المصدر: Getty
مقال

من تحارب أنقرة في سوريا: الأكراد أم العمال الكردستاني؟

مع استمرار الموقف التركي المتشدد من حقوقِ الأكراد المشروعة، ينبغي على المنظمات الدولية والجهات الفاعلة المساهمة في منع أنقرة من التمدد أكثر في سوريا.

 جوان سوز
نشرت في ٤ مايو ٢٠٢١

طالب البرلمان الأوروبي في 11 مارس/ آذار 2021، تركيا بالانسحاب من الأراضي السورية واصفاً وجود أنقرة العسكري فيها بـ "الاحتلال"، وذلك بعد أسابيع من إطلاق منظمة هيومن رايتس وتش، الوصف ذاته على الوجود التركي في شمال غربي سوريا وشمال شرقيها، فقد سلّطت المنظمة الحقوقية الدولية حينها، في تقريرٍ لها، الضوء على عشرات السوريين بينهم أكراد يقبعون في السجونٍ التركية. ومع هذا الاهتمام الدولي، عاد الحديث مجدداً عن "احتلال" تركيا لأراض سوريّة، كما طالبت هيومن رايتس وتش أنقرة بالالتزام بواجباتها كسلطة احتلال بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، خاصة بعدما أقدم مسلحون سوريون موالون لها على احتجاز 63 سورياً على الأقل ونقلهم إلى تركيا لاحقاً، حيث يخضعون حالياً للمحاكمة على أراضيها بالرغم من أنهم لا يحملون الجنسية التركية. وهناك احتمال أن يواجهوا عقوباتٍ تصل إلى السجن المؤبد.

بدأت مثل هذه الانتهاكات مع أول هجومٍ تركي مباشر على أكراد سوريا، فقد شنت أنقرة هجوماً واسع النطاق على مقاطعة عفرين الواقعة شمال غربي محافظة حلب، مطلع يناير/ كانون الثاني عام 2018، وأدى ذلك إلى فرار 320 ألفاً من سكان المنطقة التي كانت تمثل ثقلاً كردياً رئيساً في سوريا. ولم يتمكن هؤلاء من العودة إلى بيوتهم حتى الآن، بعد أن سيطرت القوات التركية على مدينتهم بالتعاون مع جماعات المعارضة السورية المسلّحة في 18 مارس/ آذار 2018.

وقد تسبب نزوح أكثر من نصف سكان مدينة عفرين إلى خارجها، بإحداث تغيير ديمغرافي فيها، وهو ما وثّقته لجنة التحقيق الدولية المستقلة في تقرير أصدرته منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي. وكشفت فيه أيضاً انتهاكاتٍ جسيمة تعرّض لها السكان الأكراد على وجه الخصوص في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الجيش التركي ومقاتلي المعارضة المسلّحة ومن بينها مدينة عفرين، إضافة لمدينتي تل أبيض ورأس العين الواقعتين شمال شرقي سوريا والتي فرضت أنقرة مع مسلحي المعارضة سيطرتها عليهما في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019 بعد فرار معظم السكان الأكراد منهما. وكذلك السريان - الآشوريين والأرمن، إذ نقلت إذاعة أرمينيا العامة في تلك الأثناء عن زاريه سينانيان مسؤول "أرمن الشتات" قوله إن "تركيا وضعت شروطاً مستحيلة لعودة الأرمن إلى بيوتهم في تل أبيض". كما أن لجنة التحقيق الدولية ذكرت في التقرير نفسه أن "الأكراد يتخوّفون من العودة لبيوتهم خشية تطهيرٍ عرقي بحقهم، تمارسه أنقرة وحلفائها من مقاتلي المعارضة المسلّحة".

وبالتالي جُرِدت عفرين من أكرادها قبل نحو ثلاث سنوات، وتكرر الأمر ذاته أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في مدينتي تل أبيض ورأس العين التي يطلق عليها الأكراد "سري كانييه"، حيث لم يتمكن أغلب الأكراد الذين فرّوا من هذه المدن أثناء هجمات الجيش التركي، من العودة إليها لاحقاً. وكذلك الأمر بالنسبة للسريان – الآشوريين والأرمن خاصة وأن لكلا المكونين إلى جانب الأكراد، تاريخٌ طويل من الصراع مع تركيا. كما أن هناك أقلية عربيّة لم تتمكن أيضاً من العودة لبيوتها في تل أبيض ورأس العين نتيجة تعرّض بعضهم للملاحقة من قبل الجيش التركي ومقاتلي المعارضة بعد اتهامهم بالتعاون مع "قوات سوريا الديمقراطية" التي تصنفها أنقرة جماعة "إرهابية" ترى فيها امتداداً لحزب "العمال الكردستاني" المحظور لديها.

