أجبرت الحرب في سوريا الناس على الهروب من أماكن عيشها، وشردت آلاف المزارعين. انخفضت نسبة السكان الذين كانوا يعيشون في المناطق الريفية في 2011 إلى النصف مع حلول عام 2016، أدى ذلك إلى خسائر فادحة في إنتاج المحاصيل والماشية، ودمار في نظم الري الزراعي، وتضررت مناطق زراعية واسعة، وازدادت تكاليف المدخلات الزراعية مثل البذور والأسمدة والمبيدات زيادة حادة. يفاقم الجفاف الوضع سوءاً ويزيد الهموم على الكارثة الموجودة أصلاً، كما يلعب التغير المناخي دوراً مؤثرا في خروج مساحات من الأرضي الزراعية من الاستثمار بشكل مستمر.
تبلغ مساحة سورية 18.5 مليون هكتار، وتشكل المساحة القابلة للزراعة ومساحة الغابات حوالي 6.5 مليون هكتار، وهو ما يشكل 32.8 في المئة من المساحة الإجمالية للقطر السوري، أما القسم المتبقي فهو عبارة عن مناطق قاحلة في البادية السورية. يشتغل في الزراعة أكثر من 20 في المئة من السوريين، حيث تزرع الحبوب والخضار، والفواكه، والزيتون، والقطن.
تقدر قيمة الخسائر الناتجة عن تضرر القطاع الزراعي بسبب الحرب بنحو 16 مليار دولار أمريكي، حيث تقدر قيمة الأضرار التي لحقت بالأصول الزراعية ووسائل الإنتاج من معدات ومزارع وعيادات بيطرية وحظائر الحيوانات والبيوت البلاستيكية وأنظمة الري بأكثر من 3 مليارات دولار أمريكي، أما الخسائر التي لحقت بإنتاج المحاصيل فتقدر بنحو 6.3 مليار دولار أمريكي، وفي قطاع الماشية قدرت الخسائر بنحو 5.5 مليار دولار أمريكي وحوالي 80 مليون دولار أمريكي في قطاع تربية الأسماك.
تؤثر الصدمات الاقتصادية والمناخية المتكررة بشدة على موارد العيش الزراعية وتؤثر على الدخل الفردي بشكل عام. وتهدد المخاطر المتعددة توقعات نمو الاقتصاد الزراعي السوري بشكل كبير، حيث تميل المؤشرات إلى توقع استمرار منحى هابط للنمو على المدى المنظور. ومازال العديد من العاملين في الزراعة يهجرون هذا القطاع للعمل في قطاعات أخرى أكثر استقراراً وربحاً، ولهذا الأمر تداعيات مستقبلية أهمها انهيار سلسلة الإنتاج الزراعي التي يحتاج إعادة بنائها لسنوات طويلة
صعوبات القطاع الزراعي
منذ بدء الحرب، ارتفعت تكاليف الزراعة وأصبح من الصعب تغطية تكاليف الإنتاج، وتوقف كثير من الفلاحين عن الزراعة، وأصبح تأمين مياه الري بشكل مستمر أمراً صعباً بسبب انقطاع التيار الكهربائي. لجأ فلاحون لشراء مولدات كهربائية لاستخدامها عند الضرورة لتشغيل مضخات المياه، لكن لم يكن هذا حلاً مجدياً بسبب نقص وارتفاع أسعار المحروقات، حيث يلاحظ الارتفاع المطرد لأسعار المشتقات النفطية وخاصة في الأعوام الأخيرة.
وقد تَلِفَت كثير من الآلات الزراعية، ولم يعد بمقدور الفلاحين تحمل تكاليف الصيانة بسبب نقص الموارد وارتفاع أسعار قطع الغيار. وشهدت نسبة ملكية الأسر للماشية انخفاضاً كبيراً بمقدار 57 في المئة للأبقار و52 في المئة للخراف 48 و في المئة للماعز و47 في المئة للدواجن مقارنة بما قبل الأزمة، وارتفعت نسبة الدخل الذي يتم إنفاقه على الغذاء مقابل انخفاض الدخل ونسبة إنتاج الأسر للغذاء، بينما ارتفعت أسعار الأغذية ارتفاعاً كبيراً. ولم يعد من إغراء وأرباح في قطاع الزراعة، بل يتكبد المزارعون في بعض مواسم الجفاف خسائر باهظة، فأضحى شراء أي سلعة والتجارة بها أكثر جدوى من الزراعة بسبب الارتفاع المستمر في الأسعار.
عوامل تزيد التدهور
ساعد غياب رؤية إدارية واضحة لدى المؤسسات الحكومية على تدهور القطاع الزراعي والاقتصاد السوري بشكل عام، حيث تحولت إلى دوائر بدون سياسة أو خطة إدارية محددة. ما أدى إلى الفشل الإداري وشلل حركة مؤسسات الدولة، وفقدت قدرتها على اتخاذ القرار في الوقت المناسب. بالإضافة لسلسلة من السياسات النقدية التي أدت على مدار سنوات الحرب إلى تدهور سعر الليرة أمام الدولار، حيث تعيش الليرة السورية أسوأ فترة في تاريخها، وأدنى مستوى لها في تاريخ الدولة السورية، وهبط محتوى البنك المركزي السوري من النقد الأجنبي والذهب، حيث أصبحت موارد البنك المركزي من احتياطي النقد الأجنبي محدودةً بسبب توقف إيرادات ترانزيت النقل البري والبحري والجوي، وتوقف حركة التصدير وهي المساهم الأكبر في إيرادات العملات الأجنبية، والتحول إلى استيراد العديد من السلع الضرورية من الخارج. وقد توقفت العديد من الأنشطة الاقتصادية، وأصبحت الشركات الوطنية تحول أرصدتها من العملة المحلية للعملات الأجنبية، ثم تهربها إلى خارج البلاد، فزاد الطلب على القطع الأجنبية وزاد عرض الليرة السورية، فهبط سعرها.
متطلبات إعادة البناء
يحتاج القطاع الزراعي السوري اليوم إلى استثمارات كبيرة لإعادته إلى ما كان عليه، حيث تقدر التكلفة المبدئية حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) لإعادة بناء قطاع الزراعة بنحو 10.7 إلى 17.1 مليار دولار أمريكي في المجمل. ورغم التحسن في الوضع الأمني عند مقارنته مع عام 2015، حيث أصبح المزارعون أكثر قدرة على الوصول إلى أراضيهم، لا نزال بعيدين عن تحقيق مستوى الأمن الغذائي الذي ساد قبل الأزمة. بين برنامج الأغذية العالمي إن نحو 12.1 مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ما يجعل سوريا من بين البلدان الستة التي تعاني من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم.
يعتبر القطاع الزراعي في سوريا عنصرا أساسيا من عناصر الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. لقد أصاب هذا القطاع ضرر كبير، كمثل بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى، ومازالت بوادر تعافي هذا القطاع غير بادية في الأفق في غياب حل جذري مستدام للأزمة السورية، حل يعيد الثقة إلى الاقتصاد والمجتمع السوري، ويشجع على إعادة الاستثمار في ظل جو استثماري محفز.
جلال العطار، مهندس زراعي يعمل في مجال الأبحاث العلمية الزراعية، مدير أعمال في قسم الزراعة في هيئة الطاقة الذرية السورية.