المصدر: Getty
مقال

نزاع النيل: ما وراء الأمن المائي

النزاع الطويل الأمد حول سد النهضة الأثيوبي الكبير لا يقتصر فقط على الموارد المادية وإنما يمتد إلى أبعد من ذلك.

 غاشاوا أيفرام
نشرت في ١٩ يناير ٢٠٢٣

مع تسارع وتيرة التغيّر المناخي، دخل نزاع النيل مرحلة جديدة من التعقيد، ما دفع بدول المنطقة إلى التنافس على المياه والغذاء وأمن الطاقة. وجاء بناء سد النهضة الأثيوبي الكبير، وهو مشروع للطاقة الكهرومائية غير الاستهلاكية تقوم أثيوبيا بإنشائه على نهر النيل، ليُفاقم تعقيدات العلاقة بين أثيوبيا ومصر، حيث تعتبر الدولة الأولى أن المشروع هو ضرورة وجودية لها، فيما ترى فيه الدولة الثانية تهديدًا وجوديًا لها. ولكن هذا النزاع لا يدور فقط حول الموارد المادّية، بل يطال أيضًا هوية الدولتَين بحد ذاتها.

منذ البدء ببناء سد النهضة الأثيوبي الكبير في عام 2011، أكّدت القاهرة أن المشروع يشكّل تهديدًا للاستقرار في مصر والمنطقة، وبصورة خاصة للأمن المائي المصري. أما أثيوبيا فتصرّ على أنه مشروع إنمائي وليس مشروعًا سياسيًا مرتكزًا على الأمن. على الرغم من هذا الخلاف في وجهات النظر، من الواضح أن سعي الطرفَين المتناحرين إلى الحفاظ على أمنهما الوجودي، أو الحفاظ على هوية الدولة، هو عاملٌ محرّك لنزاع النيل.

ربما ينعدم الأمن الوجودي حين تتسبب تطورات داخلية وخارجية باختلال في استمرارية الهويات ووجهات النظر السائدة المتجذرة. لذا قد يُقال بأن مشروع سد النهضة الأثيوبي الكبير يهدد استمرارية العالم الذي بنته مصر حول رؤيتها للنيل ككائن حي لا ينفصل عن تاريخ البلاد وثقافتها وهويتها الحضارية. وهكذا، قد تُضطر مصر، في ضوء التطورات المتعلقة بالمشروع، إلى إعادة تعريف هويتها الوطنية المتمحورة حول نهر النيل.

لقد عمدت القاهرة المتخوّفة من هذا الاحتمال، إلى إضفاء طابع أمني على المسألة، مبديةً معارضتها للمشروع فور إعلان أثيوبيا عنه في عام 2011. وتصاعدت حدّة النزاع في عام 2013 حين قامت أثيوبيا بتحويل مجرى النهر لبناء السد - في خطوةٍ اعتبرها بعض الأفرقاء المصريين تجاوزا للخطوط الحمراء. وفي نهاية المطاف، طرحت مصر مسألة النزاع على سد النهضة في مجلس الأمن الدولي.

تواجه أديس أبابا مشقات أيضًا في فرض الأمن المادي وغير المادي. في أثيوبيا، لا يعتبر سد النهضة جزءًا من البنية التحتية التي تولّد الكهرباء فحسب، بل هو أيضًا رمزا للوحدة في مواجهة الفقر والتخلف المتصوَّر. ويُقدَّم على أنه مشروع سيادي يضاهي انتصار أثيوبيا على إيطاليا في معركة عدوة في عام 1896. لا يتحقق هذا النصر الحديث ضد معتدٍ أجنبي، بل ضد عدو داخلي هو الفقر المدقع. ساهم سد النهضة أيضًا في تغيير نظرة الرأي العام إلى النيل ("أباي" باللغة الأمهرية) من نهر يسرق الموارد الأثيوبية القيّمة إلى قوّة للتنمية الأثيوبية. فالنهر الذي كان مصدرًا للانقسامات في الماضي تستخدمه النخبة الحاكمة الآن لتوحيد الشعب تحت مظلة "هوية أثيوبية جديدة" ذات مرتكزات اجتماعية، وفي صلبها سد النهضة.

علاوةً على ذلك، يمتد هذا النزاع على الهوية إلى أبعد من الحدود الأثيوبية والمصرية. تصوّر أثيوبيا السد بأنه مشروع أفريقي، نظرًا إلى أن نهر النيل يمرّ في 11 بلدًا أفريقيًا، ويرى البعض أن سد النهضة يدعم انتقال أفريقيا نحو المعايير المراعية للبيئة. أما مصر فترى أن هذه الاعتبارات نفسها تشكّل تهديدًا للأمن المائي العربي. تقع المحاولات المتضاربة لإضفاء الطابع الأفريقي والعربي على النيل في واجهة الصراع بين عوالم النيل ذات المرتكزات المختلفة.

ختامًا، ليس الخلاف بشأن سد النهضة مرتبطًا فقط بالجوانب المادية لأمن الموارد. بل إنه أيضًا نزاع بين الهوية المصرية القديمة المتمحورة حول النيل والهوية الأثيوبية الجديدة المتمركزة حول النيل – والتي هي قيد البناء. والمفاوضات في سياق هذا الصراع المبني على الهوية هي لعبة غالب ومغلوب. لذا، التوصل إلى اتفاق بين الدولتَين حول الجوانب المادية يتطلب بذل جهود للنأي بنهر النيل عن الاعتبارات الأمنية في سياقٍ مشحون بالهويات المتنافسة.

غاشاو أيفرام طالب دكتوراه في جامعة أديس أبابا وباحث في معهد الشؤون الخارجية. تشمل اهتماماته البحثية مسائل الانتقال إلى الطاقة الخضراء، والسياسة المائية، والجغرافيا السياسية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

 

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.