المصدر: Getty
مقال

النظام المصري يتخبط في قانون الأحوال الشخصية

كشف مشروع قانون الأحوال الشخصية، الذي أحالته الحكومة المصرية للبرلمان، عجزاً كبيراً في التميز عن الأطروحات المجتمعية الأخرى، كما أظهر صعوبة التوصل لقانون توافقي في الوقت الراهن.

 نوران سيد أحمد
نشرت في ٢ أغسطس ٢٠٢١

في شباط/ فبراير 2021، أحال مجلس الوزراء المصري للبرلمان مقترحا متكاملا لقانون الأحوال الشخصية. تسبب تسريب مسودة القانون إلى وسائل الإعلام في إثارة عاصفة من الانتقادات بسبب انتقاصه لحقوق النساء. تبعا لذلك، تم سحب مشروع القانون ووعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن القانون الجديد سيكون متوازنا. غالب الظن، أن القانون لن يصدر قريبا، إلا أنه يُعد مرآة جيدة تعكس طريقة تفكير نظام السيسي.

يُمثل تصاعد المطالب الاجتماعية والبرلمانية لتعديل قانون الأحوال الشخصية وانخراط البرلمان والحكومة في هذا النقاش منذ العام 2017، إحدى علامات دخول نظام السيسي مرحلة الاستقرار خاصة بعد اختفاء المهددات الوجودية لبقائه نتيجة تراجع موجة العنف والإرهاب، وتحييد المعارضة السياسية وإقصائها، وهي المهددات التي تطلبت حينها حشد جهود النظام وآلته التشريعية للعمل على مواجهتهما. الآن أصبح الطريق مفتوحا لتناول قضايا أخرى، لكنها ستبقى غير سياسية. كان استقرار النظام وهدوءه من العوامل الدافعة للموافقة رسميا على وقفة احتجاجية لإحدى جمعيات الأمهات للاعتراض على مقترح بعض النواب لتقييد حق الخلع وحضانة الأم للأطفال. وبرغم محدودية نطاق الوقفة إلا أنها بدت نسمة تغيير في الوقت المناسب، فقد  نالت الوقفة اهتمام وسائل الإعلام المؤيدة للنظام، وقبولا منه كما بدا من حضور الشرطة لتأمينها، وتصريحات النواب الإيجابية، وحتى الرئيس السيسي بشأنها.  

يشكل ملف الأحوال الشخصية فرصة للنظام لتجديد الدماء وردم فجوة غياب السياسة الداخلية. في الوقت الذي تظهر فيه أصوات قريبة من النظام تدعو للتسامح مع قدر من العمل السياسي والحزبي، يبرز ملف الأسرة "غير السياسي" كأول تجارب ذلك الانفتاح. كما انعكس استقرار العلاقات بين النظام وأجهزة الدولة المختلفة، وفي مقدمتها الأزهر، في مشروع القانون الذي لعب الأزهر فيه دورا محوريا بعد سنوات من التوتر مع رأس النظام.

لدى نظام السيسي اهتمام أصيل بملف الأسرة، فمنذ 2014 تضمنت أجندة العمل، المطولة للجنة الإصلاح التشريعي التابعة لمجلس الوزراء والقريبة من الرئاسة، تعديل قانون الأحوال الشخصية. وكان هذا سببا حينها للتوتر مع شيخ الأزهر على خلفية قضية الطلاق الشفهي، ومطالبة السيسي بعدم الاعتداد به كمحاولة للحد من معدلات الطلاق المرتفعة. الآن، بعد تراجع الأخطار الحرجة، يتفرغ النظام لإعادة ترتيب الأوضاع المجتمعية بما يُعزز استقرار الحكم على الأمد الطويل. لدى النظام تصورات عن مجتمع أكثر انضباطا وأقل قابلية للتمرد. ووفقا لهذه الرؤية فالطلاق مُهِددٌ حقيقي لمحاولات الضبط والهيمنة. إلى جانب إنتاجه لأزمات اجتماعية يعجز النظام عن معالجتها لاحقا، تبدأ بالأعباء المالية التي تتحملها الدولة بسبب إجراءات الطلاق وتشرد الأطفال، وتمتد للإرهاب وإقبال الشباب على التنظيمات المتطرفة أو الخروج في تمردات واسعة على السلطة كما حدث في 2011.

