حظيت سياسة "صفر مشاكل" الخارجية التركية بقدر كبير من الاهتمام الدولي، واعتُبِرَت تركيا نموذجاً للعلمانية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية. مع ذلك، تجد تركيا نفسها الآن في شرق أوسط مضطرب وسريع التغيّر. فقد تردّت علاقاتها مع الدول التي كانت صديقة لها، كما أن الهزّات الارتدادية الناجمة عن الربيع العربي زادت من حدّة التوتّر في المنطقة.
وبهدف مناقشة واستكشاف التصوّرات والحقائق عن دور تركيا في منطقة متغيّرة، نظّم مركز كارنيغي للشرق الأوسط والمؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية TESEV ندوةً في بيروت.

الفوز بسباق الشعبية

أوضح مسعود أوزكان، من وزارة الخارجية التركية، أن الكثيرين في المنطقة ينظرون إلى تركيا باعتبارها بلداً نموذجياً طبّق إصلاحات اقتصادية وسياسية فعليّة. وأضافت صبيحا سنيوجيل غوندوغار أن المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية TESEV أجرت في العام 2009 استطلاعاً بشأن التصوّرات عن تركيا في العديد من بلدان الشرق الأوسط، ووجدت أن نسبة كبيرة من السكان يبدون آراء مؤيِّدة بشكل عام. وفي العام 2011، وُسِّع نطاق الاستطلاع ليشمل 16 بلداً في منطقة الشرق الأوسط، وجاءت النتائج إيجابية مرّة أخرى. فقد زادت نسبة الإجابات المؤيّدة والمشجّعة عن نسبة 70 في المئة، ردّاً على أسئلة تتعلّق بدور تركيا في الشرق الأوسط، وتأثيرها على السياسة الإقليمية، وجاذبية النموذج التركي، ومزيج تركيا من الإسلام والديمقراطية.

تصويب مسار تركيا مع الشرق الأوسط

أوضحت غوندوغار أن الجانب الأهمّ لهذه النتائج هو أنه ما من أحد كان ليفكرّ حتى في إجراء مثل هذا الاستطلاع قبل عقدين من الزمن. وقد وافقها الرأي تيمور غوكسيل، من موقع Al Monitor الإعلامي، قائلاً إنه عندما وصل إلى لبنان في العام 1979، كانت تركيا منفصلة سياسياً وثقافياً ولغوياً عن منطقة الشرق الأوسط. وأضافت غوندوغار أنه في حوالى العام 2000، عندما أصبح المجتمع التركي أكثر تشاركية وديمقراطية، بدأت الحكومة تندمج في شراكات إقليمية سياسية وتجارية، وقبلت فكرة الاضطلاع بدور عالمي أكبر.

تأثير الربيع العربي

اتّفق المتحدّثون على أن التغيّرات السياسية السريعة وعدم الاستقرار اللذين يشهدهما الربيع العربي أجبرا تركيا على إجراء تغييرات جذرية وسريعة في مواقفها وسياساتها.

  • دعم الشعب: أكد السفير التركي في لبنان إنان أوريليديز أن تركيا نادراً ماتردّدت في التحالف مع الشعب العربي منذ بداية التظاهرات الشعبية، وذلك على الرغم من علاقاتها السابقة مع الزعماء العرب الذين أصبحوا مخلوعين اليوم. وأضاف أنه لاينبغي الخلط بين سياسات عدم التدخل الرسمية وبين الحياد. ثم أكّد أوزكان، من جهته، أن صعود حكومات ديمقراطية في المنطقة سيفيد تركيا أيضاً، إذ سيتيح المجال أمام تعاون أكبر مابين الدول، ويُرسي مناخاً مناسباً أكثر لتحقيق السلام والاستقرار.
     
