ماذا حدث؟
أصدر صندوق النقد الدولي في 10 كانون الثاني/يناير 2023 تقريرًا يوضّح فيه الالتزامات التي قطعتها الحكومة المصرية على نفسها مقابل الحصول على قرض جديد من الصندوق قيمته حوالى 3 مليارات دولار، هو الرابع الذي حصلت عليه مصر منذ العام 2016. وعلى الرغم من إعلان الاتفاق الأولي في27 تشرين الأول/أكتوبر 2022، فقد استغرقت المباحثات لتحديد نطاقه الكامل عشرة أشهر. النتيجة مثيرة. فبحسب صندوق النقد، يشمل الاتفاق على "رزمة سياسات شاملة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العام، وإحياء مخفّفات الصدمات، وتمهيد الطريق أمام النمو الشامل الذي يقوده القطاع الخاص". يركّز حيّز كبير من ذلك على تحقيق "انتقال قابل للبقاء نحو نظام مرن لتبادل العملة، وسياسة نقدية تهدف إلى تخفيض التضخم تدريجيًا، وتوحيد المالية لضمان مسارٍ تنازلي للدين العام، مع تعزيز نظام الحماية الاجتماعي للمُعَرّضين". وعلى الرغم من أهمية هذه المسائل، فإن جزءًا من هذا الخطاب هو نمطي، بينما معالجة أزمة العملة المحتدمة في مصر لم تعد بجديدة.
بل أن الملفت في الموضوع هو ذهاب الاتفاق الأخير إلى أبعد من ذلك في وضع "الإصلاحات البنيوية الواسعة النطاق"، وتقليص "بصمة الدولة" في الاقتصاد، وتعزيز "الحوكمة والشفافية" في الصدارة. يتّسم هذا الأمر بالأهمية لأنه يعني بالتأكيد أن الصندوق ألقى بكل ثقله لكي يضفي إحساسًا أكبر بالحاجة الملحّة لدى السلطات المصرية — التي تُكثر التصريحات الرسمية من دون أن تؤدي إلى نتائج ملموسة حتى الآن— بخصوص إعادة تنشيط القطاع العام وقطاع الأعمال العام الضخمَين، أكان ذلك من خلال إعادة هيكلتهما أم بيع الحصص فيهما إلى مستثمري القطاع الخاص، وبخصوص "تسوية الملعب" تسهيلًا للنمو الذي يقوده القطاع الخاص.
وفي انعكاس لهذا التوجه، يستند الاتفاق الأخير إلى وثيقة "سياسة ملكية الدولة" التي أطلقت الحكومة مسودّتها الأولى في حزيران/يونيو الفائت، والتي وعدت فيها بـ"تخارج" الدولة كليًا من عدد قد يصل إلى79 من القطاعات الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في 45 قطاعًا آخر، مع زيادة دور الدولة في بضع عشرات من القطاعات الأخرى. ربما كانت الحكومة تقوم بحركة مسرحية فحسب بغية الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وثمة شكوك حول الجدوى الفعلية للسياسة. فقد لاحظ نائب رئيس الوزراء السابق، زياد بهاء الدين، أنه سبق تبنّي غالبية الآليات المطروحة لتحقيق غايات السياسة رسميًا في مراحل عدّة، من دون أثرٍ ملحوظ. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد نُسِجت إشارات كثيرة إلى تلك السياسة في نص الاتفاق الأخير مع صندوق النقد، ما يُصَعِّب على مصر التلكؤ بشكل ظاهر كثيرًا. هذا، وليس من قبيل الصدفة أن قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالمصادقة رسميًا على سياسة ملكية الدولة في 29 كانون الأول/ديسمبر الفائت، أي عشية إصدار الصندوق الاتفاق. بل ويشير الاتفاق صراحةً إلى مصادقته، ويشير بشكلٍ مقصود إلى تلك السياسة باعتبارها "المقياس الهيكلي" للتقدم.
أين تكمن أهمية المسألة؟
على الرغم من أهمية الإطار العام المعروض أعلاه، فإن المسألة الاستثنائية هي شموله الشركات العسكرية المصرية. يناقض ذلك الانطباع الأولي عند مراجعة إعلان اتفاق القرض في تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بأن الصندوق كان قد تراجع عن إلقاء ثقله لوضع هذه الشركات على أجندة الحوار مع السلطات المصرية.
على العكس من ذلك، التزمت الحكومة المصرية في "مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية" التي سلّمتها إلى صندوق النقد، وهي ملحقة بالاتفاق، بتوضيح "تعريف الدولة" في وثيقة "سياسة ملكية الدولة" وبـ"العرض صراحةً أنه [أي التعريف] يشمل جميع الشركات المملوكة كليًا أو جزئيًا من قبل هيئة متصلة بالدولة، بغض النظر عن الإطار المؤسسي الذي أُنشئت الشركة بموجبه". ولدرء الإبهام أو الالتباس، تعدّد المذكرة الشركات العسكرية تحديدًا في عداد شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والهيئات الاقتصادية، والشركات المشتركة والشراكات المشمولة في هذا التعريف.
