على الرغم من أن الإمارات العربية المتحدة تعتبر دولة مهجر، إلا أن مسألة "الخلل الديموغرافي" لا تزال تثير الجدل حول تأثير التنوع السكاني، الناتج عن وجود أغلبية من المغتربين، على الثقافة والهوية الوطنية. وبما أن حدة الجدل حول الهوية الوطنية عادة ما تتصاعد أثناء فترات التقشف الاقتصادي، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يسمى عام 2008 بعام الهوية الوطنية في الإمارات العربية المتحدة.
شهدت السنوات العشر التي تلت ذلك العام تحولَ هذا المصطلح إلى كلمة طنانة أثناء حملة وطنية تمكنت من تعريف وترسيخ مفهوم واضح ومتماسك للهوية الوطنية يتخطى قيود الانتماءات القبلية وينطلق إلى مجتمع تحتل فيه "إماراتيةُ" المواطن مركز الصدارة. ومع ذلك يبدو اليوم أن هذه النسخة من الهوية الوطنية قد استنفذت فائدتها في إعادة تشكيل الدولة والمجتمع في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
الربيع العربي والمجتمع القبلي
في عام 2013 عقدت الإمارات العربية أول محاكمة جماعية في تاريخها، حيث أحيل 94 مواطناً إماراتياً للمحاكمة بتهمة التحريض بسبب ارتباطهم المزعوم بجماعة الإخوان المسلمين. وكان العديد من المدانين في هذه المحاكمة على درجة عالية من التعليم ويشغلون مناصب بارزة في الحكومة بالإضافة إلى انتمائهم إلى قبائل كبيرة ومؤثرة في الدولة. ومع ذلك لم تتمكن مكانتهم الهامة ولا انتماءاتهم القبلية من التوسط لحمايتهم.
الواقع هو أن ثورات الربيع العربي قد وضعت المنطقة بأسرها في حالة تأهب قصوى حيث أصبح من المستحيل قياس ما يمكن للسلطات الحاكمة، التي أصابها الرعب وانشغلت بتأمين نفسها والمجتمع، أن تعتبره نقداً مشروعاً. ولذلك كان من المأمول أن يكون مشهد المحاكمة الجماعية كافياً لصدم المجتمع وحثه على التعبير عن توحده في رفض أي رؤية سياسية بديلة. وعلى الرغم من أن سلوك الدولة في البداية كان يًترجم على أنه رد فعل تلقائي لحالة القلق التي أصابت الحكومات العربية بسبب انتفاضات الشعوب، إلا أن حالة الطوارئ التي طالت وتحولت إلى أمر واقع خلقت منطقة من التوتر بين الدولة والمجتمع. وبرغم أن الدولة، بما أقدمت عليه من سجن المعارضين، قد تسببت، بدون قصد، في زعزعة الدور التقليدي للقبائل في الحفاظ على توازن القوى المجتمعية، إلا إنها تعاملت مع هذه النتيجة على أنها مؤسفة، ولكنها حتمية واستمرت منذ ذلك الحين في محاولاتها لعزل القبيلة عن مركزيتها التقليدية.
هكذا، شهد العقد التالي للمحاكمة الجماعية تراجعاَ مستمراً، وإن كان على استحياء، لمكانة القبائل، الأمر الذي زعزع رواية الهوية الوطنية التي صاغتها الدولة حديثاً والتي تبنت طرحاً جديد لفكرة الهوية الوطنية لا يرتكز على الانتماء القبلي ولا على حقوق المواطنة الممنوحة بالولادة، بل يسمح بظهور هوية وطنية متنوعة وشاملة وعالمية. وبدأت الطبقة الجديدة من المواطنين المجنسين حديثاَ والمواطنين المنتمين لخلفيات عرقية متنوعة في الارتقاء في المناصب الحكومية وتشكيل الدوائر الداخلية للنخب الحاكمة.
وتتكون هذه الدوائر الداخلية الناشئة، التي تتمتع بروح المبادرة والفكر الاستثماري، من أفراد طموحين معادين تماماً لفكرة الدعم الاجتماعي في مرحلة ما بعد النفط. والحقيقة ان الخلفية غير القبلية لهؤلاء الأفراد بالإضافة إلى ما يتمتعون به من مهارات حيوية كانت عاملاَ محورياَ في قرار الدولة بترقيتهم خاصة أن ولاءهم سيدعمه دائماً شعورٌ بالمديونية يُمكّنها من معاقبة أي شطط قد يبدر منهم، وإن كان ذلك مستبعداً، بدون زعزعة التوازن القبلي الحساس.
والحقيقة أن هذه الترقيات لم تكن في حد ذاتها مخيفة أو مربكة للمجتمع الإماراتي الذي تقبلها برحابة صدر كبيرة، ولكن ما يخيف الإماراتيين بالفعل هو السرعة التي ينهار بها العقد الاجتماعي التقليدي والراسخ منذ زمن طويل على يد هذه الطبقة الجديدة من الموالين.
العقد الاجتماعي المتغير
على مدار تاريخها الطويل، اعتمدت الحكومات الخليجية على ما يسمى بالاقتصاد الريعي وهو نظام تقوم من خلاله الدولة بتوزيع عوائد النفط على مواطنيها في صورة رعاية حكومية ووظائف وإعفاءات ضريبية. وقد شجع نظام الدعم الاجتماعي هذا، أو كما أصبح يعرف بنظام امتيازات المواطنة، على نمو إحساس عام بين المواطنين بالإذعان السياسي والإعراض الطوعي عن المشاركة السياسية.
