عشية الانتخابات النيابية والرئاسية المبكرة في 24 حزيران/يونيو الجاري، يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتّجه نحو تحقيق نصر جديد، حتى إن شعبيته المستمرة تخطّت حدود تركيا. المفاجأة الأكبر هي أن أردوغان تمكّن من الحفاظ على قدرته على استقطاب المؤيّدين في وجه السلطوية المتنامية في تركيا والتدهور السريع في سجل البلاد في حقوق الإنسان.

تسلّط دراسة أُجريَت مؤخراً بعض الضوء الملموس على الديناميكيات المتعددة التي هي في أساس الشعبية التي يتمتع بها أردوغان في المنطقة، مع ما يترتّب عن ذلك من تبعات لافتة على العلاقة بين الدين والسياسة.1 تُظهر بيانات الاستطلاع أنه لأردوغان شعبية قوية في شكل خاص لدى بعض شرائح السكان. فقد أبدى المجيبون الذين عرّفوا عن أنفسهم أيديولوجياً بأنهم إسلاميون، تأييدهم لاضطلاع القادة الدينيين بدور بارز في السياسة، واعتبروا أن الدين مهم في حياتهم، ومحضوا ثقتهم الأكبر لأردوغان كصاحب سلطة في الشؤون الدينية. على النقيض، كان المجيبون ذوو التحصيل الجامعي أو الذين يتخطى مدخولهم الشهري ألف دولار أميركي أقل ميلاً إلى الوثوق بأردوغان.

لقد تمكّن أردوغان من استقطاب المؤيّدين في مختلف أنحاء المنطقة عبر التركيز على سياسته الخارجية المستقلة وإدارته الاقتصادية والدينية الناجحة مع حفاظه على مظهر من مظاهر الديمقراطية الانتخابية.

لقد تمكّن أردوغان من استقطاب المؤيّدين في مختلف أنحاء المنطقة عبر التركيز على سياسته الخارجية المستقلة وإدارته الاقتصادية والدينية الناجحة مع حفاظه على مظهر من مظاهر الديمقراطية الانتخابية.

يقف عددٌ من العوامل خلف هذه الاستنتاجات. يعتبر كثرٌ أن جاذبية أردوغان كقائد تتجذّر في المجموعة الفريدة من المزايا التي يجسّدها. أولاً، يتباهى أردوغان بأداء اقتصادي ناجح على رأس الاقتصاد التركي، مع تسجيل زيادة في الدخل الوطني بمعدّل أكثر من ثلاثة أضعاف في عقد ونيّف. فقد كان إجمالي الناتج المحلي التركي 238 مليار دولار في العام 2002 عندما تسلّم حزب العدالة والتنمية دفة الحكومة. وفي العام 2016، وصل إجمالي الناتج المحلي الاسمي إلى 864 مليار دولار (أكثر من تريليونَي دولار بحسب تعادل القوة الشرائية). بالمثل، في حين بلغ الدخل الفردي 3660 دولاراً في العام 2002، ازداد إلى 10862 دولاراً في أواخر العام 2016. لقد ركّزت سياسات أردوغان الاقتصادية على تحسين البيئة الناظِمة للأعمال، وتعزيز الصادرات، وخفض معدل التضخم، واستقطاب الاستثمارات الخارجية. في هذا الصدد، قام أردوغان بأمرٍ لم يتمكّن عدد كبير من السياسيين من القيام به في الشرق الأوسط؛ فقد حقّق نتائج ملموسة في السياسات ساهمت في تحسين حياة الكثيرين.

