المصدر: Getty
مقال

المعاني السياسية للاحتجاجات العمالية

اتخذ جامعو الضرائب العقارية مؤخراً خطوة غير مسبوقة تمثّلت بإنشاء نقابة موظفين مستقلة عن السيطرة الحكومية؛ سوف يحدّد رد السلطات المصرية لهجة الخلافات التي يُرجَّح أن تنشأ بين العمّال والحكومة.

نشرت في ١١ نوفمبر ٢٠٠٩

IMGXYZ2919IMGZYXبينما ركّزت أجهزة الإعلام خلال الأعوام الخمسة الماضية على المظاهرات في قلب القاهرة ضد توريث الحكم إلى جمال مبارك، نجل الرئيس حسني مبارك، فقد غابت عنها قصة أكبر وهي ارتفاع احتجاجات العمال الذين أصبحوا القوة السياسية الأكثر فعالية في البلد. فمنذ اضطرابات ما يزيد عن 27 ألف من عمال شركة غزل المحلة للنسيج عامي 2006 و2007، تحولت مطالب العمالة المصرية من مجرد مطالب اقتصادية بحتة - الرواتب والعلاوات، والسلامة الصناعية - إلى مسألة سياسية تهدف الى إعادة تعريف علاقتهم بالدولة.

على مدى نصف قرن، احتكر الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، الذي تسيطر عليه الدولة، تمثيل العمال. وجاء أقوى تهديد لهذا الاحتكار عندما دعا عمال شركة غزل المحلة للنسيج إلى حل لجنة المصنع النقابية، والتي وصفت بكونها  "غير ديمقراطية وغير تمثيلية".

وأخذت الدعوات الاستقلالية دفعة إضافية بعدما أعلن نحو 37 ألفاً من موظفي الضرائب العقارية في ديسمبر/كانون الأول العام 2008 تأسيس أول نقابة مستقلة منذ العام 1957. جاء هذا الإعلان بعد مرور سنة على اعتصام الآلاف من محصلي الضرائب العقارية لمدة 11 يوما امام وزارة المالية في وسط القاهرة مطالبين بزيادة في رواتبهم. على الرغم من أن النقابة العامة للعاملين بالبنوك والتأمينات والأعمال المالية عارضت الإضراب، استجابت الحكومة في نهاية المطاف لمطالب موظفي الضرائب العقارية برفع رواتبهم ثلاثة أضعاف. 

بعد هذا النجاح، بدأ العمال في العديد من القطاعات الصناعية والخدمية محاولات لإنشاء نقابات حرة خاصة بهم مستقلة عن سيطرة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر للتصدي لتدهور الأوضاع الاقتصادية. وتشمل هذه المحاولات قطاعات هيئة النقل العام والبريد وإداريي التعليم والمعلمين وأصحاب المعاشات وأساتذة جامعيين.

أسباب ودوافع متشابكة تفسر أكثر من 1600 احتجاج عمالي في مصر بأشكاله المختلفة من إضراب واعتصام وإيقاف للإنتاج منذ العام 2004. أولى هذه الدوافع تتعلق بخشية قطاعات واسعة من العمال من السياسات التي أعلن عنها رئيس الوزراء أحمد نظيف منذ تشكيل حكومته الأولى في 2004 والتي رافقها شعور قطاعات متزايدة من العمال والموظفين بأنها تمثل استراتيجية متعمدة لإعادة تعريف "العقد الاجتماعي" المعمول به منذ انقلاب الضباط الأحرار العام 1952. وتدريجيا، ظهرت فئة "رجال الأعمال"، البعض منهم أعضاء في حكومة نظيف، لتحل محل "العمال والفلاحين" في خطاب الدولة الرسمي القديم. هذه السياسة، التي رافقها تزايد معدلات التضخم التي وصلت الى 20 بالمئة في العام 2008، تزامنت أيضا مع إجراء الانتخابات العمالية في العام 2006 والتي شهدت شطب مئات المرشحين القريبين من أحزاب المعارضة أو المستقلين، ليأتي الاتحاد العام الجديد لنقابات عمال مصر "وكأنه امتداد للحزب الحاكم وحكومة رجال الأعمال" على حد تعبير كمال أبو عيطة رئيس النقابة المستقلة للضرائب العقارية.

