حاول رئيس الحكومة الليبية فتحي باشاغا القيام بهجوم عسكري خاطف يحقق عن طريقه اقتحام طرابلس، حيث بدأت ميليشياته الاشتباك مع الميليشيات الموالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة في 26 آب/أغسطس الماضي، راح ضحية تطوراتها 32 قتيلاً. نجح الدبيبة في هذه الاشتباكات، وهي الأخطر منذ سنتين، في سحق فصائل باشاغا العسكرية الموجودة في العاصمة وأبرزها الكتيبة 777 بقيادة هيثم التاجوري التي فقدت كل معسكراتها.
كانت الكتيبة 777 من أبرز الكتائب الداعمة لباشاغا خاصة وأنها تسيطر على مناطق حساسة في العاصمة الليبية مثل ميناء طرابلس، وعدة نقاط في سوق الجمعة التي تضم مطار معيتيقة وقاعدة بوستة البحرية. هذه الكتيبة سعت إلى تنفيذ ما يشبه الانقلاب الداخلي على الدبيبة الذي شن ضربة استباقية ضدها. كما تكبدت قوات مدير الاستخبارات السابق اللواء أسامة الجويلي، الذي انقلب على الدبيبة وانضم لمعسكر باشاغا، خسارة فادحة عندما تعرضت أرتال تلك القوات القادمة من مدينة مصراتة إلى قصف بطيران مُسير.
تُعد هذه الاشتباكات ثاني مواجهة مباشرة بين ميليشيات داعمة للدبيبة وأخرى لباشاغا بعد المواجهة الأولى في أيار/مايو الماضي عندما اشتبك ما يُعرف بجهاز دعم الاستقرار، المؤيد لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، مع كتيبة النواصي التي وفرت الحماية لرئيس الحكومة المدعومة من البرلمان لدخول العاصمة والمكوث فيها لساعات قليلة قبل المغادرة تحت وابل من الرصاص.
مثلت هذه الهزيمة للثنائي الجويلي-التاجوري وقواتهما انتكاسة سياسية وعسكرية لباشاغا الذي كثف في الآونة الأخيرة تهديداته بدخول العاصمة الليبية عنوة لانتزاع السلطة من الدبيبة، وهو ما يفتح المجال للتكهنات بشأن مستقبل الصراع على السلطة التنفيذية في ليبيا.
على الرغم من إصرار باشاغا والدبيبة على الحسم العسكري للصراع، إلا أن كليهما بات أمام خيارات صعبة، الأمر الذي يجعل السيناريوهات المطروحة للمرحلة المقبلة تنحصر إما باستسلام رئيس الحكومة المدعوم من البرلمان والتمديد للدبيبة، أو بإصرار باشاغا على الحسم عسكريا- بيد أن فرصه ضئيلة في تحقيق ذلك، أو بتسليم السلطة لطرف ثالث مع الاتفاق على خارطة طريق سياسية جديدة تقود إلى انتخابات، وهذه خطوة صعبة التنفيذ في ظل تمسك القادة الليبيين بمناصبهم ورفضهم التنازل عنها.
انكسرت شوكة باشاغا بشكل كبير بعد الإخفاقات العسكرية المتتالية فيما بدا الامتعاض يسود معسكره، الذي يضم قوات شرقي ليبيا وفصائل من غربيها، ويسود كذلك البرلمان ما يعني أن التخلي عنه يصبح وارداً. فقد بات البرلمانيون يتحدثون عن إمكانية إعادة النظر في حكومة باشاغا وهو ما يمثل نقطة لصالح الدبيبة في أي مفاوضات قد تدور بين الطرفين. كما وجه نواب في البرلمان انتقادات حادة لباشاغا، خلال جلسة مغلقة عقدها مجلس النواب في مدينة بنغازي شرقي البلاد يوم 15 أيلول/سبتمبر، وتساءلوا عن مقر عمل حكومة باشاغا الآن بعد فشله في دخول طرابلس.
في المقابل، لا يُعد وضع الدبيبة مريحا أكثر من خصمه نظرا لأنه لم يعد يسيطر على كافة المناطق في غربي ليبيا، إذ تقتصر سيطرته على طرابلس فقط. هذا قد يدفع تركيا، التي تعد المنطقة الغربية منطقة نفوذ خالصة لها، وتنشر فيها قوات ومرتزقة، إلى إعادة حساباتها تجاه الدبيبة، خاصة وأن أنقرة باتت تدير الملف الليبي وتقود جهود التسوية والوساطة بين الرجلين.
في هذا السياق، قد تسعى تركيا إلى استرضاء البرلمان الليبي، من خلال الدفع باتجاه حكومة ثالثة مع حفظ ماء وجه المجلس النيابي في طبرق، خاصة بعد زيارة رئيس البرلمان عقيلة صالح أنقرة في آب/أغسطس الماضي. من خلال كف معسكر شرق ليبيا، ستتمسك تركيا مقابل ذلك بمعارضة مذكرة التفاهم التي وقعتها مع حكومة الوفاق الوطني سابقا في 2019 وبالتالي بترسيخ نفوذها في شرقي البلاد الذي يمثل منطقة نفوذ لروسيا أيضا.
رغم أن مقترح تشكيل حكومة ثالثة قد يواجه معارضة من الدبيبة، الذي نجح في تكريس نفوذ قوي لعائلته الثرية في العام الذي قضاه في رئاسة الحكومة، لكنه من المرجح أن يلقى قبولاً في النهاية من قبل الرجُلين مع ضمانات لبقائهما في المشهد السياسي، وربما الترشح في المستقبل للانتخابات الرئاسية التي من الصعب أن تتم في المدى القريب في ليبيا.
صغير الحيدري، صحفي تونسي متخصص في الشؤون الليبية والتونسية، عمل في صحيفة العرب اللندنية منذ 2019 حتى 2022، إضافة إلى مواقع وصحف عربية مثل النهار العربي ورصيف 22. لمتابعته على تويتر @HidriSghaier.