ومع انتشار التعليم الرسمي وتزايد عدد الإماراتيين الذين يستكملون تعليمهم العالي في الخارج تطور نوع جديد من الوعي واتسعت آفاق المواطنين لتستوعب لغة المؤسسات والأنظمة البيروقراطية. دَعمَ ذلك التغيير ما قامت به المجتمعات المدنية النشطة في دول الجوار والتي كان لحركتها أصداء واسعة داخل المنطقة التي تربطها علاقات قبلية عابرة للحدود. كان من الطبيعي إذان، أن يبادر هؤلاء المواطنون المتعلمون حديثو الوعي بتجربة إمكاناتهم السياسية الجديدة. ولكن ما غاب عنهم هو أن تجربتهم هذه ستؤدي إلى تعطيل العقد الاجتماعي التقليدي الذي طالما اعتمد على إنتاجيتهم الاقتصادية وسلبيتهم السياسية.
بل وأكثر من ذلك، فإن محاولاتهم لإعادة صياغة العقد الاجتماعي قد أتت في وقت شديد الاضطراب بالنسبة للدولة التي كانت تكافح الآثار المحتملة لانتفاضات الربيع العربي على خلفية غير مستقرة من تحولات مرحلة ما بعد النفط على مستوى دول الخليج العربية. وعلى الرغم من تواتر المؤشرات التي تحذر من اقتراب مستقبل ما بعد النفط إلا أن النخب الحاكمة، على مدى عقدين من الزمان، اختارت أن تتجنب مخاطر التغيير التي قد تستجلبها العملية الانتقالية حرصاً على الحفاظ على سلامة العقد الاجتماعي الراهن.
تفكيك النظام الريعي
ما إن أدركت الإمارات العربية المتحدة أن أيام النفط قد أصبحت معدودة حتى بدأت في تنفيذ تغييرات غير مسبوقة في هيكلها الاجتماعي والاقتصادي. وربما تكون السرعة التي تمت بها هذه التغييرات مؤشراَ على أن وباء كوفيد- 19 كان عاملاً في تسريع الإعلان عن هذه الخطط التي كانت معدة مسبقاً.
فما أن مرت بضعة أشهر على إعلانها التطبيع مع اسرائيل، حتى ألغت الإمارات تجريم المساكنة وتناول الكحول لتصبح أكثر جاذبية لسكانها من المغتربين. على الرغم من أن الكثير من الإماراتيين قد أعربوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن سعادتهم بأن هذه القوانين ستطبق على الجميع على قدم المساواة، إلا أن كثر قد أعربوا عن حزنهم إزاء التغييرات التي يعتقدون أنها ستؤدي إلى إفساد الشباب.
قد يكون التغيير الأكبر الذي يحدث في الإمارات حالياً هو فتح باب المواطنة – وهو بابٌ كان حصيناً في السابق- للمستثمرين والأفراد الموهوبين. والحقيقة أن الإماراتيين ما كان لهم أن يتوقعوا كم التغييرات التي أعقبت هذا الإعلان في يناير 2021 والتي استهدفت على وجه الخصوص غير المواطنين والمواطنين الجدد.
في ديسمبر 2021 أعلنت الإمارات رسمياً، بعد طرح لبق لقياس مدى تقبل الجماهير، اعتزامها تغيير عطلة نهاية الأسبوع لتتماشى مع نظيراتها في الغرب. والواقع أن فكرة التوأمة مع الغرب لم تغب عن فهم المواطن الإماراتي الذي استشعر عدم الارتياح إزاء تزايد التسهيلات التي يتم إقرارها لصالح المغتربين.
على ضوء كل ما سبق، فإن أهم التحولات حتى الآن هي التغييرات الدقيقة التي تشهدها أساسيات العقد الاجتماعي. وبينما كان المواطنون على استعداد للتغاضي عن التغييرات الاجتماعية والقانونية التي تشهدها البلاد والتي تعيد تشكيل هوية مجتمعهم المحافظ في مقابل التسهيلات التي تقدمها لهم الدولة من سبل العيش الآمنة والوظائف المضمونة في القطاع العام ومزايا نظام التقاعد المريح، فإن هذا التغاضي واللامبالاة يواجهها اليوم تحديات تطرحها إصلاحات قانون العمل الجديد والتي تنص إحداها على أن عقود العمل في الدولة ستتحول إلى عقود محددة المدة قابلة للتجديد ما يعنى أن العقود المفتوحة التي كان الإماراتيون يتمتعون بها دائماً قد ولى زمانها.
مع استمرار انخفاض مخصصات الرعاية الاجتماعية، وفي الوقت الذي أصبحت فيه نسبة البطالة في الدولة كارثة قومية، فإن العقود محددة الأمد تعتبر تحدياً كبيراً للإماراتيين الذين يشعرون بالمزاحمة والاستبعاد المتعمد من سوق العمل. تصطدم هذه الديناميكية بإحساس متهاوٍ بالهوية الوطنية تدعمه الرؤية الجديدة التي تروجها الدولة والتي تبدو أنها تحابي المواطنة العالمية على حساب المواطنة القومية. ومع اقترابٍ حثيثٍ لفرض مزيد من الضرائب كمصدر بديل لإيرادات الدولة فإن الهامش المتبقي للعقد الاجتماعي- النفطي سيواجه حتماً اختباراً لقدرته على التحمل.
ميرة الحسين هي باحثة حاصلة على الدكتوراه في جامعة اكسفورد، تركز أعمالها على علم اجتماع التعليم العالي في الخليج العربي. لمتابعتها على تويتر @miraalhussein.