REQUIRED IMAGE

REQUIRED IMAGE

مقال

"الجيش سيعود إلى ثكنه": دور المؤسسة العسكرية التونسية في المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية

بعد الانتخابات في تونس، يمكن أن نتوقّع العودة شبه الكلية للجيش التونسي إلى ثكنه ومراكزه.

نشرت في ٣ نوفمبر ٢٠١١

ما الدور التي ستلعبه المؤسسة العسكرية التونسية في فترة مابعد الثورة وفي المرحلة الانتقالية المفترضة إلى الديمقرطية؟ هل هو دور ريادي وسيادي بمرجعية عسكرية سياسية؟ أم هو دور المراقب لشؤون البلاد من دون تدخّل في القرارات السياسية؟ 

استقراء الدور المستقبلي للجيش التونسي يحتّم علينا أن نفهم أولاً موقعه قبل الثورة وكيف تعامل معها. شهد المجتمع التونسي خلال أيام الثورة وبعدها صعوداً لدور المؤسسة العسكرية التي كانت شبه غائبة عن الساح السياسي والاجتماعي قبل ذلك. هذه المؤسسة كانت قد أزعجت الرئيس بورقيبة على أثر محاولة الانقلاب العسكري في العام 1962 (بقيادة الضابط لزهر الشرايطي)، التي حُكِم خلالها على العديد من الضباط بالإعدام أو السجن. وقد عمد بورقيبة بعدها إلى تقييد قدرات الجيش ليعطي للحرس الوطني صلاحية مراقبة هذا الأخير في العام 1968، خالقاً بذلك العداوة بين هذين الجهازين.

حين انتقل الحكم إلى زين العابدين بن علي، لم يدّخِر الرئيس الجديد جهداً لمواصلة سياسات بورقيبة. وفي عهده وقعت أيضاً أحداث 1991 التي اتُّهِمَت فيها مجموعة من الضباط بالإعداد لانقلاب عسكري. لكن وفق عدد من الضباط المتّهمين، كانت هذه تهمة باطلة ولاتعدو كونها جزءاً من سيناريو حاكه بن علي كي يحذّر الضباط من مغبّة التفكير في السلطة السياسية. ولاننسى هنا أنّ بن علي له خلفية أمنية، وكان مهتمّاً إلى حدّ بعيد بالإقصاء التام للجيش عبر تطبيق وصفة "الوقاية خير من علاج". وهكذا وُجِّهَت الضربة الأقسى لهذا الجيش في تاريخه: فبعض الضباط اتُّهِموا بالانتماء للتيار الإسلامي، والبعض الآخر بالتحضير لانقلاب عسكري. ثم تمّ فرض التقاعد الإجباري على عدد ثالث منهم، فيما حُكِم على آخرين بالسجن والإقامة الجبرية. 

علاوة على ذلك، تواصلت عمليات تهميش الجيش، الذي بلغ عديده بين العامين 1991 و2011، 40 ألف جندي وضابط، فتم الحدّ من ميزانية وزارة الدفاع، وعطّلت ترقيات الضباط، وفُرِض التقاعد الإجباري على العديد من الضباط، خاصة الأكفاء منهم. كما حُدِّد الدور العسكري للجيش في مجالات الدفاع عن الوطن والتنمية ومواجهة الكوارث الطبيعية وحفظ السلام العالمي تحت غطاء الأمم المتحدة. لقد كان همّ بن علي الأول والأخير هو الاستفراد بالسلطة، فكان التهميش والإضعاف والإقصاء التام للمؤسسة العسكرية عن الساح السياسي.

