المصدر: Getty
مقال

استخدام المساعدات الإنسانية سلاحاً في الحرب السورية

تعمد الأطراف المتناحرة في سورية إلى استخدام المساعدات سلاحاً في الحرب عبر منح الإذن لوصول المساعدات الإنسانية أو حجبه، ما يزيد من تعقيدات العمل الذي تقوم به منظمات الإغاثة.

نشرت في ٦ يوليو ٢٠١٦

عمد الأفرقاء المتناحرون في الحرب الأهلية السورية إلى تسييس مسألة المساعدات عبر التحكّم بآلية منح الأذون لوصول الإغاثة الإنسانية أو حجبها، وذلك بغية تنفيذ استراتيجياتهم العسكرية وتحقيق مآربهم السياسية. فالنظام يلجأ من جهته إلى تعطيل وصول المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار في إطار استراتيجية متعمّدة الهدف منها معاقبة مجموعات المعارضة وإضعافها، والحؤول دون قيام نظام سياسي بديل. ويستخدم النظام أيضاً مسألة تنظيم السلع العامة الأساسية وتوزيعها، من المواد الغذائية إلى التيار الكهربائي، من أجل مكافأة الموالين له وتعزيز تبعية المواطنين واعتمادهم عليه. وفي بعض الأحيان، جرى حتى تحويل المساعدات لدعم الجهود الحربية للجيش السوري. أما تنظيم الدولة الإسلامية فيستند في منعه لوصول المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرته، إلى منطق مختلف إنما سياسي بالدرجة نفسها: تريد الدولة الإسلامية ممارسة سيطرة مطلقة وفرض حالة من التبعية الكاملة على المواطنين. في هذا السياق، تصبح المساعدات مسيَّسة وتُستخدَم سلاحاً في الحرب بحكم الأمر الواقع.

نظراً إلى هذه الأوضاع، عمد المجتمع الدولي، خلال الأعوام القليلة الماضية، إلى تطوير مقاربته لتوزيع المساعدات في سورية، بعدما كانت الخطة التي تم التوصل إليها في البداية عن طريق المفاوضات تقوم على الاعتماد في شكل شبه كامل على التنسيق مع الحكومة المركزية من أجل تنفيذ عمليات الإغاثة الإنسانية في سورية. لسوء الحظ، عندما يُنظَر إلى مسألة المساعدات بأنها من الأدوات العسكرية الأساسية عبر التحكّم بوصولها وتوزيعها، سرعان ما تصبح عمليات الإغاثة رهينة السياسة: يعمد النظام إلى تبطيء الآلية أو يمتنع عن الموافقة على مرور المساعدات بحسب ما تمليه مصالحه الاستراتيجية، فيساهم بدوره في تقويض حياد المساعدات الإنسانية وعدم انحيازها.

منذ جنحت الثورة السياسية التي انطلقت سلمية في البداية، نحو العنف والتعصب المذهبي والتسلّح، سعى النظام الذي يقوده بشار الأسد إلى تحقيق النصر عن طريق هزم مجموعات الثوار في ساحة المعركة وبذل جهود منهجية ومستمرة لإحباط محاولاتها الهادفة إلى إقامة بديل سياسي عن النظام. وقد عنى ذلك في الممارسة استهداف المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار بهدف تدمير البنى التحتية وقطع خطوط الإمدادات التي تستخدمها التنظيمات المعارضة، فضلاً عن شن هجمات على المدنيين عن سابق تصوّر وتصميم، واستهداف المستشفيات والمدارس والأسواق – وخير دليل على ذلك الدمار المروّع في مناطق على غرار دوما وحلب. من التكتيكات الأخرى المستخدَمة على نطاق واسع منع وصول المدنيين إلى السلع والخدمات الأساسية، منها المساعدات الإنسانية، والهدف منه إما تهجير المدنيين بالقوة – وبالتالي فرض مزيد من العزلة على الثوّار – وإما إرغام المعارضة في نهاية المطاف على التنازل عن الأرض والسكان على السواء.

وقد برز في شكل خاص في حرب الحصار السورية منع الوصول إلى السلع الأساسية، مثل الغذاء والماء والكهرباء، في تكتيكٍ بغاية الهمجية يؤدّي إلى إضعاف المقاتلين والمدنيين على السواء. من الأمثلة الشهيرة الحصار الشديد الذي فرضه النظام على المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار شرق دمشق وجنوبها؛ وعلى مخيم اللاجئين الفلسطينيين في اليرموك؛ وبلدتَي مضايا وداريا. مع فرض حظر على دخول السلع إلى هذه المناطق، ومنع المدنيين من المغادرة عبر إنشاء نقاط تفتيش عسكرية أو زرع ألغام أرضية مضادة للأفراد، تضوَّر السوريون المحاصَرون جوعاً حتى الموت.

بحسب التقرير الصادر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية في شباط/فبراير 2016، تعرّض أكثر من 400000 مدني للحصار، فيما تقيم 4.5 ملايين نسمة في مناطق حيث المساعدات نادرة ومتقطّعة (مع العلم بأن هذه الأرقام متحفظة إلى حد كبير). لكن على الرغم من الحالات التي أتاح فيها النظام وصولاً مؤقتاً لعمليات الإغاثة إلى المناطق المحاصَرة، والتي حظيت بترويج واسع، ازدادت الأوضاع سوءاً. ففي حزيران/يونيو 2016، أشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن نحو 600000 شخص لا يزالون عالقين في ثمانية عشر موقعاً محاصَراً في مختلف أنحاء البلاد – على أيدي النظام، إنما أيضاً على أيدي أفرقاء آخرين في النزاع، منهم تنظيم الدولة الإسلامية.