كما يعكف النظام في مصر بشكل جاد على إعادة هيكلة منظومة التقاضي ومنها تقاضي الأسرة والذي يُثقل كاهل المحاكم المصرية. في ضوء هذه الأسباب، اتجهت الحكومة لإنتاج مشروع قانون يميل للتوسع في التفاصيل للقضاء على الثغرات القانونية التي تفضي إلى إشكاليات في التطبيق. يُفيد الميل للتفصيل، وكذلك، محاولة النظام للتمايز وإبراز بصمته في ملف الأسرة، إلى مقارنة هذا القانون بقوانين الحقب السابقة الأقل تفصيلا. إلا أن عاملا آخر دفع إلى اختيار نهج الشمول والتفصيل في مشروع القانون، وهو أن بعض المقترحات، التي طرحها نواب وبعض المنظمات النسوية وغيرهم من الفاعلين، اتسمت بالشمول على نحو صَعُب على النظام التراجع عن السقف الذي وضعه هؤلاء بتقديم مشروع قانون متكامل وشامل للأحوال الشخصية.

يتسم هامش التغيير والتبديل في ملف الأحوال الشخصية بالمحدودية لثقل وطأة الدين وعدم إمكان تجاوزه. ومن ثم اقتضى الميل للشمول والتفصيل في تنظيم قواعد الأسرة الرجوع للمرجع الأساسي وهو الفقه الإسلامي لتغطية التفاصيل المطلوبة. شُحِنت مسودة القانون بتفاصيل فقهية عديدة، جعلت المسودة أقرب للمحتوى الفقهي منها لشكل القانون الحديث، ليُصبح مشروع القانون بمثابة قطيعة مع تقليد التشريع وأسلوب الجمع والدمج القانوني المصري على مستوى المحتوى والصياغة. تضمن المشروع كل المواد التي قد ترتبط بالأحوال الشخصية في مصر، بعد أن كانت متفرقة بين قوانين كثيرة متعددة، وهو جزء من توجه عام نحو التجميع والدمج الموحد والمركزي للقوانين في مصر تحت نظام السيسي. وفي ملف الأسرة، يهدف اتجاه التجميع والدمج الموحد للمواد القانونية إلى تقليل هامش الاجتهاد والسلطة التقديرية للقضاة والعاملين في الجهاز القضائي، خاصة مع ملاحظة وزارة العدل للتفاوت في تطبيق الأحكام بين النيابات والمحاكم المختلفة، وهو ما يتعارض مع مبادئ الوحدة والمركزية القانونية التي تُيسر إحكام سيطرة النظام على الجهاز القضائي وحكم المجتمع.

يكشف مشروع القانون عن طبيعة الانتقال الذي يشهده نظام 2013 وجهاز الدولة الذي لايزال في طور التشكل. يمثل قانون الأحوال الشخصية الاختبار الأول من نوعه لنظام السيسي. على عكس قانون الجمعيات الذي امتلك النظام فيه هدفا واضحا وهو التقييد، وعلى عكس المجالات التي تتطلب خبرات تقنية وفنية حديثة كالاقتصاد والإدارة العامة والتخطيط العمراني وخبرات العمل في المنظمات الدولية والتي سهُلَ على النظام إيجاد تكنوقراط وخبرات غير مسيسة للعمل بها، يقع قانون الأسرة في مساحة قيمية تتطلب أكثر من الخبرة الفنية ومن التوسع في الجوانب الإجرائية والعقابية.

التحدي الأساسي لقانون الأسرة يكمن في القدرة على التعامل مع نصوص الشريعة والاختيار منها وتقنينها في نصوص تستوعب التوازنات الدينية والاجتماعية المختلفة. دفع وعي النظام بذلك للمضي في مسارات متعددة وربما تكون متخبطة. فقد عمل أكثر من جهاز في الدولة على مشروع قانون أسرة مستقل به، مع وجود تداخل وتبادل بين لجان إعداد القوانين المختلفة، حيث وُجد بكل لجنة تعمل على إعداد قانون في جهة ما ممثل للجهات الأخرى التي تعمل في الوقت ذاته على تصور خاص بها لقانون الأسرة، مثل المجلس القومي للمرأة والأزهر، اللذين كانت لهما  بصمة واضحة على مشروع قانون الحكومة. كذلك تقدمت الحكومة للبرلمان بمشروع منفصل لتنظيم المأذونين (عاقدي القِران) في نفس الوقت الذي صدر فيه إعلان لجنة الإصلاح التشريعي، التابعة لمجلس الوزراء، التي تعمل على قانون الأسرة، بأن القانون سيأتي متكاملا وسيتضمن مواداً لتنظيم المأذونين، وهو ما دفع رئيس اللجنة التشريعية بالبرلمان لتنبيه الحكومة لهذا التخبط.

