لطالما وصفت السلطات المغربية مدينة طنجة، الواقعة في الشمال المهمَل تاريخياً، بأنها حكاية نجاح اقتصادية. بيد أن صعود المدينة من جديد على المستوى الاقتصادي يثير علامات استفهام عن مستقبل الاستراتيجية الإنمائية في المغرب التي تشكّل جزءاً من مخطط أوسع لتطبيق اللامركزية يُعرَف بـ"الجهوية المتقدمة"، والذي لم يُترجَم بعد إلى انتقال حقيقي للسلطة على المستويَين المحلي والمناطقي.

 

يشكّل الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده طنجة في هذه الأيام مصدراً للتفاؤل الرسمي الجامح. خلال العقد المنصرم، وبدعمٍ من العاهل المغربي، أمّنت الدولة أجواء مشجّعة أُطلِقت فيها مبادرات اقتصادية على نطاق واسع مثل مرفأ طنجة المتوسط الصناعي وبرنامج طنجة-متروبول الطموح للتجديد المديني. مشروع طنجة المتوسط الذي جرى الإعلان عنه في العام 2002 ثم تدشينه في العام 2007، عبارة عن مرفأ ومنشأة صناعيَّين الهدف منهما ربط المدينة بشركائها التجاريين في المتوسط. لقد استقطب الميناء شركات أجنبية كبرى منها "رينو" و"داسو" و"بومباردير". وقد رُبِطت محطة الركّاب في الميناء بشبكة السكة الحديد الوطنية وبإسبانيا بواسطة المراكب. وفي العام 2015، صُنِّف الميناء في المرتبة الـ16 بين الموانئ الأكثر ارتباطاً في العالم، ويواصل تقدّمه على هذا الصعيد. في العام 2013، أعلنت السلطات المغربية أيضاً عن برنامج طموح للتجديد المديني تحت مسمّى "طنجة-متروبول"، والذي يقوم على مضاعفة موازنة المدينة ثلاث مرات لتصل إلى 7.67 مليارات درهم على امتداد أربعة أعوام.

 

منذ ذلك الوقت، شهدت طنجة تحوّلاً مدينياً مذهلاً في فترة زمنية قصيرة. فالكورنيش، أو الواجهة البحرية التي ارتبط اسمها بالحانات السيئة السمعة والشباب المشاكسين الذين يتحرّشون بالنساء، خضعت لترميم واسع لاستقبال العائلات التي بات بإمكانها أن تتنزّه في الأمسيات في باحة واسعة ومضاءة جيداً. وقد ساهمت مواقف السيارات الجديدة تحت الأرض في التخفيف من زحمة السير الخانقة في طنجة. يحتوي مركز "سيتي مول" التجاري الذي شيّدته شركة الإنشاءات الإسبانية "إنفيرافانتي" وتم إطلاقه مؤخراً، على ماركات أجنبية، وسلاسل مطاعم للوجبات السريعة، وسينما عصرية، كما أنه مرتبط بأحد فنادق هيلتون، وهو شبيه بالمراكز التجارية التي نجدها في دبي أو أبو ظبي. لقد أحدثت السلطات، وأخيراً، تحولاً في المدينة، أو البلدة القديمة، لاستقطاب السياح الغربيين الراغبين في عيش تجربة مختلفة عن تلك التي تقدّمها مراكش الشديدة الاكتظاظ والتي تعاني من أوضاع مزرية.

 

بيد أن نظرة عن كثب إلى هذه المعطيات ترسم مشهداً متفاوتاً. يقول جو كولينوفيتش، الخبير في البنك الدولي، إن النمو في استحداث الوظائف في طنجة سجّل مستويات أعلى بثلاث مرات بالمقارنة مع باقي البلاد بين العامَين 2005 و2012، والفضل الأساسي يعود إلى الميناء الجديد. غير أن الأكاديمي المغربي زبير شطو وجد أن النمو الاقتصادي عاد بالفائدة على قوّة عاملة متنقّلة تتألف من مغتربين أو من مغاربة من مناطق أخرى (لا سيما في الوظائف ذات الرواتب المرتفعة التي تتطلب مهارات عالية). وكذلك، لم يكن للمرفأ الذي يقع في منطقة شبه ريفية على بعد 30 كلم من المدينة، تأثير إيجابي واسع على المناطق الريفية المحيطة بطنجة. يربط الأكاديميان سابين بلانيل وبيار-أرنو بارتل هذه الأنواع من "المشاريع المظهرية" بالرساميل الأجنبية. هذه المشاريع هي، في الجزء الأكبر منها، من تصميم شركات أجنبية، وتقوّض التزام الدولة بتنفيذ مشاريع "تشاركية ومتكاملة ومستدامة". فضلاً عن ذلك، المتاجر والمطاعم الراقية التي تبصر النور مؤخراً يقتصر روّادها على الطبقة الوسطى العليا أو السياح الدوليين، وتولّد شعوراً بالإحباط والانسلاخ عن المدينة.