  • سورية: اتّفق المتحدّثون على أن الأزمة المتواصلة في سورية المجاورة تمثّل تحدّياً مباشراً لاستقرار تركيا الداخلي. فقد قطعت الحكومة التركية علاقاتها مع النظام السوري، لكن أعمال العنف بالقرب من الحدود وإسقاط طائرة تركية فوق المياه السورية يشكّلان اختباراً لسياسات أنقرة القائمة على عدم التدخّل. وأضافت ماريا فانتابيه، من مركز كارنيغي، أن استمرار الصراع يعطّل النشاط الاقتصادي، ويهدّد علاقات تركيا مع الأقلية الكردية فيها.
     
  • لعبة متغيّرة: رأت غوندوغار أن النظام القديم لن يعود، ماسيؤدّي إلى زيادة النفوذ الإقليمي التركي، مع أنه من السابق لأوانه معرفة حجم التأثير الإجمالي للربيع العربي. غير أن شابان كارداش، من جامعة TOBB للاقتصاد والتكنولوجيا، اعترض معتبراً أنه إضافةً إلى التغيير الجذري الذي أحدثه الربيع العربي في النظام الإقليمي وتزايد التهديدات الأمنية، أظهر حدود قوة تركيا، ولاسيما عدم قدرتها على التنبّؤ بسقوط العديد من الأنظمة السابقة.

العلاقات الإقليمية والتوتّرات

أوضح وسيم قلعجية، من منتدى الوسطية، أن حزب العدالة والتنمية التركي اعتمد مبدأ "صفر مشاكل" في مجال السياسة الخارجية إدراكاً منه لأهمية الاستقرار الداخلي والإقليمي في استمرارية التنمية الاقتصادية في تركيا. وقد استخدمت تركيا على الدوام أساليب القوة الناعمة غير القسرية لتعزيز هذا الاستقرار، بيد أن التوتّرات الإقليمية المتصاعدة تشكّل تحدّياً خطيراً لصمود الدبلوماسية الثقافية والوساطة.

  • تركيا على مفترق طرق: ذكّر كارداش الحاضرين بأن موقع تركيا الجغرافي يتيح لها إقامة علاقات مهمة، لا مع منطقة الشرق الأوسط وحسب، بل أيضاً مع أوروبا والبلقان والقوقاز. وأوضح محيي الدين أتامان، من جامعة "أبانت عزت بايسال"، أنه بالإضافة إلى محاولات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الاوروبي، سعت إلى توسيع انخراطها منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، من خلال الشروع في عملية انفتاح سياسي واقتصادي في منطقة القوقاز والبلقان، وفي الشرق الأوسط الأوسع.
     
  • جوار خطير: قالت غوندوغار إن تركيا تتشاطر حدودها مع سورية والعراق وإيران، وهذا جوار خطير يحتّم وجود توازن سياسي دقيق. وأضاف أوزكان أن تركيا تولي اهتماماً كبيراً للتطورات في فلسطين، وتعترف بأن إقامة دولة فلسطينية شرط مسبق لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
     
  • تركيا والخليج: أوضح كلٌّ من أتامان ومصطفى علني، من مركز الخليج للأبحاث، أن بروز تركيا كقوة إقليمية هو موضع ترحيب دول الخليج التي تتطلّع إلى مواجهة النفوذ الايراني. وذكر أتامان أن تركيا ودول الخليج تدرك أن الاستقرار الإقليمي ضروري لاستمرارية نموهما الاقتصادي، مضيفاً أن التبادل التجاري بين الطرفين ازداد بشكل كبير خلال العقد الماضي.
     
  • الحياد الطائفي: أكّد غوكسيل أنه على الرغم من أن تركيا محاطة ببلدان شيعية وتحظى بتقدير الحكومات الأخرى باعتبارها ثقلاً موازياً محتملاً لإيران الشيعية، يتعيّن عليها أن تعمل على تجنّب النظرة إليها باعتبارها متحالفة مع السنّة في الصراعات الطائفية الإقليمية. وأضاف أن على تركيا أن تؤكّد على علمانيتها وحيادها لتجنّب تصويرها على أنها دولة سنّية تحارب الشيعة.