المصدر: الغد
ما يجري في العراق درس للوطن العربي كله. إقصائية نوري المالكي، عندما غلّب انتماءه الطائفي على مصلحة بلده، أدت إلى شعور السُنّة بالتهميش، مما أنتج بيئة حاضنة لتنظيم "داعش" الذي مارس الجاهلية بأبشع صورها، وبدا كأنه دحر الجيشين العراقي والكردي. تنتصر الأيديولوجيا المتخلفة ليس لقوتها، ولكن لضعف فكر من يواجهها.
طوق النجاة من هذا التخلف لا يكمن في مواجهة من يحمل السلاح في وجه دولته فقط، ولكن بتطبيق التشاركية والتعددية. لا تعني التشاركية إشراك الفئات السياسية كافة -والسلمية بطبيعة الحال- في كل حكومة، فلا بد من وجود معارضة تراقب وتنتقد وتقدم البدائل، حال الديمقراطيات الفاعلة؛ ولكنها تعني ضمان حق الفئات السياسية كافة في ممارسة العمل السياسي، طالما تعتمد الوسائل السلمية. أما التعددية، فتعني احترام حق الجميع في التنوع الفكري والديني والسياسي ضمن بوتقة الوطن، فلا ينتقص من مواطنة الفرد إيمانه بمعتقد ديني أو سياسي أو ثقافي معين، ولا يتم تخوينه لاختلافه عن غيره.
الحل في العراق واضح، إن أراد الوصول إلى بر الأمان: حكومة توافقية تشعر جميع العراقيين بأنهم ممثلون، وبالتالي تعالج موضوع البيئة الحاضنة، بالتوازي مع الحل العسكري المطلوب لدحر من يحمل السلاح في وجه الدولة.يسأل الكثيرون عن خطر "داعش" على الأردن. ليس هناك خطر أمني مباشر، لأن قواتنا المسلحة قادرة تماماً على التصدي للتنظيم في حال اتخاذه لأي خطوة غبية لمهاجمة الأردن؛ ولأن البيئة الحاضنة لـ"داعش" ليست متوفرة لدينا والحمد لله. لكن الخطر على المدى المتوسط يكمن في عدم معالجة التحديات السياسية والاقتصادية لا سمح الله، والتي قد تؤدي إلى إيجاد بؤر حاضنة للتطرف، والاكتفاء بالنظر للموضوع من وجهة أمنية بحتة.
يستدعي هذا انفتاحا سياسيا جادا، وقانون انتخاب ممثلا، وسياسة اقتصادية تؤدي لنمو معتمد على الذات ومستدام يشعر به المواطنون كافة. ويستدعي أيضاً نظاما تعليمياً مختلفا. جميل ما تقوم به وزارة التربية والتعليم من إصلاح لامتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، يؤدي إلى تحسين كفاءة الطلبة لاستيعاب المنهاج، ولكن ماذا عن المنهاج نفسه؟ هل يتم تأصيل قيم التعددية والعيش المشترك في مناهجنا؟ هل حقاً نعلم أطفالنا احترام التنوع الفكري والديني؟ هل نعلم المسيحيين عن المسلمين والمسلمين عن المسيحيين باحترام وبتعظيم القواسم الجامعة بدلا عن الفوارق؟ قليلة هي الأولويات التي تفوق الإصلاح النوعي للتعليم إن أردنا التأسيس لمستقبل أكثر إشراقا.
الإيمان الجدي بالتعددية، والعمل الدؤوب لترسيخها، هما الرد الفاعل على إقصائية المالكي وجاهلية "داعش" وأمثالهما. فبغض النظر عن اختلاف آرائنا بالنسبة للثورات العربية، فإن الدرس الواضح هو أن الاستقرار والازدهار الحقيقيين مرتبطان ارتباطا وثيقا بسياسات تضمن مشاركة أوسع في عملية صنع القرار، ونموا اقتصاديا يشمل الجميع، ومحاسبة منهجية لمن يمد يده على المال العام، واحتراما لأشكال التنوع كافة. هذه رسالة للجميع، وبالأخص لبعض النخب التي تريد إرجاع الساعة إلى الوراء، والتي تعتقد أنها وحدها من يحدد مستقبل البلاد والعباد.