منذ مطلع شباط/ فبراير 2021 وجماعة أنصار الله الحوثية تشن هجمات مكثفة من عدة محاور على مدينة مأرب بهدف السيطرة عليها، رغم التحذيرات التي ترى في اقتراب المعارك من التجمعات المدنية كارثة إنسانية لملايين الناس، إضافة إلى أزمات البلاد الاقتصادية والسياسية. بيد أن جماعة الحوثي لم تأبه لذلك وتستمر في سعيها لتحقيق مكاسب على الأرض. ترجع أهمية مأرب لموقعها، وللإمكانات الاقتصادية والعسكرية والرمزية التاريخية التي تحظى بها في الصراع بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي، وبين السعودية وإيران من جهة أخرى.
سياقات ودلالات المعركة
شنت جماعة الحوثي هجومها في حالة شبه الجمود لدور التحالف العربي في الحرب واكتفاء قوات الحكومة اليمنية بصد الهجمات خلال السنة الأخيرة، مستفيدة من ضغوط إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على السعودية، وإعلانها إنهاء دعمها للحرب، وتعيين تيموثي ليندركينغ مبعوثا خاصا لها إلى اليمن، وإلغاء تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية. وتشير معركة مأرب ومراوحة جهود المبعوثين الأممي جريفت مارتن والأمريكي تيم ليندركينغ مكانها إلى فشل المجتمع الدولي.
تعيد مواقع المواجهات المشهد العسكري إلى بدايات تدخل التحالف العربي في آذار/مارس 2015، فقد صمدت مدينة مأرب أمام محاولة إخضاعها منذ انهيار مؤسسات الدولة نهاية العام 2014 جراء انقلاب جماعة الحوثي وحليفها الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح. إصرار جماعة أنصار الله على اقتحام مأرب يختزل دلالتين، الأولى: ضعف أداء الحكومة اليمنية، وفشل التحالف في تحقيق هدفه المعلن، المتمثل بدعم الحكومة في استعادة سيطرتها على مؤسسات الدولة بعد ست سنوات من الحرب، والثانية: تكمن في غياب رغبة الحوثيين بالتسوية والشراكة السياسية مع بقية المكونات الداعمة للحكومة، لأنهم، حينها، لا يجدون ما يدفعهم لتقديم التنازلات مثلما تغيب دوافعهم لإيقاف عمليات توسيع مناطق سيطرتهم. تحولت مأرب، منذ أكثر من عام، في أهميتها وفقا لديناميكيات المواجهات العسكرية إلى حافز للغنيمة الاقتصادية، ومنطلق للسيطرة على بقية المحافظات، بعد أن ظلت مأرب على مدى خمس سنوات مصدراً للعمليات العسكرية لقوات الحكومة التي تسعى لاستعادة السيطرة على العاصمة صنعاء.
على الصعيد الإقليمي، بدا جليا اهتمام إيران وحلفائها بمعركة مأرب، من خلال تفاعل القيادات ووسائل الإعلام الإيرانية وحليفاتها بالمنطقة مع أخبار المعركة، وممارسة الدور الدعائي، ومؤخراً كشف المساعد الاقتصادي لقائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال رستم قاسمي، -الذي أعلن ترشحه لرئاسة إيران- عن تقديم أسلحة ووجود مستشارين عسكريين إيرانيين في اليمن دعما للحوثيين في الحرب مع السعودية، رافضاً انتقادات وزارة خارجية بلاده. بدوره رأى أمين عام حزب الله اللبناني "حسن نصر الله" في سيطرة جماعة الحوثي على مأرب تداعيات كبيرة على الحل السياسي. المبعوث الأمريكي الخاص باليمن تيم ليندركينغ قال، من جانبه، إن إيران تقدم للحوثيين دعما كبيرا وفتاكا.
رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر منذ بدء الهجمات، في شباط/ فبراير 2021، لم تحقق مليشيا الحوثيين تقدماً كبيراً على الأرض لأنها تواجه مقاومة شديدة. تشير التقديرات، في ظل غياب المصادر المحايدة، إلى أن عدد الضحايا يقدر بالمئات، بينها قيادات في صفوف الطرفين. فقد أعلنت القوات الحكومية مقتل مديري دائرة شئون الضباط ودائرة القضاء العسكري وقائد المنطقة العسكرية الثالثة إضافة إلى ثلاثة من قيادة القوات الخاصة بمأرب بينهم قائدها. أما خسائر جماعة الحوثي فقد قدرت إحصائية إعلامية إلى أن عدد قتلاها من بداية 2021 تجاوز ثلاثة آلاف قتيل منهم 737 خلال شهر آ ذار/ مارس و395 قتيل في الأيام الأولى من شهر نيسان/ أبريل.
رهانات المعركة
تتوقف على نتائج معركة مدينة مأرب رهانات عدد من القوى اليمنية والإقليمية، ابتداء بجماعة الحوثي التي سخرت امكانياتها العسكرية للانتصار في هذه المعركة، ووفقا لمصادر فقد أعدت الجماعة للمعركة مدة أربعة أشهر، وأعلنوا تمكنهم من دخول المدينة أكثر من مرة وكانت وكالة مهر الإيرانية بثت توعدا باقتحام مأرب "لنصومن غداً في مأرب ولنفطرن بتمرها"، ويمكن فهم رفض جماعة الحوثي لمبادرة السعودية لوقف الحرب وفشل مفاوضات مسقط التي أعلن المبعوث الأممي أسفه لهذه النتيجة، رغم استمرار النقاش لما يزيد عن عام، واعتبر رئيس الوفد التفاوضي للجماعة المطالبة بوقف الهجمات على مأرب بأنها اختزال للصراع بمعركة جزئية حيث تراهن جماعته على نتائج إسقاط مأرب لانتزاع اعتراف المجتمع الدولي بها بوصفها سلطة مسيطرة على الأرض.
من جهة ثانية، تمكنت القوات الحكومية من صد هجمات الحوثيين بمساندة القبائل وضربات طيران التحالف، وعززت قواتها بوحدات عسكرية من محافظتي شبوة وأبين، واستمرت في مطالباتها للحكومة اليمنية والتحالف بدعم الجيش بأسلحة نوعية وصرف الرواتب المتوقفة منذ عدة أشهر، وقد كشف تقرير عن ضعف أسلحة القوات الحكومية. وعلى وقع اشتداد المواجهات دعا محافظ مأرب سلطان العرادة إلى التعبئة العامة لمواجهة مليشيا جماعة الحوثي مؤكداً أن مأرب بعيدة عن سيطرة الجماعة.
من جهة ثالثة، تباينت رهانات الأطراف المناوئة لجماعة الحوثي، فبينما تراهن الحكومة على صمود مأرب وترى فيه نصراً، ولو محدوداً، فهو يبقي حضورها محليا ودوليا، ويكسر الصورة النمطية لقدرات جماعة الحوثي. يترقب المجلس الانتقالي الجنوبي -المدعوم إماراتياً- ممثلاً برئيسه "عيدروس الزبيدي" نتائج المعركة، حيث يرى في حال استكملت جماعة الحوثي سيطرتها على مأرب فرصة في تسريع المفاوضات بين الشمال والجنوب وتحديداً بين مجلسه وجماعة الحوثي، باعتبارهما، في هذا الحال، الطرفين المسيطرين على الأرض، وهذا الرهان قد يفسر عرقلة تنفيذ اتفاق الرياض وآلية تسريعه.
من جهة رابعة، يمكن النظر إلى إعلان المكتب السياسي للمقاومة الوطنية التي يقودها العميد طارق صالح ابن شقيق الرئيس السابق علي عبدالله صالح المدعوم أيضاً اماراتياً؛ أنه يأتي في سياق الاستعداد للمفاوضات السياسية، والتهرب من دعوات دمج قواته في الجيش الوطني التابع للحكومة اليمنية.