الديانة هي أيضاً من الأسباب خلف شعبية أردوغان. تُظهر نتائج الاستطلاع أن السياسيين الذين يمزجون الخطاب الديني مع الخطاب السياسي يتمتعون بنسب تأييد كبيرة وهم موضع ثقة شديدة لدى الرأي العام، وذلك بمعدّلات تفوق التأييد والثقة الممنوحَين للسلطات الدينية التقليدية أو المسؤولين الدينيين الحكوميين. وأردوغان يُتقن هذه المهارة. هذا ما تؤكّده قدرته على كسب مستويات هائلة من الدعم من الأشخاص الذين أيّدوا اضطلاع القادة الدينيين بدور سياسي أكبر، وعرّفوا عن أنفسهم بأنهم إسلاميون. لا يُنظَر إلى أردوغان فقط بأنه شخصية سياسية بل أيضاً سياسية-دينية. ويتمتَّع بالصدقية عندما يتحدّث عن الدين.

في ما يتعلق بالدعم للحوكمة الديمقراطية والثقة بأردوغان، تُظهر البيانات علاقة مضطربة بين الأمرَين. فالمجيبون في الاستطلاع الذين لديهم موقف محايد من مسألة الديمقراطية يميلون أكثر إلى الوثوق بأردوغان، لكن مع ذلك، لا يُعتبَر الرابط على الإطلاق مهمّاً على الصعيد الإحصائي. وأحد الأسباب خلف هذه النتيجة المقاربة التي يعتمدها أردوغان في التعامل مع الديمقراطية عبر استخدامها وسيلةً لتحقيق غاياته. ففي حين يقول إنه ملتزم بالديمقراطية، ينحصر مفهومه عنها بديمقراطية محض أكثرية وانتخابية. على الرغم من تردّد السياسيين الإسلاميين في البداية في نظرتهم إلى السياسة الديمقراطية، إلا أنهم يعتبرون الآن الانتخابات الأداة القصوى للشرعية السياسية. لقد أظهر نجاح أردوغان في السياسة الانتخابية كيف تُستخدَم الانتخابات سلاحاً ليس فقط لتعزيز النفوذ إنما أيضاً للانقضاض على الخصوم في السياسة.

في حين ساهم أردوغان في تحسين السياسة الديمقراطية في سنواته العشر الأولى في السلطة عبر تعزيز حقوق المجموعات الإثنية والدينية وتأمين مساحة أكبر لحرية التعبير، إلا أنه مارس في السنوات اللاحقة إخضاعاً تدريجياً للعملية الديمقراطية مع البقاء ضمن المعايير الأساسية للديمقراطية الانتخابية. وهكذا تحوّل تصنيف تركيا من "حرّة جزئياً"، وفقاً لتقرير "الحرية في العالم" الصادر سنوياً عن "فريدوم هاوس"، إلى "غير حرة" في العام 2018. غير أن استمراره في ممارسة اللعبة الانتخابية (بدلاً من أن يحكم بأسلوب ديكتاتوري واضح) هو من العناصر الأساسية لشعبيته المتواصلة. على سبيل المثال، يعكس تصريح أدلى به مؤخراً ابراهيم محمود (من حزب المؤتمر الوطني برئاسة عمر البشير في السودان)، هذا الانطباع عن الديمقراطية والمنفعة التي تحققها للإسلاميين: "عندما بدأنا إصلاح منظومتنا السياسية في العام 2014 في إطار عملية السلام، بحثنا عن نماذج جديدة للاقتداء بها في حزب المؤتمر الوطني... ومنها حزب العدالة والتنمية لأنه يمتلك إطاراً مرجعياً إسلامياً وديمقراطياً على السواء".

