يرفع الناشطون الصوت أكثر فأكثر للمطالبة بالإصلاح والحقوق في المملكة العربية السعودية، ولكل منهم تفسيره الخاص عن المسار الذي يجب سلوكه. تعبيراً عن رفض واقع الاستبداد المتنامي في المملكة، خرجت الحشود في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2012 لاستقبال الشيخ سليمان العلوان الذي أُفرِج عنه بعد تسع سنوات قضاها في السجن. يبدو ان استقلالية العلوان عن المؤسسة الدينية الرسمية إضافة الى حاجة التيارات الجهادية في الخارج الى فتوى سلفية سعودية كانت السبب وراء تنامي شهرة الشيخ "المتمكن فقهيا" داخل وخارج المملكة رغم ان شهرته لم تتجاوز حدودها المحلية قبل رأيه الجريء الذي ادى به الى الاعتقال والحرمان من ابسط حقوقه الانسانية والقانونية وتعرضه للأذى النفسي والاهمال الصحي خلال فترة سجنه التي قضاها بين المعتقلين السياسيين "الحائر" في الرياض و"الطَرْفية" في القصيم. كذلك، ظهرت مؤشرات للتغير في المجتمع السعودي، منها ارتفاع وتيرة النقد اللاذع المباشر للأمراء عبر شبكة "تويتر"، اضافة الى تنامي ظاهرة الاحتجاجات النسائية سواء المطالبة بإطلاق سراح سجناء الرأي أو حتى تحسين فرص العمل، اما التطور البارز فكان في موقف دعاة الإصلاح السعوديين-بما في ذلك اثنين من أصل أحد عشر مؤسس لـ "جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية" وهما د. عبدالله الحامد ود. محمد القحطاني-أمام المحكمة بعد اتهامهم بتعطيل التنمية، تهديد الاستقرار، الخروج على ولي الأمر، الطعن في أمانة هيئة كبار العلماء والقدح في القضاء السعودي. من جانبهم، صمدَ المتهمين على مواقفهم الحقوقية السلمية ومطالبهم بالإصلاح السياسي وبالملكية الدستورية، غير أنَّ محاكمتهم أدت إلى عدد من المواجهات.

وردا على سؤال أحد القضاة لـ "الحامد"، خلال الجلسة التي عقدت في 11 نوفمبر 2012 في الرياض، عن رأيه في شعار "الملك ولي أمرنا" (بحسب التفسير السعودي للآية القرآنية-يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ردّ المدعى عليه أن "الشعب ولي أمرنا" واصبحت عبارته فيما بعد شعارا للمجموعة التي تعتبر أن الحاكم "الملك" وكيلا عن الشعب الذي بيده الأمر ومن يخالف إرادة الشعب ومصلحته يعتبر خارجا على الأمة. واعتبر هذا تحديا لنموذج الحكم الملكي المطلق في المملكة العربية السعودية وللإجراءات الأمنية والدينية المشددة المعمول بها تاريخيا. 

ان الصيغة أو التركيبة التي صنعها التحالف، بين العنصر السياسي (ال سعود) والعنصر الديني (ال الشيخ)، وما افرزه من مصطلحات وأنظمة ومصالح تحولت تحت الضغوط إلى مسلمات فقهية وعقدية فُرضت على المجتمع ليسيطر من خلالها على سلوك وتفكير المواطنين لأكثر من قرن، يبدو انها لم تعد مقبولة الآن ولا تلبي حاجات المواطنين بل انها تنتقص من آدميتهم وحقوقهم. ولقد ثبت في ضمير شريحة كبيرة من المثقفين والحقوقيين والدعاة السعوديين أن هناك قراءات فقهية أخرى داخل المدرسة السلفية السائدة تنفي ما يدعيه الواقع من قدسية، ولذلك بدأت تتعالى الاصوات منذ عام 2004 حيث انطلقت فكرة الملكية الدستورية، مطالبة بإعادة صياغة العقد أو العلاقة بين الأسرة الحاكمة والشعب من حكم الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية جديدة تعتمد المشاركة والعدل والحرية. إلى ذلك، لطالما تبادل السعوديون في المجالس وعبر وسائل التواصل الاجتماعي النكات والعبارات الساخرة على مشعل بن عبد العزيز احد كبار ابناء مؤسس المملكة واتهامه بالاستيلاء على الاراضي واحاطتها بالأسلاك، ووصفوه بـ"امير الشبوك "؛ فيما يتعرض أيضاً احد الاعلاميين المحليين عبد العزيز قاسم الى موجات من التهكم والاستياء الشعبي في المجالس وعبر وسائل الاعلام، لأنه شبه في مقال (الوطن السعودية 5/11/2012) سجن "ذهبان" السياسي الذي زاره بالتنسيق مع السلطات الامنية بفندق خمس نجوم. هذا الواقع الجديد ليس وليد صدفة او ترف اجتماعي، بل يمثل حصاد عقود من القمع السياسي والكبت الاجتماعي . 

