

















بعد ثمانية أشهر على انتهاء النزاع الأخير بين إسرائيل وحركة حماس، لايزال قطاع غزة يبدو وكأنه خرج للتو من تحت القصف. فإعادة الإعمار شبه معدومة. تتفتّح الزهور الصفراء في الأحياء المدمَّرة في بيت حنون والشجاعية وخزاعة. يقيم الناس في خيمٍ وأكواخ خلف أنقاض منازلهم، وينتظرون أكياس الإسمنت العالقة عبر الحدود، فيما يتذكّرون أنه ليس لديهم من مكان يقصدونه. من الأماكن القليلة التي يتم إعمارها في غزة مكاتب وزارة الأشغال العامة والإسكان. تتكدّس أكوام الرمل والقرميد والإسمنت خارج الطابق الأول، حيث يشارف العمّال على الانتهاء من بناء جدار جديد. في الداخل، يقول نائب وزير الأشغال العامة والإسكان بالوكالة ناجي سرحان ضاحكاً: "ذلك الإسمنت؟ اشتروه من السوق السوداء"، مشيراً إلى أنه حتى الوزارة لم تتمكّن من الحصول على الإسمنت بأية طريقة أخرى، لأن مواد البناء نادرة جداً.
انتهت الحرب التي أسفرت عن مقتل 2132 فلسطينياً و71 إسرائيلياً بوقف إطلاق نار مؤقت ومؤتمر دولي انعقد في القاهرة بعد ستة أسابيع، حيث اتفق مندوبو أكثر من 60 دولة على العمل مع حكومة الوحدة الفلسطينية من أجل تطبيق وقف دائم لإطلاق النار وتحقيق نقلة نوعية من شأنها أن تؤدّي إلى وضع حد للعنف، ورفع الحصار عن غزة، وإعادة إعمار القطاع، وتجديد الروابط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين غزة والضفة الغربية. لكن بعد ستة أشهر على انعقاد المؤتمر، لاتزال أهداف المانحين بعيدة جداً من التحقق. فالقطاع لم يحصل سوى على 935 مليون دولار أميركي (26.8 في المئة) من إجمالي تعهدات إعادة الأعمار وقدرها 3.5 مليارات دولار. بحسب تقرير صدر مؤخراً عن "تجمُّع وكالات التنمية الدولية"، لاتزال هناك 17500 عائلة مشرَّدة. وفي غياب المأوى المناسب خلال فصل الشتاء، توفّي أطفالٌ بسبب انخفاض حرارة الجسم فيما كانوا ينامون وسط أنقاض منازلهم.
تخلّف المانحون عن الوفاء بتعهداتهم لعدد من الأسباب. يقول باسيل ناصر، رئيس مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في غزة بالوكالة: "يشعر المانحون بالسأم. لايمنكهم أن يدفعوا الأموال فيما يستمر الدمار". منذ وصول حماس إلى السلطة في غزة في العام 2007، شهد القطاع ثلاثة نزاعات عسكرية مع إسرائيل: عملية "الرصاص المصبوب" في العامَين 2008-2009، والتي أسفرت عن مقتل 1440 فلسطينياً على الأقل، وإصابة أكثر من خمسة آلاف بجروح، وأضرار في البنى التحتية تفوق كلفتها 659 مليون دولار؛ وعملية "عمود السحاب" في العام 2012، التي تسبّبت بأضرار في مالايقل عن 382 منزلاً، و240 مدرسة، وثلاثة مستشفيات، وثلاثة عشر مركزاً للرعاية الصحية الأساسية؛ وعملية "الجرف الصامد" التي تُقدَّر كلفتها بأربعة مليارات دولار من أجل الإغاثة والمعافاة وإعادة الإعمار. يقول ناصر: "ينبغي على إسرائيل والفصائل الفلسطينية أن تقطع التزاماً جيداً يمنحنا مرحلة من الهدوء".
فضلاً عن ذلك، تردّد بعض المانحين في الوفاء بتعهداتهم المالية بسبب عدم تحقيق السلطة الفلسطينية تقدّماً كافياً في فرض سيطرتها على غزة. لقد شكّلت حركة حماس وحركة فتح وسواهما من الفصائل الفلسطينية حكومة وحدة في حزيران/يونيو الماضي، وكان الهدف إجراء انتخابات في غضون ستة أشهر. لكن منذ اندلاع الحرب، تعمّق الانقسام بين رام الله وغزة، ويعجز السياسيون عن الاتفاق على مختلف المسائل بدءاً من الضرائب على المحروقات مروراً برواتب الموظفين الحكوميين وصولاً إلى تجهيز نقاط التفتيش في غزة بالعناصر البشرية. وقد أرجئت الانتخابات إلى أجل غير مسمّى. يقول ناصر إن غياب الوحدة في صفوف القيادة الفلسطينية يُحبط جهود المساعدة من الخارج، مضيفاً: "لايشعر المانحون بأن الحكومة جدّية في موضوع مساعدة غزة". ويلفت في هذا الإطار إلى أن قادة حكومة الوحدة لم يزوروا القطاع سوى ثلاث مرات في غضون عشرة أشهر: "نريد أن نراهم هنا يخفّفون من وطأة الحصار، ويجتمعون بممثّلي الوزارات، ويُظهرون مصالحة وطنية حقيقية".
