المصدر: Getty
مقال

مصر والحرية الأكاديمية الضائعة

القمع المستمر والمتزايد الذي تمارسه الدولة المصرية ضد الأبحاث الأكاديمية يعرقل أهدافها الساعية إلى توسيع المعرفة لتحقيق التنمية الاقتصادية.

 أيمي أوستن هولمز و سحر عزيز
نشرت في ٢٤ يناير ٢٠١٩

سلّط وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في الكلمة التي ألقاها في الجامعة الأميركية في القاهرة في العاشر من كانون الثاني/يناير، الضوء على الترابط الوثيق بين الحرية الأكاديمية والتنمية الاقتصادية. ودعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى "إطلاق العنان للطاقة الإبداعية لدى الشعب المصري، وتحرير الاقتصاد من القيود، والعمل على تعزيز تبادل حر ومفتوح للأفكار". لكن فيما كان يتكلم، كانت الحكومة المصرية تُكبّل التبادل الحر للأفكار عبر اللجوء إلى مستويات غير مسبوقة من الحظر والرقابة على الحرية الأكاديمية وقمعها.

يُضاف القمع الذي يمارسه نظام السيسي ضد الأبحاث الأكاديمية إلى التحديات العملية التي يطرحها بناء قطاع تعليمي قوي. حتى فيما تسعى الحكومة إلى إحياء دور البلاد التاريخي في موقع الجهة الرائدة إقليمياً في الابتكار وإنتاج البحوث، محكومٌ على هذا الهدف بالفشل في غياب الحرية الأكاديمية.

تسعى "رؤية مصر 2030"، التي قُدِّمت في شباط/فبراير 2016، إلى تحسين تصنيفات مصر العالمية في التنافسية والشفافية وسهولة القيام بالأعمال. ويندرج في إطار هذه الأهداف الواسعة توسيع المعارف والابتكار والبحوث العلمية. على هذا الأساس، تُحدّد الرؤية هدفاً يتمثّل في تحسين تصنيف مصر في مؤشر الابتكار العالمي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية من 99 من أصل 143 في العام 2014 إلى 60 بحلول العام 2030. ويشتمل ذلك على تحسين تصنيفها في المؤشر الفرعي لنشر المعرفة من 69 إلى 30، وفي مؤشر خلق المعرفة من 71 إلى 30. بغية تحسين جودة التعليم العالي وإفساح المجال أمام انضمام 300000 طالب جديد إلى الجامعات بحلول العام 2020، و980000 بحلول العام 2030، وفقاً للتوقعات، ينبغي على مصر استقطاب جامعات أجنبية لإنشاء فروع لها في البلاد، ما دفع بالبرلمان المصري إلى الموافقة على قانون جديد يساهم في ترشيد الآلية الإدارية للسماح بالتعجيل في إنشاء فروع دولية.

في العام 2017، تحدّثَ السفير المصري لدى بريطانيا العظمى، ناصر أحمد كامل، مع المعنيين في جامعة ليفربول عن إمكانية إنشاء فرع في مصر. وقد فكّرت الجامعة جدّياً في الأمر نظراً لما يحمله من فرصة توليد عائدات كبيرة من الأقساط الجامعية. لكن بعد إجراء تحليلٍ أوّلي، وجدت الجامعة أن المخاطر المتأتّية عن ذلك، ومنها ما وصفته لجنتها الإنمائية الدولية باحتمال "تعرُّض سمعتها للضرر"، هي أكبر من أي منافع مالية يمكن تحقيقها. والمقصود بالكلام عن "تعرُّض السمعة للضرر" كان الإشارة إلى سجل حقوق الإنسان الآخذ في التردّي في مصر، من خلال الاعتقالات، والحجز التعسّفي، وتشويه السمعة (الذي يطال أيضاً الأكاديميين)، وحتى الأحكام بالإعدام، وجرائم القتل. والنتيجة مناخٌ سياسي مريع لا يؤمّن بيئة مؤاتية للتعليم، فما بالكم بالأبحاث الابتكارية.

كذلك يكشف قرار جامعة ليفربول عن نزعةٍ مقلقة تُلقي بوزرها على الجامعات الحكومية والخاصة في مصر، وتتمثّل في خسارة الحرية الأكاديمية. فقد سلّطت قضايا عدة على غرار قضية وليد الشوبكي الذي أُخلي سبيله في الأول من كانون الأول/ديسمبر بعدما أمضى ستة أشهر في السجن، الضوء من جديد على انحسار الحرية الأكاديمية. فالشوبكي، وهو طالب دكتوراه في جامعة واشنطن، كان يجري أبحاثاً ميدانية في القاهرة تحضيراً لأطروحته عن استقلال القضاء عندما أقدمت القوى الأمنية على خطفه في أواخر أيار/مايو الماضي. كان اسم الشوبكي مدرَجاً على قائمة من ثلاثة عشر صحافياً وأكاديمياً وناشطاً في المجتمع المدني متّهمين بنشر أخبار كاذبة وتشارُك معلومات مع "مجموعات محظورة"، بموجب قانون مكافحة الإرهاب الشديد القسوة الذي تُطبّقه مصر. بعد نحو ثلاث سنوات من جريمة القتل الهمجية التي أودت بحياة جيوليو ريجيني، وهو أيضاً طالب دكتوراه كان يجري أبحاثاً ميدانية في القاهرة لإعداد أطروحته، تستمر مصر في قمع الحياة الفكرية للأساتذة والطلاب على السواء.

