الضربة المزدوجة التي سدّدها انهيار أسعار النفط وتفشي جائحة "كوفيد 19" تلقي بضغوط فريدة على الاقتصاد السعودي. لقد تسبب وباء "كوفيد 19" بمزيد من التراجع في أسعار النفط وألحق أضراراً جسيمة بالقطاعات غير المرتبطة بالطاقة التي تحاول السعودية تطويرها بهدف تحقيق التنويع. تضع الديناميات الراهنة استدامة الدولة الريعية على محك الاختبار، وتدفع نحو اعتماد إجراءات تقشفية غير مسبوقة. فالخطة المعروفة بـ"رؤية المملكة 2030"، والتي تُشكّل محور المقاربة التي يعتمدها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لإحداث تحوّل في السعودية، عُلِّق تنفيذها إلى حد كبير، وقد لا يعاوَد تطبيقها بصيغتها الأصلية. ولكن هذه الأزمة ربما تتيح أيضاً فرصة من أجل وضع إطار جديد للتفكير وإدخال تعديلات في الاقتصاد السعودي قد تكون مفيدة في المدى الطويل. سوف يكون على الحكومة اتخاذ قرارات حاسمة من شأنها أن تفضي إلى اقتصاد أصغر حجماً وأكثر فعالية فيما تعمل السعودية على الخروج من هذه الأوضاع. ربما كان تطبيق تلك القرارات شاقاً في الظروف الطبيعية، لكنها تُعتبَر ضرورية اليوم.
في آذار/مارس الماضي، سجّل صافي الأصول الأجنبية السعودية تراجعاً قدره نحو 27 مليار دولار ليصبح 464 مليار دولار، وهو أدنى مستوى له منذ 19 عاماً. وقد رفعت وزارة المالية سقف ديونها من 30 في المئة من إجمالي الناتج المحلي إلى 50 في المئة. وأشارت شركة "سعودي أراماكو"، وهي الشركة الحكومية الأكبر حجماً في العالم، إلى تراجع صافي إيراداتها بنسبة 25 في المئة في الربع الأول من عام 2020. وبحسب صندوق النقد الدولي، يجب أن يبلغ سعر برميل النفط 76 دولاراً كي تتمكن السعودية من تحقيق توازن في ميزانيتها، وهذا الرقم هو أكثر من ضعف السعر الراهن. وتشكّل هواجس الصحة العامة خطراً يُهدّد القدرة على استقبال ملايين الحجّاج في مكة والمدينة في تموز/يوليو خلال موسم الحج. يُشار في هذا الصدد إلى أن السياحة الدينية تؤمّن نحو 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي في البلاد.
إزاء الضغوط الشديدة على الموازنة، اتخذت الحكومة خطوات عدة لكبح الإنفاق وزيادة العبء على المستهلكين. ومن التدابير التي أُعلن عنها مؤخراً زيادة الضريبة على القيمة المضافة ثلاثة أضعاف، والتوقف عن تسديد بدل غلاء المعيشة لموظفي القطاع العام. تسعى الحكومة إلى خفض الإنفاق بمقدار يفوق 26 مليار دولار، وقد أنشئت لجنة لإعادة النظر في رواتب الموظفين والمتعاقدين خارج منظومة الخدمة المدنية المعيارية. تكشف هذه الإجراءات عن خطورة الوضع، وأن المنافع التي اعتاد السعوديون الحصول عليها لم تعد مضمونة.
وفيما تدخل الإجراءات التقشفية حيز التنفيذ، تُجرى أيضاً تعديلات في "رؤية المملكة 2030" ذات الكلفة الباهظة جداً. تقوم هذه الخطة الإنمائية على مجموعة من الأهداف التي تُعتبَر طموحة جداً حتى في ظروف أكثر طبيعية. واليوم، قد يكون مصير مشاريع عدة مرتبطة بـ"رؤية المملكة" في مجموعة واسعة من القطاعات مثل البنى التحتية والسياحة والترفيه، التأجيل أو طرحها جانباً. لقد وضع ولي العهد الذي دخل دائرة الضوء قبل بضع سنوات فقط وبات الآن وجه المملكة الأبرز، رهاناً كبيراً على نجاح الرؤية. بيد أن الوقائع الاقتصادية الراهنة تجعل من الصعب تنفيذ مشاريع باهظة التكلفة من هذا القبيل. وربما لم يعد ممكناً تحقيق أحد أبرز أهداف الرؤية، والذي يتمثل بتشييد مدينة ضخمة بكلفة 500 مليار دولار يُطلَق عليها اسم "نيوم" ويُتوقَّع أن تكون مساحتها أكبر من مساحة مدينة نيويورك بـ33 مرة (ولعل تعذّر تحقيق هذا الهدف ليس بالأمر السيئ).