لكن اليوم، وبعد الثورة، يتبيّن أن الشعب التونسي استفاد من سيناريو واستراتجية بن علي، وكذلك فعلت المؤسسة العسكرية. فالجيش لم يَعًد يطمع بالسلطة السياسية لأنه يفتقد إلى التجربة والتاريخ السياسيين والإيديولوجيا. صحيح أن الشعب نادى، قبل 14 كانون الثاني/يناير وبعده، بتدخّل المؤسسة العسكرية في السلطة، خاصة وأن الفريق أول رشيد عمار قال لبن علي أنه لم ولن يطلق النار على المتظاهرين. لكن الجيش في الواقع لم يطمح إلى استلام السلطة السياسية. ساعد الجيش في الحفاظ على مؤسسات الدولة حين سقط النظام. وقد تمّ ذلك على أثر التصريح الذي أدلى به رشيد عمّار (والذي بات يُعرَف بـ"تصريح القصبة اثنين") حين وعد بحماية الثورة والبلاد. ثم أن وزارة الدفاع لا تَني تؤكّد مراراً وتكراراً بأن هدفها هو تأمين المسار الديمقراطي والمدني وليس فرض سلطة العسكر. اكتفى الجيش بتوفير الأمن وحماية الشعب من أعمال الشغب والقنص والنهب والفوضى التي تفشّت في البلاد بعد انهيار المؤسسة الأمنية التي لاذ عناصرها بالفرار، وحدث تبعاً لذلك فراغ أمني في البلاد. بقيت المؤسسة العسكرية متماسكة، فلم يهرب عناصرها من الميدان بل حموا المصالح العامة والخاصة والمؤسسات السيادية والاقتصادية، كشركة المياه، وشركة الكهرباء والغاز، والمصارف، والسجون. كما ساهموا في إنجاح الامتحانات العامة الثانوية والجامعية، وفي حماية الغابات ومحاصيل القمح التي خُزِّنَت في الثكنة العسكرية. واليوم يتولّى الجيش حماية محاصيل التمور.

نجحت المؤسسة العسكرية في الاحتفاظ بالصدقية والشرعية القانونية. هذا في حين كانت باقي مؤسسات الدولة تفقد الشرعية الشعبية، خاصة منها مؤسسة الأمن الداخلي التي كانت تُعرَف بفسادها وبأنها العصا الغليظة لبن علي التي تسبّبت بقتل المتظاهرين وقمعهم إبّان الثورة وبالطبع قبلها. علاوة على ذلك، كانت المؤسسة القضائية مشكّك بها هي الأخرى لما عُرِفَ عنها من فساد وعدم استقلالية ومراعاة مصالح عائلتَي بن علي والطرابلسي. ويسري الأمر نفسه على الحكومة المؤقتة المشكّك بشرعيتها هي الأخرى لأنها وُلِدَت من رحم النظام السابق. وهكذا تم إسقاط الحكومتين الأولى والثانية بقيادة محمد الغنوشي رئيس الحكومة السابق في عهد بن علي، التي عمل أغلب وزراؤها مع الرئيس المخلوع. أما الحكومة الحالية برئاسة الباجي قائد السبسي، فلم تفِ بوعودها أو مارست العديد من التجاوزات، ففقدت هي الأخرى الشرعية الشعبية.

نعود الآن إلى التساؤل: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية في المطبخ السياسي التونسي بعد الانتخابات؟ وهل تمتلك المؤسسة العسكرية مايكفي من النضج السياسي كي تساير الانتقال الديمقراطي؟ ثم، هل سيعود الجيش التونسي إلى ثكنه لاستئناف مهامه التقليدية بعد الإشراف على الانتخابات وتهيئة الأرضية السياسية والاجتماعية والأمنية للبلاد؟ 

الواقع أنه سيكون للمؤسسة العسكرية دور عسكري لتلعبه الآن وبعد انتخابات المجلس التأسيسي. فسبَقَ لها قبل أيام أن وفّرت الحماية للانتخابات، كما اضطلعت بدور لوجستي فيها عبر توفير كل المعدات والمستلزمات من نقل بري وبحري وجوي، حيث تم نشر 22 ألف جندي في كل أنحاء البلاد لتأمين مراكز الاقتراع والفرز. ووفق ما أعلنه ممثل وزارة الدفاع العميد مختار بن النصر، فإن "الجيش التونسي سيعود بعد الانتخابات إلى مراكزه العسكرية ليقوم بأعماله العادية وليعيد النظر في مؤسسته، علماً أن هذه المؤسسة تعمل على انتداب الكثير من الشباب". وبعد أن جرت الانتخابات بطريقة سوية، قال العميد بن نصر: "إننا كمؤسسة عسكرية فخورون بالشعب التونسي. ونحن أوفينا بالعهد وشاركنا في تأمين الانتخابات".