تتخطى مستويات القمع هذه كل ما عرفته البلاد قبل وصول السيسي إلى السلطة. في عهدَي أنور السادات وحسني مبارك، وفيما كانت الحكومة المصرية تزداد سلطوية، كانت الجامعات الحكومية تخضع للسيطرة الشديدة من السلطة التنفيذية. تغيّرَ هذا الوضع قليلاً في مرحلة ما بعد الثورة. وفي العام 2012، نزولاً عند المطالب الشعبية بالحصول على مزيد من الحرية، أجاز الرئيس محمد مرسي لأعضاء الهيئات التعليمية انتخاب عمداء الجامعات ورؤسائها بأنفسهم. شكّلت هذه الاندفاعة التي أُعطيَت للاستقلال الذاتي والحرية الأكاديميَّين بعد الثورة، خطوةً أولى مهمة في جعل الجامعات تبتعد عن حالة التبعية لنظامٍ سلطوي وتتحول إلى مراكز مستقلة للأبحاث والتعليم.

بيد أن التغيير لم يُعمِّر طويلاً. ففي العام 2014، أصدر السيسي مرسوماً رئاسياً ألغى بموجبه الإجراء السابق. وهكذا بات الرئيس المصري مخوَّلاً من جديد تعيين جميع الرؤساء والعمداء في الجامعات الحكومية كافة. وفي العام 2015، عمد مرسوم رئاسي إلى توسيع الأساس المعتمد لإقالة الأساتذة الذين ينتمون إلى ملاك الجامعات ليشمل أي حراك في حرم الجامعة فضلاً عن انتهاكات مبهمة للأخلاقيات. وفي العام التالي، أصدر السيسي مرسوماً رئاسياً أجاز فيه للأجهزة الاستخبارية ضبط الجامعات الحكومية والحياة الفكرية لأعضاء هيئات التدريس فيها. نتيجةً لذلك، يُفرَض الآن على أعضاء هيئات التدريس التقدّم بطلبات إلى الأجهزة الاستخبارية للموافقة عليها كي يتمكّنوا من المشاركة في محاضرات خارج البلاد. ويجب أن توافق أجهزة الاستخبارات أيضاً على الدعوات التي توجّهها الجامعات الحكومية إلى شخصيات أجنبية لإلقاء محاضرات لديها، وكذلك على أي مقررات دراسية جديدة ترغب هذه الجامعات في إدراجها في مناهجها.

في إطار الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها السلطة التنفيذية لإحكام قبضتها على الجامعات، أعلن رئيس مجلس الدراسات العليا والبحوث في جامعة الإسكندرية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، أنه يجب أن تتقيد جميع اقتراحات الأطروحات لنيل الدكتوراه والماجستير بمندرجات "رؤية مصر 2030". بيد أن القرار الذي اتخذته الدولة بفرض سيطرتها على الجامعات الرسمية والمواضيع التي يُسمَح للطلاب بدراستها يحدّ من الإبداع ومهارات التفكير النقدي التي يجب تطويرها لدى الطلاب المصريين كي تتمكن البلاد من تلبية أهداف "رؤية 2030".

هذه السيطرة المحكمة، بما في ذلك الوجود العلني والسرّي لضباط الاستخبارات، لم تؤدِّ وحسب إلى خنق الحياة الفكرية، بل حرمت الطلاب أيضاً من حريتهم. فبين العامَين 2013 و2016، أوقِف أكثر من 1100 طالب، وطُرِد ألف طالب أو اتُّخِذَت إجراءات تأديبية بحقهم، ومَثُل 65 طالباً أمام المحاكم العسكرية، وقُتِل 21 طالباً خارج نطاق القضاء.

ولم تكن الجامعات الخاصة أفضل حالاً. فمع أن هذه الجامعات كانت تاريخياً بمأمن من التدخلات الحكومية، إلا أنها تواجه ضغوطاً لمنع الأبحاث التي من شأنها أن تثير غضب النظام. مثالٌ على ذلك ما تتعرض له الجامعة الأميركية في القاهرة. فعلى النقيض مما هو معمول به في الجامعات الرسمية، ليست الحكومة المصرية مخوَّلة اختيار الأشخاص الذين سيتولون المناصب الإدارية الرفيعة في الجامعة الأميركية أو تكليف ضباط استخباريين مراقبة الحرم الجامعي. غير أن القوى الموالية للنظام تجد طرقاً أخرى لاستهداف الأساتذة الذين تُعتبَر أبحاثهم مصدر تهديد للنظام.

ففي العام 2015، حُكِم على البروفسور عماد شاهين بالإعدام غيابياً في تهم ملفّقة زوراً في إطار محاكمة جماعية – لا سيما بسبب كتاباته عن انتهاكات حقوق الإنسان على يد الحكومة العسكرية. ومُنِع آخرون من مغادرة مصر بعد توجيه تهمٍ مسيَّسة إليهم، أو شُوِّهت سمعتهم في وسائل الإعلام الخاضعة للدولة على خلفية أبحاثهم.

باختصار، تتسبب السلطوية بشل الجامعات في البلاد – مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات خطيرة على التنمية الاقتصادية. كي تتمكّن مصر من تلبية الأهداف الواردة في رؤية 2030 واستقطاب الجامعات الدولية لإنشاء فروع لها في البلاد، يجب أن تتوافر درجة معيّنة من الحرية الأكاديمية، خلافاً لما هو عليه الحال راهناً. في الانتظار، ستبقى رؤية 2030 منفصلة عن الواقع.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

آيمي أوستن هولمز باحثة زائرة في جامعة هارفرد، وزميلة في برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون، وأستاذة مساعِدة في مادة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في القاهرة. سحر عزيز أستاذة وباحثة في شؤون العدالة الاجتماعية حائزة على منحة شانسلور في كلية الحقوق في جامعة روتغرز ومديرة مؤسِّسة لمركز روتغرز للأمن والعرق والحقوق. لمتابعتهما عبر تويتر AmyAustinHolmes@ وsaharazizlaw@

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.