ثم تلقي المذكرة المزيد من الضوء على مغزى هذه الالتزامات. فمن جهة أولى، تعد المذكرة بتقليص الإعفاءات الكثيرة التي تضفي الأفضليات والامتيازات على الشركات المملوكة للدولة في منافستها القطاع الخاص في السوق وتمنع تسوية الملعب، وهو أمر لطالما أثار امتعاض القطاع الخاص والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد. ولقد استفادت الشركات العسكرية من إعفاءات فاقت إلى حد بعيد ما تتمتع به شركات وهيئات الدولة الأخرى، ومنها الإعفاء من ضريبة الدخل والضريبة العقارية وغيرهما، وضريبة القيمة المضافة، الرسوم الجمركية، والرسوم الإدارية المتنوعة، وسقوف معدلات تبادل العملة الصعبة، ورسوم النقل، وغيرها. ولكن تعد المذكرة بِـ"إزاحة كافة إعفاءات الشركات المملوكة للدولة" عن الشركات العسكرية كذلك.
لا يقل أهمية شمول الشركات العسكرية ضمن قائمة الشركات والهيئات الحكومية التي يترتب عليها إصدار "تقريرٍ سنوي شامل للنفقات الضريبية، بما في ذلك تفاصيل وتقديرات الإعفاءات والمنح الضريبية المفصّلة حسب التصنيف." إن هذه واحدة من اجراءات كثيرة موعودة تتصل بالإدارة المالية للهيئات الحكومية وبحوكمتها. فيجب على الشركات العسكرية مثل غيرها، بالتالي، أن تسلّم حساباتها المالية كل ستة أشهر إلى وزارة المالية، التي ستقوم بدورها بـ"تأمين حرية الحصول على هذه البيانات إلى جانب المعلومات عن كمّ الدعم الذي تتلقّاه النشاطات التجارية وغير التجارية للشركات المملوكة للدولة". وسيترتب على الشركات العسكرية، كذلك، اعتماد عقود التوظيف المستندة إلى الأداء والأهداف العملياتية والمالية للمساعدة في تقييم الأداء وفي الخضوع إلى الإشراف المركزي. ومن شأن هذا أيضًا أن يمنع قيام أي مؤسسة بالإشراف، في وقت واحد، على هيئات تنظيم السوق وعلى الشركات التي تخضع لتلك الهيئات.
كذلك، تعد الحكومة المصرية بتحسين الإجراءات الجمركية ومشاركة المعلومات مع القطاع الخاص، ما يعني بالضرورة تقييد الشركات العسكرية المتمتعة بالتسهيلات الرسمية وغير الرسمية في تخليص وارداتها، أم إعاقة واردات منافسيها المدنيين. أما الأمر المثير حقًا، لو تم تنفيذه، فهو خطة ترشيد تخصيص أراضي الدولة لاستخدامات الجهات المدنية، العامة والخاصة على حدٍّ سواء، والذي تسيطر عليه وزارة الدفاع. وتعد المذكرة أيضًا بإرغام "كبار المسؤولين في جميع الشركات المملوكة للدولة" على تسليم كشوفات بأصولهم الشخصية وبالتصريح عن مدى التزامهم بهذا الواجب. وسيخضع المدراء إلى عقود عمل تستند إلى الأداء، وأعضاء مجالس الإدارة إلى إجراءات شفافة لاختيارهم وإلى توجيهات واضحة تحدّد مؤهلاتهم المطلوبة ورواتبهم ومكافآتهم. آخراً وليس أخيرًا، ينبغي تحويل ما بين 25 و100 في المئة من عائدات بيع الأسهم في الشركات، كل بحسب تصنيفه القانوني، إلى وزارة المالية أم موازنة الدولة العامة.
ما المضاعفات على المستقبل؟
مجرّد قبول الحكومة المصرية بإدراج الشركات العسكرية رسميًا تحت سقف اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، بل وبإخضاعهم إلى القواعد الضريبية وقواعد الإبلاغ المالي نفسها التي تنطبق على نظيراتها المدنية، هو أمر يخطف الأنفاس. ولكنه قد لا يتجاوز كونه نسيجًا من الخيال. فتدل مراجعة لتوسع النشاط التجاري العسكري منذ حزيران/يونيو الفائت فحسب، على سبيل المثال لا الحصر، على أن الشركات والهيئات العسكرية لم تتأخر في نقض وعد الحكومة بأن "تأسيس الشركات الجديدة المملوكة للدولة ينبغي أن يستند بصورة شفافة إلى سياسة ملكية الدولة". مسألة أخرى ستولّد دفعًا عسكريًا معاكسًا بالتأكيد هو تشديد صندوق النقد على ضرورة الإفصاح الصحيح عن الديون والمستحقات. فيلحظ تقرير الصندوق عجزه عن تقدير الاستحقاقات المترتبة على آلاف الصناديق "الخاصة" التي يحتفظ بها الكثير من هيئات الدولة، والتي لا بد من شمولها في الإفصاح عاجلًا أم آجلًا، ولكن تتمسّك الهيئات العسكرية بصناديقها الخاصة وبسريّتها بشدة بالغة للغاية.