وبالعودة إلى الأمس القريب، نرى أن الجهد الرسمي اتجه ناحية التخفيف من مظاهر التدين والحد من نفوذ الإسلاميين في المؤسسات العامة، خاصة الإعلامية والتعليمية منها، وإشغال المجتمع بكل مكوناته في قضايا خارجية أو داخلية فرعية. وقد نجح أصحاب القرار السعودي خلال ثمانينات القرن الماضي في صرف الجهد والعقل الشعبي السعودي من مختلف الشرائح العلمية والدينية والثقافية ناحية الشرق حيث الخطر الشيوعي في افغانستان، والخطر الشيعي في ايران، وما تبقى من اصحاب الفكر والقلم كان مشغولا بمحاربة الخطر الغربي. اما الاخوان ومعهم بعض الحركيين من التيار السلفي فكانوا ينشطون بقوة لنصرة الجهاد الافغاني. وفي خضم هذه التجاذبات كان بعض أمراء الأسرة المالكة مشغولون في لندن بعقد صفقة سلاح بمليارات الدولارات، عرفت لاحقا بفضيحة اليمامة لضخامة ما دفع فيها من عمولات ورشاوى. كذلك انشغل آخرون منهم بتحصيل الأموال الطائلة من صفقات العقارات والأراضي التي حصل عليها مجانا أو ما يطلق عليها محليا "المنح الملكية" المخصصة للأمراء التي يتم بيع بعضها لاحقا على المواطنين. وفي حين مازال الأمراء يمتلكون مجموعات من الأراضي، لا يزال أكثر من 60 في المئة من المواطنين السعوديين، الذين لا يتجاوز تعدادهم 19.838 مليون مواطن (المؤشر الاحصائي لعام 2012- مصلحة الاحصاءات العامة - وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودي) يسكنون بالإيجار أو مع عائلاتهم فلا مال لديهم للشراء ولا يوجد أراضي متاحة مناسبة للبناء والسكن في بلد تتجاوز مساحته 2 مليون كم مربع. 

كما ساهم الوجود الأجنبي في السعودية في إثارة قضية الإصلاح وشحن الرأي العام السعودي ضد الفساد وهدر المال العام الذي تحول الى عرف رسمي في مؤسسات الدولة خاصة المتعلقة بصفقات الاسلحة، وكانت الاسئلة المطروحة في المجالس الخاصة وتجمعات الاكاديميين والمثقفين تتركز على اسباب الحاجة للقوات الاجنبية ويتساءلون اين جيشنا الذي صرفت الدولة على تسليحه وتدريبه المليارات؟ وفي ظل الحراك الشعبي الذي هيأ للربيع العربي ومازال يتوسع بحيويته ويتجاوز الحدود حتى كاد يحيط بالسعودية من كل الجهات يبرز اتجاهين في قضية الاصلاح السياسي مقابل ما يقدمه الحُكم من توجهات وقرارات ملكية تتناول القضايا الفرعية كما يعتبرها الحقوقيون (حسم) الذين يمثلون الاتجاه الاول الذي يتبنى الجهاد السلمي من الداخل بالدعوة الى صياغة جديدة لنظام الحكم السعودي من ملكية مطلقة الى ملكية دستورية بكل ما تعنيه من وجود دستور متفق عليه شعبيا وبرلمان منتخب والحد من تغول الامراء في المال العام، ومعهم في نفس الاتجاه يأتي تيار اسلامي عابر للحدود ويمثله محليا (حزب الامة) الذي ينادي بانتخاب رئيس للحكومة وبتداول السلطة، وقد تعرض مؤسسوه للاعتقال بعد ايام من اعلانهم بيان التأسيس في مارس 2011.

الاتجاه الثاني تنفرد به ( الحركة الاسلامية للإصلاح ) واصحاب هذا الاتجاه يرون ان الاصلاح مستحيل بوجود حكم آل سعود ولا سبيل للإصلاح الا بإزالة النظام الملكي من جذوره واقامة حكم شعبي منتخب ويتزعم هذا الاتجاه المعارض من الخارج الدكتور سعد الفقيه الذي ينطلق من قناعة سياسية ودينية بأن الاسرة الحاكمة غير قادرة على الاصلاح ولا تريده.

اصحاب خيار التغيير الجذري يعتمدون في موقفهم من الاصلاح على قراءة نفسية وتربوية لتاريخ وحاضر الأسرة الحاكمة التي يعتقد ابناؤها ان لهم الحق المطلق والحصري في كل السلطة وكل الثروة إلا ما يقررون هم الاستغناء عنه للشعب، بعض الامراء طالبوا بإجراء اصلاحات لتحقيق التوازن المالي والسياسي داخل الاسرة ولكنه ضل خاضعا لثقافة الحق المتوارث الذي عبر عنها الأمير طلال بن عبدالعزيز عندما شبه المملكة في اكثر من مناسبة اعلامية بالشركة وأن أبناء واحفاد المؤسس يمثلون اعضاء مجلس الإدارة، ومنها ما ذكره في لقاء مع قناة العربية "السعودية" (2009)، بينما الاصلاح السياسي الذي يريده الحقوقيون ودعاة الدولة المدنية مبني على قاعدتي العدل وولاية الشعب، ولأن تحقيق هذا الإصلاح يفقد الامراء اغلب امتيازاتهم المالية ونفوذهم السياسي والاجتماعي التي يتمتعون بها حاليا، لذلك لا يجرؤ أي ملك على تحقيق تلك المطالب الاصلاحية، هذا إن كان مقتنعا بها اصلا، لأنها ستنقل الازمة الى داخل الاسرة الحاكمة.

ابراهيم الهطلاني كاتب وباحث سعودي مقيم في جدة.