التحقت روسيا، منذ صيف 2016، خلسةً بالنزاع الدائر في ليبيا، بعدما كانت قد نأت بنفسها عنه في العام 2011 مع انهيار آمالها إثر عجزها عن حماية عقود بقيمة عشرة مليارات دولار كانت قد وقّعتها مع نظام القذافي. في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ظهر عدد قليل من الفنيين العسكريين الروس على الأرض في برقة، بحسب ما أُفيد، بهدف إعادة تأهيل قوات اللواء خليفة حفتر، وتجديد منظومات السلاح، وتحسين الدفاعات البحرية والجوية. تشير مصادر عدّة إلى أن مستشارين عسكريين روس يقدّمون المساعدة إلى حفتر انطلاقاً من برقة أو القاهرة1. هذه المعطيات، إلى جانب التقارير عن قيام عبد الباسط البدري – الوسيط في فريق حفتر وسفير ليبيا لدى السعودية – بطلب أسلحة صغيرة وطائرات في أيلول/سبتمبر الماضي، تضفي بعض المصداقية على المزاعم التي نشرها موقع العربي الجديد ويتحدث فيها عن كسب حفتر أربعة مليارات دينار ليبي (2.9 مليارَي دولار أميركي) من الصفقات العسكرية مع روسيا.
لقد عمد ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي وممثّل بوتين الخاص في الشرق الأوسط، إلى تعزيز التدخل الروسي على خطى النمط الذي يتبعه بوتين – والذي شهدناه من أوكرانيا إلى مصر – ويقوم على الانخراط مع البلدان عبر البحث عن حليف موثوق ويعوِّل على روسيا، من أجل تقديم الدعم إليه. على الرغم من أن جميع الفصائل في النزاع الليبي الضروس تأمل بالحصول على الدعم الروسي، يبدو أن خليفة حفتر، قائد ما يُسمّى الجيش الوطني الليبي، هو رجل موسكو في ليبيا. يتلقّى حفتر دعماً عسكرياً أو مادّياً من دول عدّة بدءاً من الإمارات العربية المتحدة وصولاً إلى فرنسا، ويفرض سيطرته حالياً على الجزء الأكبر من إقليم برقة في الشرق، كما يسيطر – منذ أيلول/سبتمبر 2016 - على معظم المنشآت النفطية الليبية. يصطف حفتر إلى جانب البرلمان في طبرق الذي يبقى الهيئة التشريعية الشرعية في ليبيا، ويمتلكان معاً مجموعة من المؤسسات، منها البنك المركزي في الشرق، التي تتصادم مع حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس.
المثال الأول عن التعاون كان في أيار/مايو الماضي، عندما تولّى حاكم البنك المركزي في الشرق إدارة عملية شحن أربعة مليارات دينار ليبي (2.9 مليارَي دولار) من غوزناك، المؤسسة الرسمية لسك العملة التابعة للكرملين. وجد حفتر وحلفاؤه أنه لا بد من إقامة شراكة مع روسيا من أجل الحد من أزمة السيولة المتفاقمة وإظهار كفاءاتهم في حكم برقة. وقد تعرّضت روسيا للانتقادات من الدول الغربية، غير أن هذه الأخيرة رضخت للأمر عندما أدركت أنه ليس بمقدورها وقف شحن الأموال – فتلقّفت روسيا رسالةً مفادها أن السلوك الأحادي في ليبيا لن تكون له تداعيات في الوقت الراهن. وقد توطّدت العلاقة خلال شهرَي حزيران/يونيو وتموز/يوليو، مع توجّه حفتر أولاً ثم عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، إلى موسكو لأول مرة للقاء مسؤولين رفيعي المستوى. لقد أراد حفتر إبرام صفقة سلاح مع الكرملين للحصول على أسلحة برية وجوية أكثر تطوراً من تلك التي ترسلها إليه حالياً مصر والإمارات. في ذلك الوقت، كان السفير الروسي لدى ليبيا، إيفان مولوتوف، يصرّ على أنه لا يجوز تسليم أية أسلحة إلى ليبيا قبل قيام مجلس الأمن الدولي أولاً برفع حظر الأسلحة. بيد أن الموقف الروسي أصبح أكثر ليونة مع حفاظ معسكر حفتر على روابط مع الكرملين عن طريق البدري الذي توجّه، في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، إلى موسكو لينقل إليها رسالة من حفتر يناشدها فيها "شنّ عملية عسكرية ضد الإسلاميين في ليبيا مشابهة للعملية العسكرية في سورية"، وقد صرّح بوغدانوف للصحافيين أنه "سيفكّر ملياً" في أي طلب تتقدّم به السلطات الليبية من أجل "مشاركة روسيا في العمليات ضد الإرهابيين". في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، توجّه حفتر من جديد إلى موسكو لإقناع روسيا بالمساعدة على رفع حظر الأسلحة عن ليبيا.