 يعكس ذلك التخبط حالة الفراغ التي نتجت عن القطيعة في السلطة منذ 2011 في أعقاب خروج الرئيس الأسبق حسني مبارك ومجموعته القانونية والسياسية. حيث يبدو أن العناصر الجديدة في جهاز الدولة –منذ 2013- وكذلك البرلمان لم تتمكن بعد من ملأ هذا الفراغ، خاصة مع ميل النظام الحالي للاعتماد على كوادر غير مسيسة من التكنوقراط. انتهى الأمر بالنظام لترك القيادة في هذا المشروع لأطراف حديثة العهد بالتشريع لسد هذه الفجوة.

يبدو مأزق نظام السيسي في هذا القانون في وقوعه في شبكة من المتناقضات. أولها التناقض بين عدم إمكانية تجاوز الدين في هذا الملف، في الوقت الذي يروج فيه النظام أنه يدعم حقوق المرأة وأن له تصورات تقدمية في هذا المجال. والتناقض الثاني مرتبط بالميل لجمع ودمج كافة المبادئ المنظمة لشؤون الأسرة في نمط أقرب لدليل استرشادي مفصل، بحيث يُمكن للقضاة والعاملين بنيابات الأسرة العودة إليه. أدى هذا لجمع ودمج عدد من المبادئ الجدلية، مثل النص المتعلق بحق الولي في طلب فسخ عقد زواج المرأة من غير "الكفء".

كان هذا المبدأ معمولا به ومستقرا في عقود الزواج في مصر وحتى في بعض المنازعات أمام المحاكم. كان السكوت عن مثل هذه المبادئ الخلافية في القوانين وتركها للممارسة العملية غير المكتوبة وغير الموثقة مُتبعا، تجنبا للانتقادات؛ وبالتالي تخضع هذه المبادئ للتفاوض بين مسجلي عقود الزواج واجتهادات القضاة في القضايا الواردة لهم من عائلات تعترض على اقتران فتياتها بأزواج من خلفية اجتماعية وطبقية أدنى دون علمهم، أو للحسم خارج قاعات المحاكم بوصفها شأنا خاصا. وعلى الرغم من أن وجود هذا المبدأ يسبق النظام الحالي، إلا أنه بشكل ما يوافق تصوراته الانضباطية عن الأسرة، وعن مؤسسات الدولة المؤدلجة، الحريصة على التجانس الأسري وعدم تمرد الشباب على القيم العائلية. وتبعا لذلك، تتاح الفرصة للعائلات للدفاع عن مكانتها الاجتماعية والطبقية عند الحاجة. يمثل المكون الطبقي محدداً هاماً في عقلية النظام. وبشكل عام، تعكس هذه المادة القانونية والمشروع بأكمله رؤية النظام للنساء والرجال ليس بوصفهم أفرادا، وإنما بوصفهم جزءاً من كيان "العائلة" الحري بالتدعيم والحفاظ عليه.

يرتبط التناقض الأخير بطرح النظام نفسه بوصفه حَكَماً فاصلاً في القضايا الخلافية ومتجاوزاً لها، وأنه صاحب الحلول المطلقة خاصة في القضايا المصيرية والتاريخية. وهو الأمر الذي دفعه ليسحب الخيط من الأطراف المتناحرة فيما يتعلق بقانونٍ مهم مثل الأحوال الشخصية، ويعلن تولي الحكومة هذه المهمة بعد تحرك بعض الجمعيات النسائية للتنديد بمقترحات بعض النواب الذكورية ومطالبتهم للرئيس السيسي بالتدخل. إلا أن مشروع القانون كشف عن عجز كبير في إظهار تميز في المواقف والأفكار مقارنة بأطروحات مقدمة من جهات أخرى، وكشف ذلك أيضا عن مدى الصعوبة في التوصل لقانون توافقي في الوقت الراهن.

ملمح أخير كشفه هذا القانون، فعلى الرغم من عدم إمكانية وصف النظام المصري الحالي بالديمقراطية، إلا أنه يراقب عن كثب المحيط الاجتماعي والسياسي ويتعامل بجدية مع كافة الضغوط الاجتماعية التي يواجهها مهما بدت محدودة النطاق، كما ظهر ذلك في سحب مشروع القانون فورا عند انطلاق حملة الانتقادات القوية دون تأخير، مع الوعد بالتوجه نحو إعادة التوازن المطلوب لمسودة القانون، وبدا كذلك في عمل النظام على مشروع قانون متكامل يواكب البدائل المطروحة على الساحة المصرية.

نوران أحمد، هي باحثة بوحدة أبحاث القانون والمجتمع – الجامعة الأمريكية بالقاهرة. تُركز أبحاثها على علاقة الدين بالدولة، والحركات الاجتماعية، وتقاطعات القانون والدين في مصر.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.