وعلى الرغم من هذه الانتهاكات الجسيمة والتهجير الذي تعرض له الأكراد، ما زالت وسائل الإعلام التركية الحكومية تنفي حصولها وتستند على وجود ملايين الأكراد في تركيا، وعلى تعامل أنقرة مع حكومة إقليم كردستان العراق. لكن لا يبدو هذا الأمر صحيحاً على الإطلاق بالنظر إلى الوقائع على الأرض، فعلى الرغم من أن الأكراد في تركيا يشكلون ما بين 15 – 20 بالمئة من إجمالي سكان البلاد، إلا أنهم لا يتمتعون بأدنى حقوقهم، حيث لا يمكنهم الدراسة بلغتهم الأم، أو تداولها لغاية اليوم، وتحاربها أنقرة رسمياً، حيث قامت السلطات بإزالة الكلمات الكردية التي كانت قد كُتبت على أبواب بلدياتٍ فاز فيها حزبٌ مؤيد للأكراد. وطالبت أنقرة قبل مدة، بلدية نرويجية بإزالة لوحات طرقية لمقاتلات كرديات من سوريا. بالإضافة لمقتل الشاب الكردي باريش تشاكان في العاصمة أنقرة في مطلع يونيو/حزيران 2020 على يد متطرّفين أتراك على خلفية استماعه لموسيقى كردية، وهو ما يؤكد وجود كراهية مجتمعية ضد الأكراد في تركيا تغذّيها وسائل الإعلام الحكومية، وخاصة تلك الداعمة والممولة من حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرّف الذي يسعى لإبادة الأكراد ، فهو يدعم هجمات الجيش التركي على الأكراد خارج الحدود كما في سوريا وكُردستان العراق، فضلاً عن مطالباته المتكررة بحظر حزب "الشعوب الديمقراطي" ومعاقبة ناخبيه.

ولا تعد معاداة تركيا للغة الكردية بجديد، فهي لغة محظورة حتى الآن. وفي عام 1991 كانت جملة واحدة باللغة الكردية نطقت بها البرلمانية ليلى زانا مدخلاً للمحاكمة، حيث بقيت بعد ذلك 10 سنوات في السجن بعدما اُتهِمت بنشر دعاية "إرهابية" لصالح حزب "العمال الكردستاني" عقب حديثها القصير بلغتها الأم تحت قبة البرلمان الأمر الذي رفضه معظم النواب الأتراك الذين طلبوا منها التوقف عن الحديث باللغة الكردية. حتى أن أنقرة تمنع إلى اليوم استخدام كلمة "كردستان" رغم أنها رفعت الحظر عن تداولها خلال حقبة مفاوضاتها مع "العمال الكردستاني" عام 2013، لكن مع فشل تلك المفاوضات، حظرتها مجدداً في صيف العام 2015.

وفي ديسمبر 2017، غُرّم عثمان بايديمير البرلماني السابق عن حزب "الشعوب الديمقراطي" بمبلغ 12000 ليرة تركية، ومنعه من دخول البرلمان ليومين عندما تحدث في كلمته داخل البرلمان عن "كُردستان". 

 سياسياً، تعاني الأحزاب الكردية في تركيا أيضاً من تهميشٍ واضح وقمع واستهداف قياداته، حيث لا يوجد حزب كردي واحد ممثل في البرلمان بصفة رسمية. وحتى الآن، هناك فقط الحزب المؤيد للأكراد وهو "الشعوب الديمقراطي"، ويُطلق عليه هذا الاسم لأنه يدعو لحل القضية الكردية سلمياً في البلاد. ومع ذلك معظم قادته يقبعون خلف القضبان اليوم، واُحتجِز بعضهم من قبل السلطات في حين كانوا يتمتعون بحصانة نيابية مثل صلاح الدين دميرتاش وفيغان يوكسكداغ. وكلاهما مسجونان منذ أكثر من 4 سنوات مع العشرات من رؤساء البلديات والنواب الحاليين والسابقين من حزب "الشعوب الديمقراطي". كل هؤلاء خضعوا لتحقيقات واستجوابات أمنية لمعرفة ميولهم وتوجهاتهم، وإذا ما كانوا قد تورطوا بالفعل في عملياتٍ "إرهابية" قبل خوضهم للانتخابات، نتائج التحقيقات أكدت عدم ممارستهم لأنشطة غير شرعية. لكن بسبب دعمهم لحقوق الأكراد بعد فوزهم في الانتخابات، تحوّلوا لإرهابيين وزجّ بهم في السجون. كما أن السطات أغلقت مئات وسائل الإعلام والمراكز الثقافية واللغوية الكردية، وكذلك الأرمنية باعتبار أنه تم إنشائها بدعمٍ من حزب "الشعوب الديمقراطي".

تؤكد هذه الوقائع أن وجود "العمال الكردستاني" مجرد ذريعة تتخذها تركيا لمحاربة الأكراد ككل ومنعهم من الحصول على حقوقهم المشروعة في إدارة مناطقهم بأنفسهم، إذ لا ترغب بوجود كياناتٍ سياسية أو حتى ثقافية كردية على أراضيها، كما لا ترغب أيضاً في وجود أي تشكيلات كردية مسلّحة، وبالتالي هي ترفض وجود أكرادٍ يحكمون أنفسهم بأنفسهم على حدودها الجنوبية، كما في سوريا.

مع استمرار الموقف التركي المتطرّف، ليس فقط من إقامة كيان كردي، كموقفها الرافض من استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق في سبتمبر / أيلول 2017، وإنما من حقوقٍ كردية تعدّ مشروعة، مثل رفض تركيا الإدارة الذاتية لشمال وشمال شرقي سوريا، التي أسسها الأكراد مع بقية مكونات المنطقة، وتضييقها على حزب "الشعوب الديمقراطي" داخل تركيا، في ظل هذه الأوضاع ينبغي على المنظمات الدولية والجهات الفاعلة المساهمة في منع أنقرة من التمدد أكثر في سوريا، والضغط عليها للسماح بدخول مؤسساتٍ محايدة إلى المناطق السورية التي سيطرت عليها، بهدف رصد الانتهاكات التي تحصل فيها بحق الأكراد وغيرهم من مكونات المنطقة، علاوة على مساعدتهم في إعادة المهجرّين منهم إلى بيوتهم.

جوان سوز، باحث وصحافي مختص بالشؤون التركية والأقليات في الشرق الأوسط، وهو أيضاً عضو في نقابة الصحافة الفرنسية SNJ.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.