ويثير إشهار المكتب السياسي، وتواصل رئيسه مع المبعوث الدولي والسفراء المعتمدين لدى اليمن، مخاوف المكونات السياسية الداعمة للحكومة اليمنية، حيث ترى في المكتب السياسي قوة منافسة على غرار المجلس الانتقالي الجنوبي ضمن استراتيجية الإمارات، وهو ما قد ينعكس سلباً على التقارب الجزئي الذي حدث بين هذه المكونات على وقع معركة مأرب والشعور بالمخاطر المشتركة، بالتزامن مع المطالبات بالانسحاب من اتفاق ستوكهولم بحجة عدم التزام جماعة الحوثي به واستغلالها توقف جبهة الساحل الغربي لنقل مقاتليها لمهاجمة مأرب. ردت المقاومة الوطنية بتقديمها عرضاً لوزارة الدفاع بنقل ألوية عسكرية من الساحل الغربي إلى مأرب للاشتراك في المعركة، ووقَع عدد من أعضاء مجلس النواب في شباط/ فبراير 2021، منهم أعضاء شاركوا في احتجاجات 2011، عريضة تطالب مجلس الأمن الدولي بإلغاء العقوبات المفروضة على الرئيس السابق علي عبدالله صالح وابنه أحمد السفير السابق في الإمارات والمقيم فيها حاليا.
هذه التطورات تشير إلى حالة السيولة في خارطة التفاعلات في الساحة اليمنية، حيث كان العميد طارق مع عمه الرئيس السابق في تحالف مع جماعة الحوثي، انتهى هذا التحالف بتصفية الجماعة لعمه في 4 كانون الأول/ ديسمبر 2017، ثم انتقل إلى "عدن" وتفاهم مع المجلس الانتقالي وفتح قنوات اتصال مع السعودية برعاية الإمارات.
يأتي إعلان المكتب السياسي للمقاومة الوطنية ضمن مقاربات التسوية السياسية التي تحاول البناء على موازين الفصائل المسلحة المحلية ومصالح القوى الإقليمية، وبقدر تعارضها مع مصالح الشعب اليمني، وتشجعها على انتهاج العنف لتحقيق المكاسب؛ لا تتوفر لها فرص النجاح، خصوصا وأن القوى المحلية التي برزت أثناء الحرب لا تزال تتشكل، وتعاني من عدم الثبات والاعتماد على الدعم الخارجي، إضافة إلى أن خطوط سيطرتها على الأرض تتصف بالتغير ولا تعبر عن هويات سياسية أو طائفية أو حتى جهوية.
حماية مأرب أولوية للسلام
يستحضر اليمنيون مقارنة موقف المجتمع الدولي الحازم تجاه المواجهات العسكرية قرب مدينة الحديدة عام 2018 والذي تكلل بفرض اتفاق استكهولم ووقف الحرب، مع موقفه المتراخي تجاه الهجمات على مأرب التي تحولت إلى ملاذ لمئات الآلاف الذين فروا من بطش جماعة الحوثي والمعرضة حياتهم مجددا للمخاطر، وهو ما يوجب وقف الهجمات على مأرب حمايةً للمدنيين واستعادة الثقة بالمجتمع الدولي والرهان عليه، وفي تطور دعا وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلنكن المجتمع الدولي إلى مساءلة الحوثيين بشأن سعيهم إلى حل عسكري للصراع بهجومهم على مأرب، على الرغم من العواقب الإنسانية الهائلة. لتحقيق سياسة ناجعة لإنقاذ عملية السلام، ينبغي تغيير منهجية المجتمع الدولي وفي المقدمة الولايات المتحدة في التعامل مع الفصائل المسلحة مثل جماعة الحوثي وإضعافها على الأرض بعد أن فشلت سياسة الاحتواء بالإغراء، ومن جهة أخرى، منعاً لتكاثر المزيد من الجماعات المسلحة، وإلزام التحالف الذي تقوده السعودية بتمكين الحكومة اليمنية من إدارة مؤسساتها ومواردها بما يمكنها من أداء واجباتها تجاه الشعب اليمني.
مطهر الصفاري، باحث يمني تتركز أبحاثه على الصراع وبناء السلام والتنمية السياسية، لمتابعته على تويتر MutaharAlsofari@