هل يمكن إصلاح السلطة الفلسطينية؟ يتمحور الكثير من خطط "اليوم التالي" في الأراضي الفلسطينية، التي طرحتها مجموعةٌ من الجهات الفاعلة الرسمية وغير الرسمية على المستويَين العالمي والإقليمي، حول "يوم تالٍ" في غزة يتضمّن سلطةً فلسطينيةً أُخضِعَت لإصلاحات أو أُعيد تنشيطها.
يُشار إلى أن شعار "الإصلاح" يكاد يكون قديمًا بقدم السلطة الفلسطينية نفسها. فحينما كنت طالبًا في السياسات الفلسطينية، بدأتُ أكتب عن الموضوع منذ ربع قرن، وحتى آنذاك كنت أخوض في ميدانٍ سبقني إليه آخرون كثر. كان المقصود من إصلاح السلطة الفلسطينية واضحًا إلى حدّ كبير لفترة طويلة، وكان ثمّة قدرٌ من الإجماع بين مختلف الأطراف المعنيّة حول ما يعنيه هذا الإصلاح. لكن الإجماع هذا تبخّر منذ زمن.
قد تطرأ تغييراتٌ على السلطة الفلسطينية، ولكن من المستبعد أن يحدث ما يستحقّ وصفه بـ"الإصلاح". فالمشكلة لا تكمن فحسب في أن المُنادين بالإصلاح يعطون هذه الكلمة معانيَ مختلفة، بل في أن هذه المعاني متناقضةٌ تمامًا. وهذا يعني أن أيّ تحرّك نحو مفهومٍ واحدٍ لـ"الإصلاح" سيلقى صدًّا من طرف نافذ يرغب في التحرّك في الاتجاه المعاكس. وحتى لو جرى تجاوز هذه الاختلافات، ففي نظر طرفٍ مهمٍّ واحد، تحديدًا القيادة السياسية الإسرائيلية الحالية، سيكون التغيير الإيجابي الوحيد في السلطة الفلسطينية زوالها عن الوجود.
أما في نظر الفلسطينيين، فتُقيَّم السلطة الفلسطينية عمومًا استنادًا إلى الصورة التي يقدّمها بها قادتها الحاليون، أي هيئة مؤقّتة صُمّمَت للسماح للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة بحكم أنفسهم، وتمهيد الطريق أمام قيام دولة فلسطينية. ومع ذلك، من الصعب إيجاد أحد، حتى ضمن الصفوف العليا للقيادة الفلسطينية، يعتقد أن هذا ما تمكّنت السلطة من إنجازه. الواقع أن انتقاد السلطة الفلسطينية بدأ باكرًا لأسبابٍ لم تقتصر على فشل الدبلوماسية وبناء المؤسسات في إقامة الدولة، إذ أدانها كثرٌ أيضًا بسبب فسادها وسلطويتها. كانت السلطة الناشئة إذًا ضعيفةً في دفاعها عن المصالح الفلسطينية، ولكنها كانت أيضًا سلطةً مُنِح قادتُها الامتيازات والحصانة والمنافع. وبحلول أواخر تسعينيات القرن الماضي، حينما بدأ الحديث عن الإصلاح، كان للسلطة بالفعل رئيس وبرلمان مُنتَخبان، ولكن بدا أن احتمالات إجراء جولةٍ ثانيةٍ من الانتخابات كانت ضئيلة؛ وبدا البرلمان مُهمَّشًا من السلطة التنفيذية؛ وبدا أن المناصب الرسمية كانت تُمنَح على أساس الارتباطات والولاءات السياسية؛ وكان المسؤولون الكبار يُمنَحون امتيازات سفر (وربما حتى عقودًا رسمية وامتيازات أخرى) أتاحت لهم الإفلات من تداعيات الوضع السياسي المتدهور.
