحلة ما بعد الحرب، وتحديداً على عملية إعادة الإعمار، حيث يوجد حالياً ملايين المنازل والمنشآت والبنى التحتية المدمرة في سوريا. وسوف تكون إيران مستعدة بدورها، في حال امتلكت علاقات طيبة مع النظام الحاكم في ذلك الوقت، للعب دور مهيمن في عملية إعادة الاعمار، وهي التي تصنف كأكبر منتج للأسمنت والحديد في منطقة الشرق الأوسط.
يمكن تحديد عدد من الدوافع السياسية والأمنية القوية التي تفسر التزام إيران الاستراتيجي في دعم النظام السوري. ربما يأتي في المقدمة علاقة دمشق التاريخية مع حزب الله في لبنان الذي يرتبط بدوره بعلاقات سياسية وعقائدية مع طهران. كما يأتي تمسك إيران بالنظام السوري في مرحلة تعمل فيها على تكريس نفوذها في العراق وتوسيعه في اليمن والبحرين. لكن المصالح الاقتصادية لإيران في سوريا ساهمت بصورة متزايدة في دعمها الصلب للأسد، ورفضها المتواصل لبيان مؤتمر جنيف1 الذي دعا إلى تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات في سوريا يمكن أن تطيح بمصالحها الاقتصادية في وقت تخوض فيه مفاوضات شاقة مع الغرب لرفع العقوبات الاقتصادية.
رغم أن المصالح السياسية المتشابكة لإيران هي ما يدفعها إلى التعنت في موقفها من الحلول السياسية للحرب في سوريا، غير أن المصالح الاقتصادية باتت تلعب دوراً متزايد الأهمية. لذا تواصل إيران مقاومة أي تسوية شاملة يمكن أن تقود إلى تقاسم فعلي وحقيقي للسلطة، خشية خسارة مصالحها السياسية والأمنية التقليدية، ومصالحها الاقتصادية حديثة العهد، فضلاً عن المصالح المحتملة والتي سيحملها مستقبل سوريا بعد إنتهاء الحرب.
سلام السعدي باحث وصحفي فلسطيني-سوري، مهتم بالشؤون السياسية والاقتصادية لبلدان الشرق الأوسط وخصوصاً سوريا والعراق وفلسطين.