أثارت أحداث العنف الأخيرة التي وقعت في القاهرة وفي مناطق أخرى من مصر، مخاوف جدّية من التي تسير نحوها البلاد ومن نوايا المجلس الأعلى للقوات المسلّحة. فأعمال العنف والقمع التي تعرّض لها متظاهرون عُزّل على مرأى من العالم، لاتصرف الانتباه وحسب عن العملية الانتخابية وعملية الانتقال السياسي، بل تؤخّر أيضاً آفاق انتعاش الاقتصاد المصري الذي يتدهور سريعاً، والذي قد يواجه أزمة حادّة بسبب استمرار الاحتجاجات في الشوارع، والإضرابات، وهروب الرساميل، وارتفاع التضخّم، والزيادة في أسعار المواد الغذائية، والبطالة.

كذلك، تراجعت السياحة كثيراً، وأغلقت العديد من المصانع أبوابها، وبات كل موظّف يطالب بزيادة أجره. ثم أن البلاد تعاني من نزف في احتياط النقد الأجنبي، وقد ينفد الاحتياطي بالدولار الأمريكي في غضون أشهر. وقد اعتبر محمود نصر، وهو مسؤول مالي كبير في الجيش، أن الاحتياطي المصري بالدولار الأمريكي سيتراجع بمعدّل الثلث بحلول نهاية يناير/كانون الثاني 2012، ليصل إلى 15 مليار دولار فقط. ورجّح مسؤول في صندوق النقد الدولي مؤخراً أن تنفد السيولة في مصر في غضون شهرَين إلى ثلاثة أشهر، الأمر الذي من شأنه أن يثير حالة من الذعر المالي، ويؤدّي إلى مزيد من التراجع في قيمة الجنيه المصري، ويتسبّب بتضخّم شديد. وتساهم أزمة السيولة في تضخيم التشوّهات الكامنة في المنظومة الماليّة، والتي لن تجد حلاً لها إلا عن طريق إصلاح مالي واسع النطاق ومن خلال إعادة النظر في سياسات الدعم المالي الحكومي.

لقد رفضت مصر القروض التي عرضها عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في يونيو/حزيران الماضي لأنهم لم تُرد – بحسب مسؤولين في وزارة التخطيط – زيادة عبء الديون عليها ولأن الشروط "لا تتناسب مع المصلحة الوطنية المصرية"، وذلك بعد تدفق الوعود بالمساعدة المالية من بلدان الخليج. ولكن مع تأخّر وصول هذه الأموال من البلدان الخليجية، من المرجح أن تعود مصر من جديد إلى هاتين المؤسّستين الماليتين لإعادة التفاوض على رزم المساعدات التي قد تساعد على وضع حدّ للأزمة الماليّة الخانقة. غير أنَّ هذا الإجراء البديل مؤقّت وذي منافع قصيرة الأمد؛ في حين أن المطلوب، هو استراتيجية طويلة الأمد تعيد إحياء الاقتصاد المصري بصورة مستدامة وموجَّهة نحو النمو؛ الأمر الذي لا يمكن أن يتحقّق عن طريق التحويلات النقدية الوافرة من الخليج، ولا القروض من مؤسسات النقد الدولية، ولا المساعدات الاقتصادية من الكونغرس الأمريكي. فالحل الوحيد يكون باطلاق العنان لألمعيّة، ودينامية، وروح المبادرة في القطاع الخاص المصري – دولياً وإقليمياً وداخلياً –من أجل بث الحياة من جديد في اقتصاد البلاد.

و في حال أخفقت مصر اقتصادياً – وهذا ليس خياراً - فسوف يؤدّي ذلك إلى صعود الراديكالية، وتعاظم التهديدات الأمنية، وتعطّل إمدادات الطاقة، ما يولّد ضغوطاً تتسبّب بهجرة المصريين. لذلك، يجب أن تنخرط الولايات المتحدة مع القادة المنتخَبين حديثاً من الأحزاب كافة في بناء علاقات من أجل تعزيز مبادئ المشاركة الديمقراطية وتشجيع روح المبادرة الضرورية لنجاح مصر.

وفي الوقت الذي لازالت فيه معالم السياسات الفعلية التي سينتهجها مجلس الشعب، الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمون، مبهمة؛ أبدى حزب الحرية والعدالة استعداداً لدعم مقاربة اقتصادية ليبرالية، إلى حد ما، وموجَّهة نحو السوق الحرّة. وفي حين أن برنامجه الانتخابي يحظى باعجاب الجمهور الأمريكي حيث يتناول سياسات يقبلها، مثل: الحرية الاقتصادية، وتعزيز المنافسة العالمية، وسيادة القانون لتنظيم المعاملات الاقتصادية، والإصلاح المؤسّسي، ومركزيّة القطاع الخاص. وفي الواقع، يعتبر البرنامج الاقتصادي لحزب الحرية والعدالة أكثر تطوّراً بأشواط من برامج عدد كبير من الأحزاب العلمانية النيوليبرالية (حزب الغد وحزب المصريين الأحرار والحزب العربي الديمقراطي الناصري والتجمّع) والتي يؤكّد الكثير من بينها الحاجة إلى حمايات اجتماعية وتوزيع أكثر عدالة للثروات، غير أنّها لا تطرح بالتفصيل سياسات تجارية واستثمارية محدّدة.