تعمل السعودية، شأنها في ذلك شأن الدول الأخرى الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، على خفض اعتمادها على إيرادات الطاقة وتعزيز قطاعها الخاص. تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن النفط يمثّل أكثر من 40 في المئة من إجمالي الناتج المحلي السعودي ونحو 80 في المئة من الصادرات. وفي منطقةٍ عُرِفت تاريخياً بالقطاع العام المضخَّم، من الضروري تحفيز أجواء التنافس والابتكار في قطاع الأعمال. وقد أحرزت السعودية تقدماً في هذا المجال. يرد في تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال" لعام 2020 الصادر عن البنك الدولي، والذي يركّز على تنظيمات الأعمال الإنتاجية، أن السعودية هي من البلدان التي شهدت القدر الأكبر من التحسن. وفي عام 2019، اشتكت شركات أجنبية، منها شركة "جنرال ديناميكس" العملاقة في قطاع الصناعة الدفاعية، من عدم التزام الحكومة السعودية بتسديد مستحقاتها في الوقت المحدد. ربما تجد الحكومة، في زمن تفشي الوباء، صعوبة أكبر في تسديد مستحقات الجهات التعاقدية، ما يلحق مزيداً من الأضرار بسمعتها. ومثلما هو الحال في البلدان الأخرى، يرخي وباء "كوفيد 19" بثقله على القطاع الخاص ويدفع بعدد كبير من الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم إلى إغلاق أبوابها، أو الاعتماد على المساعدات الحكومية. تعتزم السعودية تنويع القطاع الخاص وتوسيعه من خلال تطوير مناطق اقتصادية خاصة، وزيادة الاستثمارات الخارجية المباشرة، وخصخصة الكيانات المملوكة من الدولة. إنما سيكون عليها الانتظار، بصورة أساسية، إلى حين تحقيق توازن أكبر في الميزانية العمومية للبلاد.
على ضوء التحديات المختلفة التي يواجهها الاقتصاد السعودي، يجب القيام بالعديد من الخطوات الأساسية من أجل تحقيق معافاة ناجحة وإحراز التطور المطلوب. ينبغي على الحكومة أن تتحلى بالانضباط، وأن تبدي استعداداً للابتعاد عن المعايير القائمة منذ وقت طويل، وتُظهر قدرة على اتخاذ قرارات سوف تكون موجعة في المدى القصير. ومن شأن الانطلاق في مسار تحفّزه الإصلاحات أن يتيح أيضاً فرصة أمام السعوديين لإظهار الحزم وإعادة ضبط العناصر الاقتصادية التي تعاني من التعثّر. يمكن أن ينهض الاقتصاد من جديد مع التزام متجدد بدعم طاقات القطاع الخاص واستحداث فرص وظيفية للشباب. تستطيع المملكة أن تستثمر، خلال الجائحة، في التقدم الذي أُحرِز مؤخراً في المساحة الرقمية، من خلال تطبيقات الهواتف الخلوية، وبوابات الخدمات الحكومية، والتجارة الإلكترونية.
الفرصة سانحة أيضاً لإعادة صياغة "رؤية المملكة 2030"، وقولبة تلك الخطة الضخمة في صيغة أكثر واقعية وأصغر حجماً. ليس التطلع إلى بناء مدينة كبرى أو جعل السعودية الوجهة السياحية الأكثر جاذبية في الشرق الأوسط إشكالياً في حد ذاته، ولكن على ضوء الأزمة الراهنة في الموازنة، قد يكون الوقت مؤاتياً للتفكير في كيفية إرساء توازن بين تلبية الاحتياجات الملحّة ومواصلة العمل على تطبيق "رؤية 2030". إضافةً إلى ذلك، يدفع وباء "كوفيد 19" باتجاه تبدّل الموقف من العمالة الأجنبية في مختلف أنحاء العالم. فقد اعتمدت السعودية، شأنها في ذلك شأن بلدان مجلس التعاون الخليجي بصورة عامة، على ملايين العمّال الأجانب على مر السنين للنهوض بالوظائف الماهرة وغير الماهرة على السواء. وبما أن الجائحة جعلت جزءاً كبيراً من القوة العاملة من دون عمل، إنه وقتٌ مثالي لإعادة دوزنة نسبة العمال الأجانب إلى المواطنين السعوديين وزيادة "توطين" الاقتصاد.
