يشعر قطاع واسع من الناخبين الإيرانيين أن الانتخابات الرئاسية الثالثة عشر لم تكن إلا عملية تزوير ممنهجة محسومة النتائج. وقد تأصل هذا الشعور بعد ماشهده الناخب الإيراني من عمليات إقصاء صادمة قام بها مجلس صيانة الدستور، المسئول عن اختيار المرشحين، الذي استبقى سبعةَ مرشحين فقط من أصل 592 متقدم. ومن بين جميع المرشحين الذين اعتمدهم المجلس كان رجل الدين المتشدد ورئيس السلطة القضائية الإيرانية إبراهيم رئيسي، الذي يتمتع بتأييد المرشد الأعلى علي خامنئي، أوفر المرشحين حظاً للفوز بهذه الانتخابات.

وبالفعل نجح رئيسي، المدرج على قوائم العقوبات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بسبب اتهامه بارتكاب انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، في الفوز بهذا الاستحقاق الانتخابي ليصبح الرئيس الجديد لإيران بعد حصوله على 62 في المئة من أصوات الناخبين متقدماً على منافسيه بفارق كبير.

وعلى الرغم من هذا فقد سجلت السلطات الانتخابية إقبالاً ضعيفاً على التصويت بنسبة لا تتجاوز 48 في المئة، وهي نسبة تعتبر الأكثر تدنياً على الإطلاق منذ انتخابات عام 1980. ويمثل هذا الإقبال المتواضع ضربة قاصمة لشرعية وجماهيرية النظام الذي طالما أولى قادته، منذ عام 1979، الكثير من الأهمية لإقبال الناخبين على صناديق الاقتراع سواء في الانتخابات التشريعية أو الانتخابات الرئاسية واعتبروه دلالة على ما يحظون به من دعم شعبي.

وتتباين الأسباب التي أدت بالإيرانيين لمقاطعة الانتخابات بين عدم الاهتمام واللامبالاة والاستسلام، وهي أسباب ألقت بظلالها على العملية الانتخابية خاصة أن النظام لم يبالِ هذه المرة بمنح الناخبين، ولو صورياً، اختياراً حقيقياً بين المتنافسين. ويعاني معظم الإيرانيون من الأزمة الأقتصادية الطاحنة التي تعصف بالبلاد ويجاهدون يومياً للحفاظ على وجودهم، ويشعرون بأن الرئيس حسن روحاني، زعيم المعتدلين، قد خيب أملهم عندما فشل في تنفيذ وعده بإصلاح الاقتصاد على الرغم من الاتفاق النووي مع الغرب.

ولا تراود الإيرانيون الآن أي أوهام بأن النظام قد يسعى للإصلاح أو قد ينفتح سياسياً. وكيف لهم أن يأملو في هذا وبالكاد مرت بضعة أعوام على القمع الوحشي لاضطرابات 2018 و 2019 الذي أمر به متشددو النظام؟

وبالرغم من الفوز المتوقع الذي حققه رئيسي، تظل الانتخابات الرئاسية علامةً فارقةً ومؤشراً هاماً على التغيير التاريخي المتوقع والوشيك في الجمهورية الإسلامية. فهذه هي المرة الأولى التي يسيطر فيها المتشددون على جميع الهيئات المنتخبة وغير المنتخبة في البلاد مما يمكنهم من تحقيق جميع أهدافهم السياسية سواء محلياً أو خارجياً بدون أي احتكاكات أو معارضات  سواء من المعتدلين أو من القوى الإصلاحية. لقد أدرك خامنئي أن الديموقراطيات الغربية قد كشفت القناع الخادع الذي تتوارى وراءه الديموقراطية الإيرانية المهجّنة بمؤسساتها الجمهورية والدينية وبالتالي لم يجد غضاضة في نزع القناع الديموقراطي والإسفار عن وجهه الحقيقي.

ولنا أن نتساءل عمّا حدا بخامنئي لدعم رئيسي الذي من المرجح أن يؤدي اختياره إلى تدمير ما تبقى من صورة إيران المتضررة أصلاً؟ يبدو أن العامل الحاسم هو رغبة الزعيم الثوري، البالغ من العمر 82 عاماً والذي يعاني من تردي حالته الصحية، في الحفاظ على إرث الثورة الإسلامية سواءً على صعيد السياسات المحلية أم الخارجية فضلاً عن تأمين موقع أسرته من السلطة بعد وفاته.

