مع تجدّد الاحتجاجات وأعمال العنف عقب الأحداث الدموية التي شهدتها مباراة كرة القدم في بور سعيد في الأول من فبراير/شباط الجاري، تشتدّ المخاوف حول الدستور المصري الجديد الذي يُخشى أن يقود إلى اختلال وظيفي ونتائج غير ديمقراطية. 

وفي هذا الإطار، يضغط الجيش باتجاه  صياغة سريعة لدستور جديد يعدّه مجلس مؤلّف من 100 عضو يختاره مجلس الشعب حيث تسيطر القوى الإسلامية على ما يزيد عن الـ 70 في المئة من المقاعد؛ بيد أن القرار الذي اتُّخِذ مؤخراً بتبكير موعد الانتخابات الرئاسية وفتح باب الترشّح في 10 مارس/آذار المقبل – في محاولة أخيرة لتنفيس المعارضة المتنامية ضد الحكم العسكري – قد يلقي بعبء إضافي على المهلة الزمنية الضاغطة لإقرار الدستور.

بحسب خريطة طريق المرحلة الانتقالية التي اقترحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن أجل وضع دستور جديد قبل الانتخابات الرئاسية، ينبغي على مجلس الشعب إعداد مسوّدة الدستور في غضون أسابيع، أي بين إتمام انتخابات مجلس الشورى في مارس/آذار وفتح باب الترشيح للرئاسة الذي كان مقرّراً أن يبدأ في 15 أبريل/نيسان. لكن عقب أعمال العنف الأخيرة، ثبّت مجلس الشعب الجديد الصلاحية التي يملكها وتجيز له إحالة الوزراء إلى المحاكمة، وفوّض لجنة الدفاع والأمن القومي التحقيق في ما جرى، فأوصت هذه الأخيرة بإقالة النائب العام المصري، وإجراء إصلاح شامل لجهاز الشرطة. لكن، بعدما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتبكير موعد فتح باب الترشّح للانتخابات الرئاسية ليصبح في 10 مارس/آذار المقبل، لم يعد واضحاً إذا كان القادة العسكريون في مصر سيتجاوبون مع النداءات التي تطالب بتأجيل عملية إعداد الدستور، أو سيتمسّكون بالمسار التصادمي الحالي ويجازفون بإشعال مواجهة خطرة حول مستقبل الإطار القانوني في مصر.

كما أن الشرعية المشكوك فيها أصلاً للتفويض السياسي للمجلس العسكري تتداعى بسرعة، في ظل إخفاقه في – أو بحسب بعض النقّاد، إحجامه عن – السيطرة على الفوضى الشديدة في بور سعيد الأسبوع الماضي. فقد جاءت هذه الحادثة لتؤكّد المخاوف التي تساور مختلف الأفرقاء السياسيين في مصر من أن المجلس الأعلى للقوات المسلّحة يتسبّب بخروج عملية التحول الديمقراطي عن مسارها الصحيح، ويُحبط محاولة إعادة إرساء الاستقرار وسيادة القانون. وقد تعرّضت الحكومة الانتقالية إلى انتقادات غير مسبوقة وسط اتّهامها بالإهمال. يلتقي المحتجّون والمشرّعون حول المطالبة بآلية دستورية شفّافة يشارك الجميع فيها، وتكون بمنأى عن تدخّل الجيش الذي يسعى جاهداً إلى تثبيت امتيازاته السياسية في الإطار القانوني.

سوف يثير دور الجيش في النظام السياسي الجديد مزيداً من الانقسام عندما تبدأ النقاشات جدّياً. في الواقع، لدى الأغلبية الإسلامية في مجلس الشعب – بقيادة حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين – مصالح استراتيجية واضحة في سحب النفوذ والصلاحيات من أيدي السلطة التنفيذية؛ فقد أيّدت نموذجاً برلمانياً "مختلطاً" مستوحى من النظام الفرنسي للحلول مكان النظام الرئاسي القائم حالياً في مصر والذي تطغى عليه السلطة التنفيذية.