 

على المستوى المحلي، تُحدث هذه المشاريع الجديدة تغييراً في علاقة السكّان بالمدينة، لا سيما عبر توسيع الفوارق المدينية. في الأعوام السابقة، ازداد عدد السكان في طنجة ليصل إلى نحو مليون نسمة، ما ألقى بضغوط على البنى التحتية العامة في المدينة وأدّى إلى تكاثر المساكن بطريقة عشوائية في ضواحي طنجة. وتحتل "مجموعة الضحى" الرائدة في التطوير العقاري في المغرب، الصدارة في هذا المجال من خلال عملها حالياً على تسع ورش بناء، لا سيما في ميدان المساكن الاجتماعية التي تشكّل 4400 وحدة سكنية جديدة من أصل 10000 في كل سنة. تعتمد هذه الطفرة في الإنشاءات على توقّعات مفرطة التفاؤل بأن الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده طنجة سوف يستمر، وبأن الطبقة الوسطى سوف تغادر المدينة – التي تكتسب طابعاً مهنياً أكثر فأكثر – وتنتقل نحو الضواحي. غير أن الانتقال إلى الضواحي تباطأت وتيرته، لا سيما على ضوء التقارير عن سوء نوعية المساكن، والوصول المحدود إلى البنى التحتية والخدمات العامة.

 

تسبّبت هذه التطورات أيضاً في تجدّد الإحباطات التي لطالما كانت تعتمل في الأحياء التي يقطنها أبناء الطبقة العاملة في طنجة الذين يشتكون من الإهمال الرسمي والعزلة المستمرة. يشتهر حي بني مكادة على وجه الخصوص بكثافته السكانية العالية، والفقر، وارتفاع معدل البطالة، كما أنه تحوّل مؤخراً إلى معقل لعدد من مجنّدي تنظيم الدولة الإسلامية الذين يقاتلون حالياً في سورية والعراق وليبيا. سكّان الحي الذين شاركوا في الحركة الاحتجاجية في العام 2011، تظاهروا من جديد في العام 2015 ضد شركة "أمنديس" الفرنسية التي تقوم بتوزيع الماء والتيار الكهربائي في المنطقة، وذلك احتجاجاً على تردّي نوعية الخدمات والزيادة الكبيرة في الأسعار. يلجأ سكّان حي بني مكادة، الذين يوصَفون بـ"القنبلة الموقوتة"، إلى الاحتجاجات بسبب حرمانهم المستمر من آليات المشاركة البديلة.

 

طالب سكّان المدينة، بما في ذلك سكان حي بني مكادة، بحوكمة أفضل، وإفساح مجال أكبر أمامهم للإفادة من الفرص الاقتصادية، وتحسين الخدمات العامة على المستوى المحلي. في تشرين الأول/أكتوبر 2015، أعلنت السلطات انطلاقاً من حي بني مكادة عن بادرة تهدئة بأمرٍ من الملك، عبر إطلاق سلسلة من المبادرات في مجالات المواصلات والصحة والتعليم.

 

الطريقة التي تم من خلالها الإعلان عن هذه المبادرات وتطبيقها تُسلّط الضوء على الممارسة القائمة على الاعتباطية في التعامل مع اللامركزية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. نظرياً، وكالة إنعاش وتنمية أقاليم الشمال مسؤولة عن التنمية الاقتصادية في المدينة، لكن غالباً ما يتم تهميشها. فالجهة الأكثر حضوراً في هذا المجال هي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تأسّست في العام 2005 لتأمين شبكة أمان من أجل مكافحة الفقر في الأرياف والمدن، ولتعزيز التعاون بين الدولة والمجتمع الأهلي. في الممارسة، ساهمت المبادرة في شكل أساسي في ترسيخ المحسوبيات المحلية بدلاً من تحسين الخدمات العامة في مختلف أنحاء البلاد، كما تقول الباحثة الأكاديمية في شؤون التنمية سيلفيا برغ. يُشار إلى أنه لم يُجرَ أي تقويم أو تدقيق عام في تأثير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في طنجة منذ العام 2010، ما يشي أن مبادرات التنمية الاجتماعية لا تزال تتركّز إلى حد كبير في العاصمة.

 

لا تزال المقاربة الإنمائية في طنجة والشمال تعتمد على التدخلات من الرباط، ما يطرح علامات استفهام حول الأساس الذي تقوم عليه خطة الجهوية المتقدمة. غالباً ما يبرّر الرأي العام هذه التدخلات بأنها "أكثر فعالية"، لكنها تتجاوز المؤسسات والأفرقاء المحليين. لقد خلص مجلس الدراسات الاقتصادية والاجتماعية إلى أن هناك "استياء" واسعاً لدى الأفرقاء المحليين وإحباطاً من النزعات المركزية المستمرة التي تعطّل الانتقال إلى لامركزية فعّالة. لا تزال السلطة السياسية المحلية في طنجة وسواها من المناطق في المغرب تعاني من محدودية شديدة: فعلى الرغم من انتخاب المرشح الإسلامي محمد البشير عبد اللاوي عمدة للمدينة في أيلول/سبتمبر 2015، وهو معروف بتركيزه على الشأن المحلي، إلا أن مبادراته لم تلقَ طريقها إلى التنفيذ بعد، وذلك خلافاً للتوسع المستمر لمشروع طنجة المتوسط. يعزّز ذلك الانطباع بأن نهضة طنجة تُدار في شكل أساسي من خارجها وعلى أيدي جهات غير محلية. غير أن الجهوية المتقدمة المستندة إلى أسس حقيقية تبقى مشروعاً راسخاً وقابلاً للتنفيذ من شأنه معالجة التحديات التي يمكن أن تواجهها البلاد في المستقبل.

إدريس جباري زميل أبحاث مابعد الدكتوراه في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية يُعنى بدراسة التغيير الاجتماعي والثقافي في شمال أفريقيا.