على سبيل المثال، كان قطاع التجزئة السعودي يوظّف 1.5 مليون شخص في عام 2018، وكان 300000 منهم فقط من الجنسية السعودية. سوف يحتاج ملايين السعوديين، لا سيما الشباب منهم، إلى وظائف عند انحسار هذه الأزمة. وفي ناحية معيّنة، يمكن أن يتيح هذا التوقف الاقتصادي فرصة لإعادة ضبط الأمور، ما يمهّد الطريق أمام السعوديين لتسلّم الوظائف في قطاعات حيث كان وجودهم ضئيلاً في السابق. من شأن هذه المرحلة الانتقالية أن تدفع بعدد كبير من العمّال الأجانب إلى البحث عن وظائف في أماكن أخرى، ما يفضي إلى تراجع خروج التحويلات المالية من المملكة، والتي احتلت المرتبة الثالثة في العالم لناحية حجمها في عام 2018، مع بلوغها نحو 34 مليار دولار أميركي. ولكن المرحلة الانتقالية تساعد أيضاً على معالجة مسألة البطالة في السعودية وعلى بناء حسن النية السياسية في العلاقة مع السكان.
في غضون ذلك، ينفق صندوق الثروة السيادية في المملكة المعروف بصندوق الاستثمارات العامة، مبالغ طائلة. فعلى النقيض من بلدان كثيرة في العالم العربي، تمتلك السعودية الموارد اللازمة للإنفاق بوفرة والإفادة من صفقات جيدة في السوق. في الأشهر الأخيرة، زاد صندوق الاستثمارات العامة حيازاته في الأسهم الأميركية من نحو 2.2 مليارَي دولار في كانون الأول/ديسمبر إلى 9.8 مليارات دولار في أواخر آذار/مارس. ويحاول الصندوق أيضاً شراء فريق كرة القدم الإنكليزي "نيوكاسل يونايتد" بسعرٍ يفوق 300 مليون دولار. على الرغم من الضربة القوية التي تلقاها الاقتصاد السعودي، لا تزال المملكة تملك إمكانات مادّية هائلة والقدرة على انتهاز الفرص خلال هذا الركود العالمي.
أخيراً، قد تؤدّي هذه الأزمة إلى تعزيز التعاون بين السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي الذي يتصف بدرجة محدودة من الفعالية. على ضوء التحديات غير المسبوقة، قد يكون الوقت الحالي هو الأمثل لإيجاد حلول للحصار الذي تقوده السعودية والإمارات ضد قطر، والذي ألحق أضراراً بمجلس التعاون الخليجي كاملاً على المستويَين السياسي والاقتصادي. من شأن كتلة موحّدة تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي أن تكون أفضل استعداداً بأشوط لإدارة أزمة "كوفيد 19" والتدنّي في أسعار الطاقة.
يمكن أن يخرج الاقتصاد السعودي من هذه المرحلة العصيبة وقد باتت أولوياته مصقولة، والقطاع الخاص أكثر دينامية، فضلاً عن استحداث وظائف جديدة للمواطنين السعوديين. سوف يستغرق هذا التحول وقتاً ويتطلب مقاربة متينة وراسخة، لا سيما وأن وباء "كوفيد 19" لن يختفي، على ما يبدو، في غضون أشهر معدودة. لكن اللحظة الراهنة قد تكون بمثابة نداء يقظة يساهم في الدفع نحو تحقيق إصلاحات مهمة في الاقتصاد السعودي وفي جعله أفضل استعداداً للمستقبل.
بايلي ويندر طالب ماجستير في إدارة الأعمال في جامعة أكسفورد. لمتابعته عبر تويتر @BaylyWinder.