وينفرد رئيسي بأربع صفاتٍ مميزة تجعله المرشح المثالي لأداء تلك المهمة، ألا وهي هدوء الأعصاب، ورفض التنازلات، والولاء، والجدراة. وجميعها صفات تبدّت أثناء ارتقاءه السلم القضائي مخلّفاً وراءه أنهاراً من الدماء منذ عام 1979 .  وعلى مدار أربعين عاماً تنقل فيها بين مناصب عديدة اكتسب رئيسي سمعته كبيروقراطي متحجر المشاعر، مخلصاً كل الإخلاص، لقيادة الدولة وللثورة الإسلامية بحيث لا يجد غضاضة في تنفيذ أحكام الإعدام باسمها. وتمثل ذلك في تموز/يوليو من عام 1988 عندما وضع الزعيم الثوري آنذاك روح الله الخميني رئيسي في لجنة رباعية من القضاة الدينيين أصدرت أحكاماً بالإعدام على ما يتراوح بين 3900 و5000 سجين يساري معارض تنفيذاً لمذكرتي إعدام أصدرهما الخميني.

من الواضح أن خامنئي يستشرف زخماً من الثورات الاجتماعية التي قد تهدد وجود النظام في المستقبل. وبالطبع فإن إخماد هذه الانتفاضات المتوقعة يتطلب تعاوناً سلسلاً بين أجهزة القمع تحت إشراف رئيسٍ لا يرحم، وهذا دور لا يقدر عليه سوى رجل واحد هو إبراهيم رئيسي الذي يلتزم في تعاملاته الخارجية والأمنية التزاماً صارماً بالمنهج التصادمي الذي يتبناه خامنئي خاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي.

ومن العوامل الهامة أيضاً أن منصب الرئاسة يعتبر خطوة لشغل منصب المرشد في إيران، وبالتالي قد يصبح رئيسي خليفة خامنئي في المستقبل. ووفقاً لمطّلعين من ممثلي المعارضة الديموقراطيين في المنفى مثل حسن شريعتمداري، الأمين العام للمجلس الانتقالي الإيراني في برلين، فإن رئيسي يتمتع بجميع الصفات التي يتطلع إليها خامنئي في خليفته، فهو مخلص وجدير بالثقة ويشهد بذلك تاريخه في مشهد. فمن بين كافة تحالفات القوى السياسية والاقتصادية في إيران يضع خامنئي جُلّ ثقته في تحالف مشهد الذي يتمركز حول إمام المدينة وخطيب جمعتها السيد آية الله أحمد علم الهدى والد زوجة رئيسي. وخامنئي نفسه كمشهدي تربطه بهذه الدائرة علاقات عائلية ومالية واقتصادية وثيقة منذ 1979. وقد أسند خامنئي إلى رئيسي مناصب حساسة وهامة منذ عام 2005 أهمها إشرافه على مؤسسة العتبة الرضوية في مشهد وهي من أغنى المؤسسات الدينية في إيران.

وقد ظهر رئيسي بوصفه أحد أبرز المرشحين الواعدين لخلافة خامنئي منذ 2017. والآن، بعد انتخابه رئيساً للبلاد، سيكون في أفضل وضع ليخلف المرشد الأعلى في حال استقالته أو وفاته. ينص الدستور على أن يتولى السلطة مجلس انتقالي يتكون من رئيس الجمهورية ورئيس السلطة القضائية وممثل ديني عن مجلس الأوصياء لمدة أربعين يوماً حتى يوافق مجلس خبراء القيادة على اختيار خليفة مناسب. وتوفر هذه الاجراءات لرئيسي كل ما يحتاجه من وقت لحشد دعم قادة الحرس الثوري ومجلس خبراء القيادة بما يضمن ترشيحه.

وبحسب شريعتمداري فإن تفضيل خامنئي لرئيسي يشير إلى حقيقة واحدة لا خلاف عليها وهي أن خامنئي قد تخلى عن مخططاته لإعداد ابنه الطموح مجتبى ليخلفه كقائد ثوري. وتدل جميع المؤشرات على أن الثقة بين خامنئي ورئيسي كبيرة بما يكفي ليتوصلا معاً إلى اتفاق سري يقتضي أن يمهد خامنئي لرئيسي الطريق إلى عرش الخلافة في مقابل ضمانات يقدمها رئيسي بعدم المساس بثروة عائلة خامنئي ولا بمكانة مجتبى. وحيث أن خامنئي هو رجل الاستراتيجيات الذكية والحكيمة فإن هذا الاتفاق سيجنبه ما يعرفه جيداً عن عواقب تغيير الحكام في الديكتاتوريات العتيدة الذي غالباً ما يؤدي إلى صراعات مريرة وتصفية حسابات دموية.

 

ويلفريد بوشتا يحمل درجة الدكتوراة في دراسات الشرق الأوسط من جامعة بون وهو باحث وصحفي مستقل،يعيش في برلين، ومتخصص في إيران والعراق.  له دراسة هامة بعنوان "من يحكم إيران؟ بُنية السلطة في الجمهورية الإسلامية". أطلق مؤخراً موقعاً إلكترونياً ثنائي اللغة ( الانجليزية والألمانية) يتضمن تحليلات  للشؤون الإيرانية والشرق أوسطية.