وشكّل تحييد مؤسسات الدولة السياسية والأمنية التكتيك الأبرز الذي تبنته احتجاجات العمال. صحيح أن الدولة تلجأ أحيانا إلى صنوف الترهيب التقليدية من طرد العمال أو نقلهم واعتقالهم والاعتداء عليهم، إلا أنها تسامحت إلى حد كبير مع الاحتجاجات العمالية مقارنة بالطريقة التي تحاصر بها خصومها السياسيين الآخرين كجماعة الاخوان المسلمين أو بقية الحركات العلمانية على غرار كفاية وحزب الغد. هذا التسامح النسبي ربما يكون مصدره إدراك الدولة بأن قمع العمال داخل مصانعهم قد يُسفر عن خسائر بشرية واقتصادية كبيرة.

ربما تدرك السلطات المصرية أيضا أن القيادات العمالية ابتعدت عن الأحزاب السياسية. فعلى سبيل المثال، اتفق قادة الضرائب العقارية العام الحالي على عدم المشاركة في إضراب دعت إليه مجموعة من نشطاء الفيس بوك لإحياء الذكرى الثانية لإضراب 6 أبريل/نيسان العام 2008 في مدينة المحلة الكبرى. وخلافا لمظاهرات كفاية وشقيقاتها التي تهتف ضد الرئيس حسني مبارك أو عناصر من نظامه، عادة ما يلجأ القائمون بالاحتجاجات العمالية إلى مناشدة مبارك نفسه التدخل لحل مشاكلهم.

اتساع المطالب الاستقلالية لقطاعات عمالية جديدة في المستقبل يبقى رهن تطورات من أبرزها كيفية تعامل الدولة مع النقابة المستقلة للضرائب العقارية. على الرغم من استلام وزيرة القوى العاملة عائشة عبد الهادي الأوراق التأسيسية لنقابة الضرائب العقارية في أبريل/نيسان الماضي، تبقى هذه النقابة المستقلة في حالة من عدم الوجود القانوني بسبب عدم اعتراف الوزارة بها، وهو اعتراف ضروري لحمايتها من تدخل الدولة ولتمكينها من فتح حساب خاص لجمع الاشتراكات.

وفي الوقت نفسه، يحاول الاتحاد العام لنقابات عمال مصر تضييق الخناق على النقابة الجديدة في مهدها. كما جاء إعلان رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر حسين مجاور في سبتمبر/أيلول عن دعوته إلى تأسيس لجنة خاصة للنظر في إنشاء اتحاد جديد لجميع موظفي وزارة المالية، بما في ذلك الضرائب العقارية. تهدف خطة مجاور إلى ضرب شرعية النقابة المستقلة للضرائب العقارية، لوجود قوانين تمنع تعدد العضوية النقابية. 

أيا كان مستقبل النقابة المستقلة للضرائب العقارية، فمن المرجح أن تزداد قوة الاحتجاجات العمالية داخل مصر. إن خطط تسريع خصخصة الصناعات العامة وغياب المؤشرات المستقلة عن انخفاض البطالة والتضخم (معدلات النمو هبطت من حدود سبعة في المئة العام 2007 إلى نحو 4.5 بالمئة العام 2009)، بالإضافة الى حالة الغموض السياسي التي تحيط بالبلاد قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية عامي 2010 و2011 ، تشير إلى أن غضب العمال المصريين وتنظيم الاحتجاجات لم ينتهيا بعد.

سيف نصراوي صحفي وباحث سياسي في القاهرة، تتناول كتاباته قضايا الديمقراطية، والحركات الاجتماعية، وسياسات الهوية في مصر والعراق.