على الرغم من ذلك، تأخّر الإخوان المسلمون في دعم الجداول الزمنية التي أعلن عنها الجيش سابقاً، فهم لم يعبّروا عن هذا الدعم سوى منذ وقت قصير. لكن التشنّج مستمرّ حول توقيت الاستحقاقات، وفي 28 يناير/كانون الثاني الماضي، شرح رئيس وحدة الشؤون القانونية في حزب الحرية والعدالة، أحمد أبو بركة، أن الحزب يعتبر أن الانتخابات الرئاسية وعملية صوغ الدستور هما مساران متوازيان، ويجب بالتالي أن يتقدّما جنباً إلى جانب لا أن تُنجَز واحدة قبل الثانية. وهو في الواقع تفادى، من خلال هذا الموقف، الجدل حول أيّ من الأمرين يجب أن يأتي أولاً؛ الانتخابات الرئاسية أم صوغ الدستور. وبعدما فقدت خريطة الطريق التي وضعها الجيش شرعيّتها إلى حد كبير بسبب تجدّد العنف والاحتجاجات، قد يُضطرّ الإخوان المسلمون قريباً إلى سحب الدعم نهائياً من جدول المواعيد المفضَّل بالنسبة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتأييد صوغ مسوّدة دستور جديد بإشراف مدني (لاعسكري). وفيما يبدي الإخوان المسلمون استعداداً للتراجع عن بعض طموحاتهم السياسية التي أعلنوا عنها سابقاً (مثل العودة عن التهديد بحل الحكومة المؤقّتة بعد الانتخابات البرلمانية)، إلا أنهم لن يتزحزحوا قيد أنملة عن موقفهم في موضوع الدستور. فقد أوضحوا تماماً أن مجلس الشعب يملك السلطة الحصرية – بدعم من تفويض قانوني وشعبي على السواء – لتعيين جمعية تأسيسية تتحمّل "عبء" صوغ الدستور من دون المساعدة غير المرغوب فيها من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

صحيح أن القيادة العسكرية تفضّل الإبقاء على قبضتها على الهيئة التشريعية الجديدة، إلا أن أزمة الشرعية الحادّة التي تعاني منها ستجعل من الصعب عليها مواصلة السيطرة على النظام السياسي الجديد.

 في 31 يناير/كانون الثاني الماضي، صرّح النائب عن حزب الحرية والعدالة، محمد البلتاجي، أن "مجلس الشعب أصبح السلطة التشريعة الوحيدة التي لا منازع لها"، وأشار إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلّحة تجاوز حدوده عبر إصدار قانون جديد ينظّم الانتخابات الرئاسية قبل ثلاثة أيام من انعقاد مجلس الشعب في جلسته الأولى في 23 يناير/كانون الثاني الماضي. لكن قبل ذلك أيضاً، حاول المجلس الأعلى للقوات المسلحة كبح سلطات مجلس الشعب. وغالب الظن أن الدافع وراء تحرّكه هذا هو خطاب حزب الحرية والعدالة القائل بأنه ينبغي على الأغلبية البرلمانية الجديدة تشكيل حكومة جديدة. في ديسمبر/كانون الأول 2011، حاول عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ممدوح شاهين، استباق إمكان سيطرة الهيئة التشريعية على الحكومة معلناً أنه لن تكون لمجلس الشعب سلطة تعيين وزراء جدد أو إقالة حكومة عيّنها المجلس الأعلى للقوات المسلّحة. لاشك في أن الجيش يرغب في الحفاظ على احتكاره للتعيينات الوزارية، لكن الأمر يصبح متعذِّراً أكثر فأكثر، ويطالب المشرّعون منذ الآن بإقالة وزراء كبار ومحاكمتهم. وحتى إذا حاول المجلس الأعلى للقوات المسلّحة تحدّي الأساس القانوني للصلاحيات الجديدة التي يتمسّك بها مجلس الشعب، إلا أنه خسر حكماً الشرعية ورأس المال السياسي الضروريَّين لتحدّي هيئة تشريعية اكتسبت زخماً من التفويض الانتخابي الكاسح الذي حصلت عليه.