لذا، منذ البداية، لم يكن الحديث عن "الفساد" بين الفلسطينيين مجرّد حديثٍ عن الارتشاء، بل كان متجذّرًا بعمقٍ في شعورهم بأن قادتهم عاجزون عن خدمة المصالح الفلسطينية أو غير مستعدّين لذلك، حتى وهم يؤمّنون مصالحهم الشخصية. فغالبًا ما أُثير موضوع بطاقات المرور (VIP)، كما مسألة سرقة الأموال العامة، في الشكاوى العامة والنقاشات الخاصة. وفي السنوات الأخيرة، أدّى فشل السلطة الفلسطينية في إجراء الانتخابات لما يقرب من عقدَين من الزمن إلى تفاقم الشعور بأن الناس العاديين لا صوت لهم، وبأن قادتهم غير خاضعين للمساءلة. ثم إن مضايقة المنتقدين والصحافيين عزّزت أكثر فأكثر سمعة السلطة الفلسطينية محليًا بوصفها سلطة تتصرّف بغطرسة ولا تحقّق الكثير.
وهكذا، تبدأ النقاشات الفلسطينية حول الإصلاح بالحديث عن الانتخابات، كما عن "المصالحة" (التي تدمج حماس في هياكل السلطة الفلسطينية)، والتوصّل إلى توافق وطني، وحتى إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، الهيئة التي تمثّل جميع عناصر الأمّة الفلسطينية، وتفوّض مَن يدير هياكل الحكم في الضفة الغربية وغزة. والإصلاح يعني إخضاع السلطة الفلسطينية للمساءلة أمام مَن تحكمهم. ولا تقترن هذه النقاشات فقط بالحاجة إلى حكمٍ أفضل اليوم، بل أيضًا بأفقٍ سياسي يعبّر عن الهوية الوطنية الفلسطينية على شكل دولة أو بديلٍ آخر يعترف بالحقوق الفلسطينية على المستويَين الفردي والوطني.
أما عندما يُناقَش الإصلاح على المستوى الدولي، فما يهمّ هو فاعلية السلطة الفلسطينية في الحفاظ على الأمن، وتهميش حماس، وتوفير الخدمات الاجتماعية. وتبقى هواجس بشأن الممارسات المالية السليمة ومكافحة الفساد، وإن كانت تلاشت إلى حدٍّ ما على مرّ السنين. وفي بعض الأحيان تلقى الدولة الفلسطينية المحتملة دعمًا شفويًا فحسب، بوصفها هدفًا نهائيًا أو مسارًا مبهمًا. أما الفكرة القائلة إن إصلاح السلطة الفلسطينية سيحوّلها إلى دولة فلسطين، فهي فكرة تحفيزية أكثر منها فكرة تفضي إلى نتيجة عملية.
وبالطبع، تصبّ الرؤى الفلسطينية للإصلاح في الاتجاه المعاكس تمامًا: فالمصالحة بين حركتَي فتح وحماس والانتخابات، التي سيُسمَح لحماس المشاركة فيها، هما أكثر المواضيع التي تتصادم فيها بوضوح هذه الرؤى الفلسطينية والدولية. لكن حتى الخطوات التي من شأنها تعزيز استقلالية القضاء أو الحدّ من التجاوزات الأمنية (وتبرز هاتان المسألتان أحيانًا عند التطرّق إلى الخطط الإصلاحية) لا تحظى بدعمٍ دوليٍّ إلّا إذا لم تتعارض مع قدرة قوات السلطة الفلسطينية واستعدادها للوقوف في وجه حماس، والتنسيق مع إسرائيل على المستوى الأمني.