ونظراً إلى أن حزب الحرية والعدالة يخوض تجربة جديدة لم يعرفها سابقاً في تبوؤ موقع الحكم، يمكن اعتبار بعض الشكوك المطروحة مبرّراً، إذ أنه يدعم السياسات التجارية الحمائية عبر عزل الصناعات الداخلية عن المنافسة الدولية وخفض استيراد السلع الفاخرة على الرغم من اعتبار برنامجه الاقتصادي متطوّراً. ونظراً إلى التزام الحزب الراسخ بـ(إعادة) توزيع الموارد بالتساوي وبالعدالة الاجتماعية، سوف يُطرَح سؤال أساسي عليه: ما هو التصوّر الذي وضعه حزب الحرية والعدالة لدور الحكومة في التقيّد بهذه المبادئ؟ فضلاً عن ذلك، ثمة خوف متزايد بأن القوّة التي برهنت عنها الأحزاب السلفية ستدفع بحزب الحرية والعدالة إلى اعتماد مواقف أكثر تشدّداً في مجال السياحة بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية وفي السياسات الاجتماعية. كما أن الحاجة إلى تطويق المتطرّفين قد تُترجَم سياسات شعبوية تسعى إلى تملّق الناس وتوفير الخدمات لهم عبر استحداث وظائف جديدة أو إعادة تأميم الصناعات أو زيادة الأجور. ويتبنّى النور، الحزب السلفي الأكبر، ليبرالية اقتصادية معتدلة، لكن مستشاريه يلفتون النظر إلى أن الشريعة الإسلامية تمنع خصخصة الموارد الطبيعية (مثل المياه والغاز). أما برنامجهم الانتخابي فيتحدّث عن وجوب إجراء إصلاح ضريبي، لكنه لا يحدّد نوع التغييرات الضرائبيّة التي سيسعون إلى تطبيقها. وحدها الأشهر المقبلة كفيلة بتبيان حقيقة هذه الشعارات على المستوى التطبيقي. 

بناءً على ما تقدم، يتعيّن على الولايات المتحدة وأوروبا أن تحشدا كل الموارد الدبلوماسية والمالية الممكنة لتشجيع السياسات الموجَّهة نحو السوق التي يعِد بها القادة المنتخبون حديثاً، ثم مساعدتهم على تطبيقها. لكن في مناخ التقشّف الحالي، ستكون رزم المساعدات من الولايات المتحدة وأوروبا محدودة للغاية. وبغض النظر عن ذلك، يعتبر فتح التدفّقات التجارية وتفعيل القطاع الخاص، إجراءان واقعيان ومحرِّكان أساسيان للنمو الاقتصادي المستدام. كما يمكن تحقيق مكاسب هامّة من خلال المبادرات الاقتصادية التي تعزّز التجارة، وتدعم نمو أعمال جديدة، وتشجّع الاستثمارات، ليس فقط بالنسبة إلى الشركات في البلدان المستهدَفة إنما أيضاً في الولايات المتحدة وأوروبا. وبإمكان المساعدات الخارجية المساهمة في تأمين التمويل الفوري، لكن العنصر الأساسي لتحقيق النمو والازدهار على المدى الطويل، يكمن في الشراكات التجارية التي تحقّق منافع متبادلة للطرفَين. ولعل العامل الأهم يكون من خلال تشجيع الولايات المتحدة وأوروبا القطاع الخاص – في الغرب وفي مصر – على تحديد العوائق أمام التجارة والاستثمار، وتوجيه الاهتمام نحو قطاعات اقتصادية محدّدة يمكن أن تؤمّن نمواً إضافياً. ويقع إتخاذ هكذا خيارات على عاتق مجتمع رجال الأعمال، وليس الحكومة، لبث روح الإبداع والمبادرة في الاقتصاد. 

ويتعيّن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في شكل خاص، توسيع الولوج المصري إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية، والانخراط مع مصر على حدة من أجل التفاوض على اتفاقات حول التجارة الحرّة أو ترسيخ الترتيبات التجارية التفضيلية القائمة حالياً. فمعاهدة الاستثمار الثنائية التي وُقِّعت مع مصر العام 1992 ولاتزال قيد التطبيق حالياً، قد تخطّاها الزمن كونها تستثني قطاعات يجب أن تكون مشمولة فيها كما أنها لاتأتي على ذكر حمايات أساسية تفرضها الولايات المتحدة الآن (مثل حقوق الملكية الفكرية). لقد حان الوقت لتحديث هذه المعاهدة، والمباشرة في العمل من أجل التوصّل إلى اتفاقات أكثر طموحاً من شأنها أن تمهّد الطريق لعلاقة تجارية أكثر رسوخاً. ومؤخراً، أعلن الاتحاد الأوروبي أنه في صدد الشروع في محادثات حول التجارة الحرة مع مصر والمغرب وتونس، وعلى الولايات المتحدة أن تحذو حذوه. وفيما تتردّد الولايات المتحدة في الانخراط في مفاوضات، في الوقت الذي لايزال فيه الوضع السياسي متقلّباً، يجب التعبير عن النوايا وتقديم الدعم الدولي للاقتصاد المصري لطمأنة الأسواق وتشجيع المصريين المتشائمين كثيراً لناحية مستقبلهم الاقتصادي.

 
دانيا غرينفيلد نائبة المدير في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.