أخيراً، يساهم المسار "المستقل" الذي يسلكه أردوغان في السياسة الخارجية، والذي يتنقّل بسلاسة بين المواقف المؤيّدة للغرب وتلك المناهضة له، في تعزيز صورة الرجل القوي. فقد انطبعت بدايات أردوغان في السلطة، في جوانب مهمّة، بموقفٍ مؤيّد بشدّة للغرب، وبتبنّي عملية العضوية في الاتحاد الأوروبي، وبالعلاقات الوطيدة مع الولايات المتحدة، ومرحلة من العلاقات الودّية مع إسرائيل. على النقيض، ينطبع الماضي التركي القريب بانعطافة حادّة في العلاقات مع الغرب، حتى إن العلاقات المتشنّجة أثارت في بعض الأحيان احتمال اندلاع نزاع مسلّح مع الولايات المتحدة في سورية. عندما يتحدّث أردوغان عن "النفاق" الأميركي أو الإسرائيلي أو الهولندي أو الألماني، يلقى كلامه أصداء لدى أبناء المنطقة الذين يرون فيه تحدّياً للمعاملة الغربية المجحفة بحق الشرق الأوسط أو المسلمين. ولا يهمّ بالنسبة إليهم أن هذا الموقف المناهض بشدّة للغرب لا ينبثق من تغيير ملموس في السياسات.

يُثبت أردوغان، عبر التحوّل بعيداً من الخطاب التركي الخاضِع تاريخياً والموجَّه نحو الغرب في مجال السياسة الخارجية، أنه قادر على الحفاظ على سياسة خارجية مستقلة وناشطة – وهو عنصر بلاغي مرغوب للغاية في العقيدة الإسلامية المتشدّدة. ففي المنطق الدائري، أيّ ردّ سلبي على خطاب أردوغان المناهض للغرب من جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، يُصنَّف تلقائياً في خانة الثأر من القوة والتأثير المتناميَين لعملية صناعة السياسات المستقلة التي ينتهجها أردوغان وبلاده، ما يُقدّم الإثبات على أن أردوغان مستقل بكل ما للكلمة من معنى. لا يساهم هذا الموقف المناوئ للغرب في تعزيز الأفضلية التي يتمتع بها أردوغان في المنطقة وحسب، بل يُقدّم أيضاً مثالاً ممتازاً يُظهر كيف أن حشد المشاعر الشعبية المناهضة للغرب يمكن أن يكون مورداً سياسياً، وفق ما يُظهره الخلاف الأخير على خلفية نقل السفارة الأميركية إلى القدس. فعندما افتتحت الولايات المتحدة سفارتها الجديدة في القدس في 14 أيار/مايو 2018، كان أردوغان من أوائل القادة الذين بادروا في المنطقة إلى استنكار الخطوة وطرد كبار الدبلوماسيين الإسرائيليين، بهدف استقطاب أصوات القوميين والمسلمين عشية منافسة انتخابية محتدمة في تركيا.

على ضوء هذه الديناميكيات، تحمل سياسة أردوغان دروساً براغماتية للسياسيين الإسلاميين وغير الإسلاميين على السواء. فبعيداً من الدور الواضح الذي يؤدّيه الدين في تعزيز الدعم الشعبي، يستمدّ أردوغان نجاحه في كسب شعبية واسعة في مختلف أنحاء المنطقة، من النمو الاقتصادي الذي حققته تركيا، ومن حفاظه على الديمقراطية الانتخابية، ووقوفه في وجه الغرب. ففي منطقة تحاصرها التحدّيات الديمقراطية والاقتصادية والتدخّلات الخارجية، تُقدّم قيادة أردوغان القوية منصّة متعدّدة الوجوه تحمل وعوداً كبيرة.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

قدير يلدريم زميل متخصص في شؤون الشرق الأوسط في معهد بايكر للسياسة العامة في جامعة رايس، يركّز على الدين والسياسة وعلى السياسة في الشرق الأوسط. لمتابعته عبر تويتر akyildirim@


1. في الدراسة التي أجراها معهد بايكر للسياسة العامة بتمويل من مؤسسة هنري لوس، قمنا باستطلاع شمل أكثر من 14000 مجيب في 11 بلداً في المنطقة بغية تحليل الديناميكيات السياسية والاجتماعية للسياسة الدينية، ووضع خريطة عن السلطة الإسلامية في الشرق الأوسط. أجري الاستطلاع عبر الإنترنت مع سكّان البلدان الـ11 من المنتمين إلى الفئة العمرية 18 وما فوق.