تدير الجالية الأرمنية في مصر اليوم دولة داخل الدولة. فهي تقدّم الخدمات لأفرادها في بلد تقتصر فيه الرعاية الاجتماعية إلى حد كبير على الإعانات الحكومية، وتحاول الحفاظ على هويتها من خلال شبكة من النوادي والمدارس والصحف والمنظمات الخيرية والكنائس. بيد أن أعداد الأرمن اليوم أقل بكثير مما كانت عليه في الخمسينيات عند بلوغها الذروة. تواجه المؤسسات الأرمنية في مصر اليوم تحدّي الحفاظ على اللحمة بين أبناء الجالية، مع شيوع الزواج من أشخاص غير أرمن، وانجذاب الشباب الأرمن أكثر فأكثر إلى الفرص في الخارج.

خلال الإبادة الأرمنية في العام 1915 والسنوات التي تلتها، جاء آلاف الأرمن إلى مصر - حيث أنشأت الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية، التي أسّستها في القاهرة مجموعة من الأرمن المصريين البارزين في العام 1906، مدرسة لأولاد اللاجئين، وقدّمت خدمات أخرى للإغاثة فضلاً عن الخدمات الاجتماعية والثقافية. أدّت الجمعية، في سنواتها الأولى، دوراً محورياً في الاعتناء بالوافدين الجدد ودمجهم في المجتمع الأرمني الأوسع. يشرح فيكين جيزمجيان، رئيس الجمعية في القاهرة منذ العام 2006: "لدى أرمن مصر تاريخ عريق في تنظيم أوضاعهم، وقد أنشأوا هذه المؤسسة كي تعمل على نطاق عالمي".

وعلى مر السنين، ساهم روح التضامن لدى أبناء الجالية الأرمنية، في الحفاظ على تنظّمها ووحدتها. يشرح جيزمجيان: "لدينا عدد كبير من المؤسسات، ومن المهم جداً بالنسبة إلينا الحفاظ على اللحمة بين الأرمن كي تحاول كل منظمة القيام بما عليها". يُنتخَب مجلس للجالية الأرمنية من 24 عضواً كل ثماني سنوات. وبدورهم ينتخبون هيئة تنفيذية كل أربع سنوات لإدارة مؤسسات البطريركية الأرمنية - بما في ذلك المدارس والكنائس والمدافن والعقارات والأوقاف الخيرية التابعة لها. اليوم، تكمِّل الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية-فرع مصر الخدمات الضئيلة التي تؤمّنها الدولة المصرية، عبر تقديم المنح التعليمية، والاعتناء بمنازل المتقدّمين في السن، وتوفير البرامج الطبية وتلك الخاصة بالتقاعد والرعاية الاجتماعية.

الأرمن في مصر هم مواطنون مصريون، يحملون بطاقات هوية مصرية، ويخدمون في الجيش، لكن نادراً مايشاركون في الشؤون السياسية المصرية. يعلّق جيزمجيان: "على النقيض من الأرمن في لبنان مثلاً، لانملك ممثّلين عنّا في مجلس النواب. لذلك قرار المشاركة في الحياة العامة المصرية هو قرار فردي يُتَّخذ على مستوى الأشخاص". بيد أن أعداد الأرمن في مصر تناقصت من الذروة مع 45000 أرمني في منتصف القرن العشرين إلى مابين 5000 و7000 أرمني، بحسب جيزمجيان. إبان برامج التأميم الاقتصادي التي طبّقها جمال عبد الناصر في الستينيات، غادر عدد كبير من الأرمن الذين كانوا يعملون لحسابهم الخاص ويملكون أعمالهم التجارية الخاصة، إلى أوروبا أو الولايات المتحدة - ولاتزال المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها مصر تدفع بالشباب إلى البحث عن فرص في الخارج.

حتى الآونة الأخيرة، كانت هناك ثلاث مدارس في القاهرة تستقبل أبناء الجالية الأرمنية، لكن في العام 2013، ونتيجة التراجع في أعداد الطلاب، اضطُرَّت المدرسة الأرمنية التاريخية في وسط القاهرة إلى إغلاق أبوابها والاندماج مع مدرسة مجاورة في مصر الجديدة. يحصل نحو 150 طالباً من صف الروضة حتى الصف الثاني عشر، على تعليم مجاني في مدرسة كالوسديان-نوباريان الأرمنية حيث تبلغ نسبة التخرج مئة في المئة، وهناك أعداد متزايدة من الطلاب الذين ينتمون إلى عائلات مصرية-أرمنية مع شيوع الزواج المختلط بين المصريين والأرمن.

لايزال معظم الأرمن في مصر يتكلّمون اللغة الأرمنية في الأعمال التجارية المملوكة من الأرمن، أو بين الطلاب في الاحتفالات والمراسم الكنسية، وتُعتبَر اللغة عاملاً أساسياً في الحفاظ على هويتهم. يقول جيزمجيان: "اللغة همٌّ أساسي بالنسبة إلينا نحن الأرمن في الشرق الأوسط، لهذا نقدّم أيضاً دروساً في اللغة الأرمنية في الكلية الافتراضية التابعة للجمعية الخيرية العمومية الأرمنية". لكن وسط القاهرة الذي كان يشكّل من قبل نواةً للحياة الأرمنية، لم يعد يضم الآن سوى عدد صغير من الأرمن المتقدّمين في السن في معظمهم، وحفنة قليلة من الأعمال التجارية الأرمنية. فقد انتقل الجزء الأكبر من الأرمن إلى أحياء مثل مصر الجديدة التي تحوّلت إلى محور للمنظمات الأرمنية. "لقد انتقل الأرمن مع انتقال مدينة القاهرة"، كما تقول المهندسة المعمارية، نايري هامبيكيان، التي تعمل في مجال الحفاظ على الآثار والتي أشرفت على ترميم كنيستين أرمنيتين في وسط القاهرة - الكاتدرائية الأرمنية الكاثوليكية المعروفة بكنيسة الانتقال والتي شُيِّدت في العام 1926، وتخدم مجموعة صغيرة إنما راسخة من الأرمن الكاثوليك في وسط العاصمة، والكاتدرائية الأرمنية الأرثوذكسية التي شُيِّدت في العام 1924 ولاتزال ترفع العلمَين المصري والأرمني جنباً إلى جنب في حي الفجالة التاريخي.

تضيف هامبيكيان: "الثورة جعلتنا نشعر بالانتماء إلى هذا المكان"، مشيرةً إلى أن النجاح يتوقّف، في عملها كمهندسة معمارية، على فريق من المصريين الذين يعملون معها. وتشدّد في هذا الصدد: "الانتماء إلى مجتمع معيّن امتياز، لكن يمكن أن يكون أيضاً بمثابة فقّاعة. لذلك علينا المشاركة في كل ماتمرّ به مصر، لا أن نختبئ بمعزل عن الأوضاع المحيطة بنا".

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.