يندرج الاهتمام الروسي المتزايد بليبيا في إطار استراتيجية أوسع تهدف روسيا من خلالها إلى استعادة دور جيوسياسي بارز في المنطقة، بدءاً من سورية حيث ألقت بثقلها كاملاً خلف حليفها بشار الأسد، وبدأت بملء الفراغ الذي خلّفه الانكفاء الأميركي، أو أقلّه الفراغ الذي يُعتقَد على نطاق واسع بأن الانكفاء الأميركي خلّفه هناك. لقد رأت روسيا في تدخّلها في سورية نموذجاً ناجحاً عن دعم رجل قوي في مقابل تعزيز نفوذها وزيادة قواعدها العسكرية والعقود ذات القيمة المرتفعة، ولذلك تعمد حالياً إلى تصدير هذا النموذج إلى بلدان أخرى تمتلك المقوّمات اللازمة التي تتيح لها تحقيق مكاسب استراتيجية، على غرار مصر. فالرئيس السيسي، وعلى الرغم من قبضته القوية على مصر، بحاجة ماسّة إلى الدعم في الحرب التي يخوضها ضد الإسلام المتشدّد، وكذلك من أجل منح جرعة زخم للاقتصاد المتعثّر. وفي هذا الإطار، يكشف تعزيز الروابط الثنائية والتدريبات العسكرية المشتركة أن روسيا سعيدة بمنح السلطات المصرية المساعدة التي تحتاج إليها، والتي كانت الولايات المتحدة تقدّمها في ما مضى. لم تصدر أي تأكيدات رسمية، لكن ثمة مؤشرات قوية بأنه جرى التوصل إلى اتفاق تعمد روسيا بموجبه إلى ترميم قاعدتها البحرية التي تعود إلى الحقبة السوفياتية في سيدي براني غرب البلاد، وبناء قاعدة جوية إضافية هناك بحلول العام 2019. يشكّل الدعم الروسي لحفتر استمرارية لهذه الاستراتيجية القائمة على دعم قائد عسكري يردّد خطاباً مناسباً عن مكافحة التشدد الإسلامي والإرهاب، ويحتاج إلى المساعدة من الروس كما أنه في موقع يخوّله تعبيد الطريق أمام روسيا لتحقيق أهدافها في المنطقة. إن كان من مؤشر نستشفّه من مصر، فهو أن التحالف الناجح مع مع ليبيا لن يساهم في إبرام عقود مربحة في قطاع الإنشاءات والميدان العسكري وحسب – بما في ذلك السماح للزوارق التابعة لسلاح البحرية الروسي باستخدام ميناء بنغازي، وفقاً للاتفاق الذي تم التوصل إليه مع القذافي في العام 2008، وربما استخدام قاعدة جوية على مقربة من بنغازي – بل والأهم من ذلك، من شأن هذا التحالف أن يفضي إلى تعزيز الوجود الروسي في وسط البحر الأبيض المتوسط وتوسيعه، ما يتيح للجيش الروسي التواجد على مسافة أقرب من أوروبا والقواعد الأميركية في صقلية.
كما أن تقديم الدعم لحفتر لن يثير غضباً عارماً في واشنطن نظراً إلى أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يحبّذ الأنظمة السلطوية المناهضة للإسلاميين. تضم إدارة ترامب العتيدة شخصيات على غرار مستشار الأمن القومي الجديد مايكل فلين معروفين باصطفافهم إلى جانب السياسات الروسية في الشرق الأوسط ويريدون إعادة تركيز المقاربة الأميركية بهدف تقليص جهود مكافحة الإرهاب والابتعاد عن الجهود الآيلة إلى نشر الاستقرار مثل العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة في ليبيا. على النقيض من هيلاري كلينتون، ليست لترامب مصلحة في كبح التأثير الروسي في المنطقة، كما أنه غير متحمّس لدعم تشكيل حكومة وحدة في طرابلس.