يُضاف إلى ما سبق أن المقاومة العسكرية هي بالتأكيد السبب الرئيس في التأخير المستمر في تعويم الشركات العسكرية من خلال البورصة المصرية أم بيع أسهمها من خلال صندوق الثروة السيادي المصري. ويخالف ذلك تبنّي السيسي المتكرر والعلني لهذا الخيار منذ العام 2018 (إن لم يكن منذ العام 2016)، والإعلان منذ ثلاث سنوات عن البدء بتحضير عرض عشر شركات عسكرية في السوق، وتصريحات حكومية رسمية بقرب عرض شركتَي "الوطنية" لمحطات الوقود و"صافي" للمياه المعدنية على رأس القائمة. ولقد قيل الكثير عن اهتمام المستثمرين "الاستراتيجيين" الخليجيين بشراء "الوطنية"، ولكن يظهر أنه يتم تجريد أصولها لصالح شركة "تشيل آوت" الشائعة في كل مكان، التي تستبدل محطات "الوطنية" بمجمعات بيع الوقود والخدمات والمأكولات وغيرها، ومن شأن ذلك تقليل جاذبية "الوطنية" للمستثمرين الخليجيين. وإلى جانب معارضتها فقدان السيطرة على أصولها الاقتصادية، تعارض الجهات العسكرية كذلك التقيّد بمدى الإفصاح المالي الذي سيترتب بالضرورة على عرض أسهمها للبيع، ولو البيع الجزئي.
بل والمعروف أن المؤسسة العسكرية تعارض بيع أيٍّ من أصول الدولة عمومًا، وليس فقط أصولها هي. ويساعد هذا في فهم اعتراض البرلمانيين علنًا، والكثير منهم قام جهازا الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة بانتقائهم أصلًا، على خطة الحكومة لخصخصة الشركات والأصول الأخرى التابعة لهيئة قناة السويس، والتي تنظر إليها المؤسسة العسكرية على أنها منطقة اقتصادية حصرية خاصة بها. من المحتمل أن تعرقل مشاعر الريبة العسكرية محاولات الرئيس والحكومة جذب استثمارات إماراتية أضخم، بشكل خاص، حيث تشكّل منطقة قناة السويس المصلحة التجارية والاستراتيجية الحقيقية الأوحد للإمارات في مصر.
عدا المقاومة العسكرية، تدل التجارب الماضية على أرجحية أن تستغل الحكومة أيضًا كل منفذ ومهرب لتؤخر تنفيذ بنود اتفاقها مع صندوق النقد، وأن تماطل ما تستطيع في جميع المجالات. والمُلفت أن لا الرئاسة ولا الحكومة قد قامت بالتمهيد السياسي المُكثّف اللازم لإقناع مختلف الأطراف المحلية بتمرير المشروع الواسع النطاق والبعيد الآثار الذي تمثّله سياسة ملكية الدولة الجديدة. سوف يتعرّض الاتفاق مع الصندوق إلى التأخير والتخفيف المتكرر، ما قد يجعله طموحًا أكثر منه واقعًا.
يتضح ما سبق في مجال حيوي للغاية، ألا وهو ضمان أن تتسم المشتريات العامة (للسلع والخدمات) بِـ"التنافسية وعدم التمييز والشفافية"، كما يسعى صندوق النقد. لكن قيام مذكرة الحكومة بمنحها هامشًا لـ"توضيح الشروط التي تبرّر اللجوء إلى التعاقد المباشر بين الهيئات العامة بموجب القانون رقم 182 المتعلق بالعطاءات العامة" يترك الباب مفتوحًا لاستمرار تمتع المؤسسة العسكرية بالسلطة المُربِحة للحصول على العقود ولمنحها على أساس غير تنافسي. قد يصعب على صندوق النقد الدولي معالجة هذه العقبة في الوقت الحالي، ولكن كما شرحتُ في "إلقاء قفاز التحدي: ما يمكن أن يفعله صندوق النقد الدولي بشأن الشركات العسكرية المصرية"، ينبغي تعديل الأطر القانونية والتنظيمية التي تمكّن الشركات العسكرية والهيئات العسكرية الأخرى الناشطة اقتصاديًا، لتكون هناك فرصة حقيقية لإلزامها بالتعهدات التي قطعتها الحكومة المصرية على نفسها.