من التكتيكات التي تُستخدَم أيضاً على نطاق مكثّف في هذه الحملة ضد المدنيين مَنْع الوصول إلى العناية الطبية واستهداف الطاقم الطبي والبنى التحتية. فعلى سبيل المثال، أوردت لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة المذكورة آنفاً أنه من أصل 33 مستشفى كانت تستقبل المرضى في حلب في العام 2010، استمرت أقل من عشرة مستشفيات في مزاولة عملها في شباط/فبراير 2016. في الشهر عينه، أعلنت منظمة "أطباء بلا حدود" عن اتخاذها قراراً بالامتناع عن إطلاع القوات السورية والروسية على البيانات المتعلقة ببعض منشآتها الطبية، مبديةً خشيتها من أنه من شأن تشارُك هذه البيانات أن يجعل المنشآت أكثر عرضة للاستهداف بدلاً من حمايتها وضمان أمنها.

هذا التسييس للمساعدات وعمليات الإغاثة واستخدامها سلاحاً في الحرب، فضلاً عن القتال العنيف وخطوط المعارك التي تتبدّل بسرعة، يجعل المساحة الإنسانية في سورية تحت رحمة قيود شديدة وموضع خلاف وسجال. إزاء هذه المشكلات الواضحة، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 2139 في 22 شباط/فبراير 2014 مطالِباً بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية من دون عوائق. وفي وقت لاحق من العام نفسه، سمح مجلس الأمن بإدخال المساعدات عبر الحدود (بموجب القرارَين 2165 و2191)، ما أتاح لوكالات الأمم المتحدة وشركائها الحكوميين وغير الحكوميين تجاوز دمشق والوصول مباشرةً إلى بعض المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار والتي كان يتعذر دخولها سابقاً. بيد أن إدخال المساعدات عن طريق معابر حدودية لم يكن كافياً لحل المشكلة. لا يزال النظام السوري يعتبر أن المساعدات التي تشكّل حاجة ماسّة، هي أداة يستخدمها المجتمع الدولي لتعزيز المعارضة التي يسعى النظام جاهداً لسحقها – ولا تزال مناطق واسعة تحت الحصار مع استمرار النظام في المماطلة في منح موافقته لدخول وكالات الإغاثة أو مع امتناعه عن منح هذه الموافقة. مما لا شك فيه أن الإجراءات العملية مثل السماح بإلقاء المساعدات من الجو وتيسير إنشاء جسور جوية، يمكن أن تمارس تأثيراً إيجابياً عبر الالتفاف على الحواجز الجغرافية التي يقيمها النظام، إلا أنها ليست كافية.

يطرح إيجاد حل لهذا المأزق تحدّياً هائلاً. فما دامت المنظمات الإنسانية ووكالات الإغاثة تتفاوض مع الحكومة وتنسّق معها، يتيح ذلك للنظام التحكّم بها عبر السماح لها بإيصال المساعدات أو منعها من ذلك، بحسب ما تمليه مصالحه السياسية والعسكرية. وهكذا يبقى عدد كبير من السوريين الضعفاء محرومين من المساعدات، كما يتسبّب ذلك بتقويض حياد المنظمات الإنسانية وعدم انحيازها، ما يجعل عمّال الإغاثة أكثر عرضة للاستهداف من جميع الأطراف. بيد أن تجاهل سماسرة النفوذ على الأرض أو تجاوزهم تترتّب عنه أيضاً كلفة باهظة. فغياب التنسيق يزيد من المخاطر التي يتعرض لها عمّال الإغاثة، لأنه من دون الحصول على إذن واضح للعمل، قد يجدون أنفسهم في دائرة الاستهداف المباشر من النظام السوري.

بناءً على هذه المعطيات، يثير التفاوض حول إيصال المساعدات الإنسانية انقسامات وسجالات حادة في صفوف المعنيين بالشأن الإنساني على الساحة الدولية. ففي حين دعت بعض المجموعات البارزة، مثل "أطباء بلا حدود"، إلى تعزيز الجهود عبر الحدود ومنع النظام من تسييس المساعدات، تصرّ مجموعات أخرى – مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر – على موقفها الداعي إلى وجوب "العمل مع جميع الأفرقاء"، ما يسلّط الضوء على الصراع الحقيقي من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من مبادئ الحياد وعدم الانحياز.

يرتدي إرساء قواعد اشتباك مشتركة طابعاً أكثر إلحاحية من أي وقت مضى، نظراً إلى الحجم الذي بلغته الحرب الأهلية السورية، ودرجة اعتماد النظام على منح الإذن لدخول المساعدات الإنسانية أو حجبه في إطار استراتيجيته الحربية. ينبغي على المعنيين بالشأن الإنساني على الساحة الدولية أن يجروا إعادة نظر جوهرية في نماذج الإغاثة المعتمدة حالياً. ويجب أن تأتي في رأس أولوياتهم ممارسة ضغوط على جميع الأفرقاء في النزاع – لا سيما النظام – من أجل التوقف عن استخدام المساعدات سلاحاً في الحرب، ومحاسبة الجهات المسؤولة عن هذه الممارسات. الوصول إلى المعوزين، بغض النظر عن الفريق الذي يسيطر على المنطقة حيث يقطنون، خطوة أساسية من أجل معالجة مشكلة النزوح القسري.

 * تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

  

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.