تُعطي النقاشات الدولية في بعض الأحيان الأولوية إلى مسائل يتطرّق إليها الإسرائيليون منذ فترة طويلة – وترتبط في غالب الأحيان بالمناهج التعليمية ومخصّصات الأسرى الفلسطينيين – لكنها لا تستند إلى فهمٍ راسخٍ للوقائع على الأرض، ولا إلى الحقائق الاجتماعية والسياسية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، يَعتقد معظم خرّيجي الثانوية العامة الفلسطينيين الذين تحدّثتُ معهم أن نظامهم التعليمي مُرغمٌ بالفعل على التحفّظ حيال القضايا الحساسة، وبالتالي من المستبعد أن ينظر الطلاب، أو المعلّمون، أو الفلسطينيون الذين يتذكّرون كيف كان الوضع قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، إلى استيراد الكتب المدرسية من دولٍ أخرى كبديلٍ تمّ اقتراحه بجدّية، على أنه خطوةٌ إصلاحية. تَنمّ مثل هذه الاقتراحات في الكثير من الأحيان عن سذاجةٍ أو جهلٍ بالواقعَين السياسي والمؤسساتي، مع أن هذا الأمر ليس جوهر المشكلة، إذ إن البرامج الإصلاحية المفصّلة والمدروسة جيّدًا تُقدّم بعضًا من الأفكار نفسها. لكن هدف هذه الجهود الدولية المبذولة ليس إضفاء طابعٍ ليبرالي أو ديمقراطي على السلطة الفلسطينية، وليس أيضًا مساعدتها على تلبية حاجات المجتمع الفلسطيني، بل الهدف هو جعلها مقبولةً من الجهات المانحة الدولية وإسرائيل.
ولا يمكن طمأنة المجتمع الدولي إلّا من خلال اتخاذ خطواتٍ من شأنها إبعاد السلطة الفلسطينية أكثر عمّن تحكمهم، من دون أن تقترب من إمكانية إقامة دولة حقيقية. نظريًا، من الممكن وضع أجندة إصلاحية تجمع بين قضايا الحوكمة الداخلية وإجراءات محدّدة وواضحة وفورية نحو إقامة دولة، إلّا أن جميع الخطط المطروحة تقريبًا لا تُبدي حتى إدراكًا بالدوافع الأساسية المتناقضة للمجتمعَين الدولي والمحلي.
والواقع أن هذه البرامج الإصلاحية تتفكّك بالكامل عند النظر إليها من الجانب الإسرائيلي. فالقيادة الإسرائيلية واضحة: مشكلتها ليست أن السلطة الفلسطينية بغيضة، بل تشكّل تهديدًا لها. لقد توصّل القادة الإسرائيليون منذ فترة طويلة إلى طرقٍ لتقويض القادة الفلسطينيين أو تفاديهم أو تجاهلهم، وحذا حذوهم في هذا التوجّه أيضًا المسؤولون الأميركيون في إدارة ترامب الأولى. ويُشار في هذا السياق إلى أن التعهّد الوارد في اتفاقية أوسلو الأولى التي أُبرمت في العام 1993، والقاضي بالاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وتعامل كلًّ منهما مع الطرف الآخر كممثّل وطني عن شعبه، آخذٌ في التلاشي منذ عقود. وباتت المناقشات الدولية المتعلقة بإسرائيل وفلسطين، والمُستندة إلى فهمٍ سطحيٍّ للسياسات الفلسطينية أمرٌ شائع. مع ذلك، يبدو راهنًا أنّ ثمة تجاهلًا غير مسبوق لتصريحات القادة الإسرائيليين. ففي ظلّ الحكومة الإسرائيلية الراهنة، لم يعد الأمر يقتصر على تحوّلات طفيفة، بل أصبح عبارةً عن تصريحات صاخبةٍ وثابتةٍ ومتكرّرةٍ وقاطعةٍ مفادها أن إسرائيل لن تسمح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى قطاع غزة، وأنها لم تعد شريكًا في الضفة الغربية. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بوضوحٍ إن السلطة الفلسطينية لا تختلف عن حماس في كونها عدوًّا لدودًا لإسرائيل.
من الممكن إجراء تحسينات مختلفة في السلطة الفلسطينية. لكن فكرة إجراء إصلاحات واضحة من شأنها أن تضفي عليها الشرعية محليًا، وتجعلها مقبولةً للجهات المانحة، وتكون حجر الأساس في تطبيق حلّ الدولتَين، وشريكًا أمنيًا لإسرائيل، كانت صعبة التحقيق قبل عقدَين من الزمن، وتبدو الآن مستحيلةً تمامًا. إن التظاهر بأن إسرائيل والمجتمع الدولي والفلسطينيين يمكن أن يتفقوا على إصلاح السلطة الفلسطينية يحجب حجم التدهور والدمار والموت الذي يلحق بالمجتمع الفلسطيني اليوم.