وفي صلب هذا الصراع على السلطة يقع السؤال الخلافي: كيف سيُكتَب الدستور ومتى؟ فيما يتحوّط الإخوان المسلمون في رهاناتهم ويتجنّبون الخلاف الضمني حول تعاقب الاستحقاقات، يبدو حزب النور السلفي – الذي يحاول على الأرجح استثمار نفوذه كونه ثاني أكبر كتلة نيابية – متلهّفاً للتعجيل في إنجاز الآلية الدستورية في الوقت الذي لايزال فيه نوّابه يتمتّعون بتأثير قوي. في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، قال أمين عام حزب النور أن "كتابة الدستور أهم من الكلام عن الانتخابات الرئاسية". ليس واضحاً إذا كان السلفيون سيستمرّون في إعطاء الأولولية لتشكيل جمعية تأسيسية على وجه السرعة بعدما عمد المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تبكير مواعيد الاستحقاق الانتخابي. ولذلك فإن تضييق المهل الزمنية في المرحلة الانتقالية قد يُضطرّهم إلى الإقرار بأن إنجاز الدستور في الأسابيع الأربعة المتبقّية قبل فتح باب الترشّح للانتخابات الرئاسية مستحيل تقنياً كما أنه يتسبّب باستقطاب سياسي شديد.

لكن من جهة أخرى، أعلن عدد كبير من الليبراليين تأييدهم لتأجيل إعداد الدستور إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، حتى لو اقتضى ذلك انتخاب رئيس مدني ذي سلطات ملتبسة وغير محدّدة. ففي نظر بعض هؤلاء الليبراليين، مثل شادي غزالي حرب، من شأن دستور يوضَع على عجل ويفتقر إلى التأييد الشعبي الواسع لضمان شرعيّته وديمومته أن يشكّل خطراً أكبر على الديمقراطية من رئيس ذي تفويض مبهم دستورياً.

ويدعم أعضاء السلطة القضائية، بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا، تخصيص مدّة زمنية أطول لإعداد الدستور. فقد أقرّ القاضي زكريا عبد العزيز (الرئيس السابق لنادي قضاة مصر واسع النفوذ) في مقابلة معه في القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، أنه ليس هناك مخرج سهل من المأزق الراهن، لكنه سلّط الضوء على ما يعتبره السيناريو الأفضل: "رئيس انتقالي مؤقّت واستمرار ولاية مجلس الشعب سنتَين نحظى خلالهما بالمساحة السياسية والوقت الضروريَّين لإعداد الدستور". ولاحقاً أعلن المرشّح السابق للرئاسة محمد البرادعي والجمعية الوطنية للتغيير التي يرأسها عن مبادرة مماثلة. بموجب هذا السيناريو، وبعد العمل على كتابة الدستور خلال فترة انتقالية كافية تفسح المجال أمام نقاش عام وافٍ ومسهب، تجرى انتخابات من جديد لإعادة ضبط التحول الديمقراطي في مصر بالاستناد إلى ركيزة دستورية سليمة، ما يفضي إلى ولادة نظام جديد بعد حقبة النظام الإستبدادي السابق.

تحتاج مصر إلى دستور يتمتّع بالشرعية والقدرة على الاستمرار من أجل تخطّي الانتكاسات التي لا بد من مواجهتها في الطريق الطويل نحو ديمقراطية صحيحة وفعلية، والتخلّص من تقليد سياسي سلطوي حيث كانت القوانين تتعرّض لتلاعب وقح وعنيف بهدف قمع المعارضين. ومن هنا، سوف يشكّل تحدّي بناء إجماع حول الخطوط العريضة لهذا الإطار القانوني أساس عقد اجتماعي جديد في مصر بعد مبارك، وكي يصمد الدستور المصري الجديد أمام اختبار الزمن، لاتجوز كتابته بين ليلة وضحاها.

مارا رفكين هي المديرة المساعدة في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط في المجلس الأطلسي ورئيسة تحرير مدوّنة EgyptSource التي ترصد المرحلة الانتقالية في مصر. يستند هذا المقال إلى مقابلات أجريت الأسبوع الماضي في القاهرة مع خبراء قانونيين وشخصيات سياسية وأعضاء في السلطة القضائية.