في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد القانون 31 للعام 2018 الذي يُنظّم هيكلية وزارة الأوقاف ووظائفها بعد مراجعة برلمانية اقترحت 26 تعديلاً لمسوّدة المرسوم الرئاسي. عندما قُدِّمت هذه المسودة الأولية إلى مجلس النواب في 20 أيلول/سبتمبر، أثارت سجالاً واسعاً في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. أبدى أنصار النظام قلقهم من أنه من شأن القانون أن يزيد من نفوذ وزارة الأوقاف، الأمر الذي قد يشكّل تهديداً إضافياً للتعددية الدينية ولمحاولات الدولة تسويق نفسها في صورة الجهة المدافِعة عن العلمانية. واتّهم آخرون محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف الحالي، باستخدام علاقته الوثيقة مع بشار الأسد لفرض تشريع جديد يساهم في تعزيز سلطته.
بيد أن جل ما يفعله التشريع الجديد هو تقنين الهيمنة التي يفرضها النظام منذ زمن طويل على الشؤون الدينية، في إطار استراتيجيته البراغماتية الأوسع نطاقاً القائمة على التحكّم بمؤسسات الدولة للإبقاء على قبضة شديدة على المجتمع. في حين أن وزارة الأوقاف لم تتمتع قط بالاستقلالية، يكشف القانون 31 حجم الجهود التي يبذلها النظام للسيطرة على التقوى الشعبية ومنع أي تعبئة دينية غير مرغوب فيها مستقبلاً، سواءً من جانب الإخوان المسلمين أو المجموعات الوهابية.
يعمد النظام تدريجاً إلى تمكين وزارة الأوقاف لتحقيق ذلك. في نيسان/أبريل 2014، عقدَ بشار الأسد اجتماعاً مع شخصيات دينية عدّة تحدّث خلاله بالتفصيل عن رؤيته لدور العلماء ووزارة الأوقاف في التصدي للأزمة وكبح انتشار التطرف. ولفت في هذا الإطار إلى أن "الأزمة أتاحت لنا فرصة لرسم حدود واضحة بين الأسود والأبيض. بالنسبة إلينا – الدولة ووزارة الأوقاف – يعني ذلك أنه بات من الأسهل التمييز بين العالِم الوطني والعالِم غير الوطني، بين العالِم المتطرف والعالم المعتدل". ومنذ ذلك الوقت، تسارعت وتيرة العمل على توسيع وظائف وزارة الأوقاف، فيما بدأ النظام يُعِدّ العدّة لمرحلة ما بعد الحرب عبر إقرار تشريعات جديدة. وبعد استعادة السيطرة على معظم المراكز المدينية في سورية، منها الغوطة الشرقية ودرعا وحلب، يشعر النظام الآن بأنه يتمتع بالأمان الكافي بما يتيح له معالجة المسائل الدينية والاجتماعية البعيدة المدى مثل التشدد والتطرف.
يمنح القانون الجديد وزارة الأوقاف سلطات إضافية. تنص المادة الخامسة على استحداث المجلس العلمي الفقهي الذي يمتلك صلاحية تعريف الخطاب الديني الذي يُعتبَر "ملائماً". ويتمتع الوزير بسلطة معاقبة الشخصيات الدينية التي تنشر الأفكار "المتطرفة" أو "المنحرفة" عبر سحب الترخيص منهم أو رفع دعاوى مدنية ضدهم. سوف يتولى المجلس الإشراف على جميع الفتاوى الصادرة في البلاد لمنع انتشار أي أفكار "إخوانية" أو "وهّابية"، والتي لطالما وصفها النظام بأنها تحمل تهديدات منذ بدء النزاع في العام 2011. لقد دأب النظام تكراراً على اتهام أتباع الإخوان المسلمين والفصائل الوهّابية بنشر التعصب المذهبي والتطرف الديني في سورية. في تشرين الأول/أكتوبر 2011، قال الأسد لصحيفة "تلغراف": "نحارب الإخوان المسلمين منذ الخمسينيات، وما زلنا نخوض قتالاً معهم". يحاول النظام تشريع العنف الذي يلجأ إليه عبر تصوير الخطوات التي يقوم بها بأنها تشكّل رأس حربة في الحرب العالمية على الإرهاب والتطرف.
يدمج القانون أيضاً مجموعة من المناصب والمؤسسات القائمة ضمن إطار الوزارة، جاعِلاً منها المركز الوحيد لجميع الشؤون الدينية في سورية. فالمادة 35، مثلاً، تنص على أن وزير الأوقاف يُعيّن المفتي العام لولاية تستمر لمدة ثلاث سنوات، وقابلة للتمديد فقط بموجب مرسوم رئاسي، ما يُسلّط الضوء على الجهود التي تُبذَل لفرض مركزية السلطة الدينية عبر إخضاع منصب المفتي العام – الذي كان الرئيس يُعيّنه سابقاً لأجل غير مسمّى – للهيكلية الوزارية. كذلك يمنح القانون 31 وزارة الأوقاف سلطة الإشراف على عمل "معلّمات القرآن"، في إشارة إلى القبيسيات، وهو تيار ديني نافذ يتألف من النساء فقط، وقد أنكرت وزارة الأوقاف وجوده في أيار/مايو 2018، مدّعيةً أن "عدد المعلمات 1200 امرأة فقط… هُن متطوعات ويعملن تحت إشراف الوزارة".