وترى المؤسسة العسكرية أنه يجب القبول بنتائج الانتخابات كيفما جاءت، حتى ولو صبّت في مصلحة الإسلاميين. ويشدّد الضباط على أنه لاتوجد سيناريوهات محتملة تستند إلى نتائج الانتخابات، وعلى ضرورة إعطاء الشعب التونسي الحرية والمسؤولية لتحديد خياراته من دون أي تدخّل داخلي أو خارجي.

التطمينات قوية، لكن هل المجتمع التونسي مطمئن لها؟ ألا يخشى من حدوث سيناريو جزائري في تونس؟

لايخفي بعض التونسيين مخاوفهم حيال دور المؤسسة العسكرية بعد الانتخابات على صعيد القرارات السياسية. هذا على الرغم من أن هذا الموضوع ليس له صدى عام ولم يُطرَح كمادة نقاش أو جدل لدى شرائح المجتمع عدا أقلية فيه. 

إضافة إلى ذلك، تعتقد بعض النخب أن مايُطَمئِن هو أن الجيش التونسي ليست له تركيبة تقليدية. فهو غير مبني على أساس ديني أو عرقي أو جهوي أو طائفي، بل يستند إلى معايير أكاديمية (الدخول إلى الجيش مشروط بحصول الطالب على مايفوق 15 من 20 في امتحان البكالوريا)، وإلى ذهنية منفتحة على المدارس العالمية هدفها تحويل الجيش إلى أكبر الجيوش العربية ليس في الكم بل في الكيف. وتضيف هذه النخب في هذا السياق أن وجود الجيش في الشأن العام في هذه المرحلة هو الضمان شبه الوحيد للانتقال إلى الديمقراطية، وهذا بالطبع بالتعاون مع مكونات المجتمع المدني، لأنّ الشعب هو مَن قام بالثورة وليس الجيش. 

وعلى أي حال، التجربة الجزائرية لايمكن أن تتكرر في المجتمع التونسي، فالجيش التونسي يختلف تماماً عن الجيش الجزائري في تركيبته وتكوينه وطريقة عمله. كما أنه ثمة تباينات كثيرة بين المجتمعين التونسي والجزائري، وبين التجارب الثورية في كلا البلدين. وحسب علماء اجتماع والعديد من القادة والضباط في تونس، الجيش الجزائري متورط مع رجال السياسة ورجال الأعمال، وهمّه الوحيد هو حماية مصالحه السلطوية والمالية. 

علاوة على ذلك، تختلف المؤسسة العسكرية التونسية تماماً عن المؤسسات العسكرية العربية. فالجيش في مصر له طابع سياسي منذ الانقلاب العسكري للضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر في الخمسينيات. فهو يتدخل في الشؤون السياسية للبلاد. كما أن له طابعاً ايدولوجياً بحكم الاقتراب الجغرافي من العدو الإسرائلي والصراع العربي-الإسرائيلي. وبالتالي، تكوين الجيش المصري يختلف تماماً عن تكوين الجيش التونسي. وهنا يجب أن نلتفت إلى حقيقة أن الشعب المصري هو مَن بالثورة، لكن مَن استلم السلطة السياسية كان الجيش. وها هو الشعب المصري ينادي بانتخابات حرة وديمقراطية. وعليه الاعتقاد، استناداًَ إلى تركيبة الجيش المصري أن هذا الأخير لن يتخلى عن الحكم والسلطة والقرار السياسي.

انطلاقاً من ذلك كله، يمكن أن نتوقّع العودة شبه الكلية للجيش التونسي بعد الانتخابات إلى ثكنه ومراكزه، حيث سيقوم بمراجعة الذات وتدارك ماعاناه من تهميش وإضعاف. أما الحديث عن مستقبل سياسي تونسي بثوب عسكري، فهو ليس ممكناً لابل هو آخر سيناريو يمكن أن يتخيّله الشعب التونسي، لأنّ السلطة كانت بالفعل في متناول الجيش لكنه لم يستغلّ هذه الفرصة.

بدرة قعلول تكمل دكتوراه في اختصاص علم الاجتماع العسكري في كلية العلوم الأنسانية والإجتماعية جامعة تونس 1 وتعلم في المعهد العالي للإنسانيات التطبيقية في تونس.