هذه التوسعية التي لا يعيقها شيء تتمخض عنها عواقب وخيمة على النزاع الليبي قد تدفع به نحو التصعيد. على الرغم من المناشدات التي نقلها مبعوث حفتر، غالب الظن أن بوتين لن يلجأ إلى تدخل مباشر وواسع النطاق في ليبيا، كما يفعل في سورية منذ عام ونصف العام. بيد أن روسيا تعمد، تحت ستار مكافحة الإرهاب، إلى زيادة دعمها شيئاً فشيئاً لوكلاء موثوقين على غرار حفتر والجيش المصري الذي أرسل معدّات وأسلحة لدعم قوات حفتر. إذا مارست روسيا ضغوطاً على الأمم المتحدة لرفع حظر الأسلحة وتسبّبت بتقويض القرارات التي تنص على استقلالية المؤسسات النفطية والمالية الليبية، سوف يتمكّن حفتر من توسيع حربه ضد الإرهابيين الذين وُضِع لهم تعريف فضفاض. قد يؤدّي الدعم الروسي الواسع لحفتر إلى الإطاحة بالعملية السياسية عبر انتفاء حاجته إلى التفاوض مع حكومة الوفاق الوطني، الأمر الذي قد يعود بنتائج عكسية على الأهداف الروسية المعلَنة بالتصدّي للإرهاب. غالب الظن أن حفتر غير قادر على نشر الاستقرار في ليبيا بكاملها، على الرغم من طموحاته، ومن شأن أي تقدّم نحو الغرب أن يُقحمه في نزاع مع العديد من المجموعات المسلّحة التي ترى فيه تهديداً وجودياً، ما قد يؤدّي إلى التصعيد أو إلى مزيد من الفوضى، وكلا الأمرين لا يساهمان في احتواء الجهادية.
حتى تاريخه، وفيما تعمد روسيا إلى زيادة تدخّلها السياسي والعسكري، تستمر في إحاطة مخططاتها بشيء من الالتباس والغموض، فتقدّم دعماً صورياً لعملية السلام في ليبيا بينما تمدّ أحد أمراء الحرب بالمؤازرة. لقد وافقت روسيا على جميع قرارات الأمم المتحدة الداعِمة للعملية السياسية في ليبيا، ولا تزال، أقلّه صورياً، تدعم الاتفاق السياسي الليبي. وقد شدّدت منذ فترة وجيزة، خلال زيارة حفتر إلى موسكو في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على أنها تحافظ على روابط وعلاقات مع جميع الأفرقاء الليبيين. واقع الحال هو أن العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة تعاني من شوائب شديدة، لكنها جزء من إطار عمل واسع ساهم إلى حد كبير في التخفيف من حدّة النزاع. بإمكان الأمم المتحدة أن تقود هذه العملية في اتجاه أكثر إيجابية عبر دفع بعض السياسيين الذين دعموا سابقاً حكومة طبرق ويواجهون خطر التهميش في حال اكتسب حفتر نفوذاً واسعاً، إلى الانضمام إلى الائتلاف الداعم لحكومة الوحدة. تزامناً، بإمكان الأوروبيين أن يستمروا في بذل جهود لإرساء الوحدة الاقتصادية في ليبيا، بحسب ما ورد في مندرجات قمتَي لندن وروما. إذا كانت روسيا مهتمة فعلاً بالاستقرار، لا يجدر بها معارضة مثل هذه الجهود من جانب الأمم المتحدة وأوروبا.
قد تقرّر روسيا الإبقاء على دعم محض صوري للعملية السياسية المدعومة من الأمم المتحدة فيما تكثّف دعمها السياسي والعسكري للواء حفتر باسم المعركة ضد الإرهاب. لكن في نهاية المطاف، لا يمكن أن تنجح استراتيجية مكافحة الإرهاب في غياب استراتيجية لنشر الاستقرار. فمن دون عملية سياسية ناجحة وحكومة معترَف بها في طرابلس، قد تتحمّل روسيا عبء الفوضى الليبية فيما تجازف بتوتير علاقاتها مع إيطاليا وفرنسا اللتين يمكن أن تؤدّياً دوراً كبيراً في الدفع نحو رفع العقوبات الأوروبية عنها. قريباً قد يجد بوتين نفسه أمام السؤال الآتي: هل تستحق ليبيا، التي تُعتبَر تقليدياً أقل أهمية إلى حد كبير من سورية بالنسبة إلى موسكو، الخوض في هذه المغامرة؟
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
طارق المجريسي محلل سياسي وباحث ليبي متخصص في شؤون السياسة والحوكمة والتنمية في العالم العربي. ماتيا توالدو زميل سياسات رفيع المستوى في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
1. مقابلات أجراها الكاتب مع صنّاع سياسات غربيين.