فضلاً عن ذلك، تنص المادة 49 على تشكيل مجلس الأوقاف المركزي، بإدارة الوزير، والمخوَّل إنشاء فرعٍ له في كل مركز بلدي وإداري للإشراف على الشعائر والاحتفالات الدينية، وتقييم تطبيق الخطط التي تضعها الوزارة. من الخطأ الاعتقاد أن هذه الجهود تصب في إطار تحقيق لامركزية السلطة الدينية. على النقيض تماماً، يساهم القانون الجديد في تقنين إشراف مركزي قوي يفرضه النظام على الشؤون الدينية في سورية.
لطالما حرمَ النظام الشخصيات الدينية من أي استقلالية، لا سيما بعد اندلاع التمرد الإسلامي المسلح ضد حكم حافظ الأسد في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات. لقد تسلّلت الدولة وتجسّست على جميع العلماء الذين لم يكونوا رسمياً جزءاً من هيكليتها، ما جعل صدقيتهم محدودة أو معدومة في نظر جمهورهم. وقد اعتمد هؤلاء العلماء موقفاً غير صدامي رداً على هذه الممارسات، واستمروا على هذا النحو حتى بعد انتشار التظاهرات في مختلف أرجاء سورية في العام 2011. لم تتمكن السلطات الدينية المحلية التي كان قد تم استيعابها من جانب النظام، من تقديم خطاب ديني جاذب للثوّار. وقد حافظت معظم الشخصيات الدينية السنّية التقليدية التي كانت في ما مضى قريبة من النظام أو تحظى بالرعاية المباشرة منه، مثل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، على ولائها للنظام أو أقله التزمت الصمت السياسي.
وقد اكتفى هؤلاء العلماء، نظراً إلى الحرية المحدودة التي يتمتعون بها، بإلقاء الخطب الدينية وإصدار الفتاوى حول مسائل هامشية أو مواضيع تاريخية وأخلاقية عامة فيما التزموا الصمت بشأن ممارسات النخبة السياسية القمعية. وعمد النظام السوري إلى ترقية الشخصيات الموالية له ومكافأتها، ما أدّى إلى تفاقم مشكلة غياب الصدقية التي يعاني منها المسؤولون الدينيون. فعلى سبيل المثال، استطاع عبد الستار السيد أن يصبح، بفضل ولائه لحافظ الأسد، وزيراً للأوقاف بين 1971 و1980، لا بل أكثر من ذلك، أتاح هذا الولاء لنجله محمد أن يرتقي السلم البيروقراطي بسرعة. يشغل محمد عبد الستار السيد منصب وزير الأوقاف منذ العام 2007، وأصبح منذ العام 2011 من المدافعين الأساسيين عن النظام.
لم تتمكن الشخصيات الدينية التي اتخذت قرار القطيعة مع النظام بعد العام 2011، مثل الشيخ أسامة الرفاعي والشيخ محمد راتب النابلسي، من تبنّي أو تطوير خطاب ثوري جديد مختلف عن الدمج التقليدي بين الفقه الأشعري والفقه الماتريدي، وعن السلفية التصوّفية التي تجنّبت السياسة وركّزت على تعزيز التقوى والمحافظية الاجتماعية. لقد تمكّنت الجهادية السلفية، الممثَّلة بجبهة النصرة وغيرها من المجموعات الجهادية، من أن تؤدّي دور محرّكٍ ثوري للتغيير الاجتماعي والسياسي في أجزاء من سورية، لا سيما في الشمال الغربي. ونظراً إلى لجوء النظام المفرَط إلى العنف وغياب الفرص السياسية، رأى عدد متزايد من الأشخاص في التيارات المتطرفة العنفية الوسائل الحيوية الوحيدة للدفع باتجاه التغيير الاجتماعي والسياسي – أو حتى لمجرد البقاء.
يتحوّل نظام الأسد، الذي يشعر بأنه يُحكم قبضته جيداً على السلطة، نحو تركيز اهتمامه على احتواء التديّن التقليدي وإدارته كوسيلة لتعطيل أي منافسة دينية صاعدة. الهدف من استحداث مجالس جديدة، مثل المجلس العلمي الفقهي ومجلس الأوقاف المركزي، هو منع أي تعبئة دينية غير مضبوطة في سورية بعد الحرب. بيد أن هذه الإجراءات الهرمية التي تسعى إلى تقنين العلاقات بين الدولة والدين في ظل حكم سلطوي قد تؤدّي، بدلاً من ذلك، إلى تعميق انعدام الثقة لدى الرأي العام بالمؤسسات الدينية الرسمية، وتشجيع الحراك الديني السرّي.
عزام القصير طالب دكتوراه في السياسة في بيركبيك، جامعة لندن.