في غضون ذلك، لايتسبّب الحصار الذي تفرضه إسرائيل ومصر على غزة بخنق اقتصادها وحسب، إنما أيضاً بتعطيل المعافاة والحؤو دون الوصول إلى الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل الكهرباء والماء والرعاية الطبية. ليس المانحون المحتملون على ثقة من أن مساعداتهم سوف تدخل القطاع أو من أنها ستُستخدَم من أجل تحقيق المعافاة والتنمية المستدامة على أكمل وجه. يقول سرحان: "أوقف المانحون مشاريعهم لأنهم يملكون المال إنما ليس المواد". المواد الأساسية من أجل إعادة إعمار الوحدات السكنية التي دُمِّرت بالكامل في غزة، وعددها 12400 وحدة، وتلك التي لحقت بها أضرار فادحة، وعددها 6600، هي الإسمنت والملاط وقضبان الفولاذ. تفرض إسرائيل قيوداً على دخول هذه المواد إلى غزة، وتصفها بأنها مواد "مزدوجة الاستخدام" يمكن استعمالها في أنشطة إرهابية قتالية. حاول المجتمع الدولي الالتفاف على هذه الإجراءات عبر وضع "آلية إعادة إعمار غزة"، التي تخضع لإشراف الأمم المتحدة، والهدف منها السماح بدخول مواد البناء إلى غزة بالاستناد إلى تقويم فردي لكل مشروع سكني أو خاص بالبنى التحتية على حدة. لكن الموافقة على المشاريع لاتزال في أيدي السلطات الإسرائيلية التي تقرّر أيضاً كمية الإسمنت المسموح بدخولها، والفترة التي يستغرقها الإسمنت للوصول إلى وجهته - اعتباراً من شباط/فبراير الماضي، سمحت إسرائيل بدخول 54252 طناً من الإسمنت إلى غزة، أي أقل من أربعة في المئة من الـ1.5 مليون طن الضرورية لإعادة الإعمار. في أواخر آذار/مارس المنصرم، أضافت إسرائيل الخشب إلى قائمة المواد المحظورة.
بعد الحربين الأخيرتين، استطاعت غزة الحصول على مواد البناء عبر تهريبها من مصر عن طريق الأنفاق غير القانونية. لكن الحدود أصبحت مغلقة - فمعبر رفح الرسمي مغلق بالكامل تقريباً، وقد عمدت السلطات المصرية إلى تدمير مئات الأنفاق. تقول الحكومة المصرية إن السبب في إغلاق الحدود هو الحفاظ على الأمن ومكافحة الإرهاب، لاسيما بعد تفاقم الهجمات المسلّحة في سيناء إبان عزل مرسي من السلطة في العام 2013. بيد أن الحجم الفعلي لتدفّق السلاح بين غزة وسيناء ليس واضحاً. منذ إغلاق معبر رفح، أصبح معبر إيريتز نقطة العبور الوحيدة، لكن إسرائيل لاتسمح باستخدامه سوى في "الحالات الإنسانية الاستثنائية" - وقد سمحت في المعدّل بـ6270 خروجاً عبر المعبر في الشهر في العام 2014، وفي نصف هذه الحالات، كان الخارجون رجال أعمال.
في خضم هذا كله، بالكاد يتمكّن أبناء غزة من العيش. قبل عامَين من الحرب الأخيرة، أصدرت الأمم المتحدة تقريراً حذّرت فيه من أن غزة ستصبح عملياً غير صالحة للعيش بحلول العام 2020. وقد تبيّن أن 95 في المئة من مياه غزة غير صالحة للاستهلاك البشري، ويُتوقَّع أن يصبح خزان المياه الجوفية الوحيد في غزة غير صالح للاستعمال بحلول العام 2016. وقد أصيبت محطة الكهرباء الوحيدة في غزة مرّتَين في الهجمات الجوية الإسرائيلية خلال الحرب، وتعمل الآن بنصف طاقتها، وفقاً لجدول الثماني ساعات، مع توزيع الكهرباء 8 ساعات وقطعها 8 ساعات. لايزال الوصول إلى غزة جواً أو بحراً محظوراً، ويُمنَع على الصيادين الابتعاد أكثر من ستة أميال بحرية عن الشاطئ، كما يُمنَع المزارعون من الوصول إلى أراضيهم الزراعية الواقعة في المناطق المقيّدة الوصول، ونسبتها 35 في المئة من مجمل أراضيهم الزراعية، وكذلك أقفل 90 في المئة من المصانع والورش أبوابه منذ بدء الحصار في العام 2007.
على الرغم من كل ذلك، لايزال أبناء غزة يقيمون حفلات الزفاف، ويصطادون الأسماك، ويزرعون أراضيهم، ويدرسون، ويصمدون، إنما من دون أمل حقيقي بمستقبل طويل الأمد. يبلغ معدل البطالة 45 في المئة، ويصل إلى 63 في المئة في صفوف الشباب. يعاني أكثر من 70 في المئة من سكّان غزة من انعدام الأمن الغذائي أو هم عرضة لانعدام الأمن الغذائي. هناك مئة ألف مشرّد، وقد غرق المئات ولقوا حتفهم بعد هروبهم من غزة على متن مراكب الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط. ومن يبقون في القطاع معرَّضون لمزيد من الإحباط الذي يخشى البعض أن يقودهم إلى التشدّد.
أليس سو صحافية مقيمة في عمان. يمكنكم متابعتها عبر تويتر: aliceysu@.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية