روبرت تمبلر (roberttempler.com) هو كاتبٌ ومستشارٌ في مجال السياسة العامة، يتمتّع بخبرة واسعة في المجالَين البحثي والعملي المرتبطَين بدراسة الصراعات. في جعبته أربعة كتب، من ضمنها كتاب نال استحسانًا واسعًا، وعنوانه Shadows and Wind: A View of Modern Vietnam (ظلال ورياح: نظرة على فيتنام الحديثة). إضافةً إلى ذلك، عمل بشكلٍ مكثّف مع منظماتٍ مثل الأمم المتحدة ومجموعة الأزمات الدولية حول قضايا متعلّقة بالوقاية من الصراعات وإحلال السلام وتغيّر المناخ والتطرّف العنيف، ولا سيما في آسيا. تتميّز مسيرته المهنية بخبرته العملية، إذ عاش وعمل في مناطق صراع عدّة. وباعتباره ناشطًا ملتزمًا في الدفاع عن حقوق السوريين منذ العام 2011، شارك تمبلر في تأسيس مركز مشروع حلب في جامعة أوروبا الوسطى في العام 2014، وتحالُف التعليم العالي لشؤون اللاجئين في العام 2018. هو أيضًا باحث في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة هارفرد وجامعة بومبيو فابرا في برشلونة.
أرميناك توكماجيان: بعد سقوط نظام بشار الأسد، تسعى هيئة تحرير الشام إلى الاضطلاع بدورٍ مركزيٍ في المرحلة الانتقالية في سورية. لكنها ليست القوة الوحيدة في البلاد، بل ثمّة مجموعات مدنية وعسكرية أخرى تُعارِض الأسد منذ فترة طويلة وتريد الانخراط في العملية الانتقالية. ماذا يجب أن تفعله هيئة تحرير الشام وماذا يجب ألّا تفعله؟ وما العبر التي يمكن استقاؤها من عمليات انتقالية أخرى في مراحل ما بعد الصراع؟
روبرت تمبلر: حتى في حالة الانتصار العسكري، لا بدّ من إطلاق عملية سياسية مستدامة لإحلال السلام، تتضمّن أكبر عددٍ ممكن من المجموعات، المنتصرة والمهزومة على السواء. ولا يجب المسارعة إلى صياغة دستور جديد، إذ إن هذه الوثيقة ينبغي أن تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من سرديةٍ تجمع بين مكوّنات سورية الجديدة كافة. ويجب أن يعبّر الدستور أيضًا عن تطلّعات غالبية الشعب وأن يخاطبهم بوضوح وفعالية. لقد كان منطقيًا إعلان هيئة تحرير الشام أن الانتخابات قد لا تُعقد قبل أربع سنوات. فلا بدّ من تخصيص الوقت اللازم لصياغة الدستور وإجراء تعدادٍ للسكان ووضع القوائم الانتخابية، لأن التعجيل بإجراء الانتخابات سيشكّل مصدرًا إضافيًا للتوترات والخلافات. لقد تسرّعت أفغانستان في عمليتها السياسية، وفي صياغة الدستور وإجراء الانتخابات، وكانت النتيجة أن افتقرت جميع هذه المحطات إلى الشرعية والديمومة. إذًا، ما من حلٍّ سريع في المعترك السياسي.
ثمّة طرق لبناء الشرعية وبلورة سردية وطنية من دون الانتخابات. فمن الممكن تأسيس هيئة حوار وطني تضمّ متطوّعين يتطابقون مع تركيبة المجتمع السوري التي نعرفها: أي أنها تُحقّق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء، وتتألّف من مزارعين وأساتذة ومهندسين وأفراد آخرين من مختلف المهن والأعمار والمجموعات الإثنية والطائفية، وما إلى ذلك. يمكن اختيار الأعضاء بصورة عشوائية من قائمةٍ ما، بحيث تمثّل الهيئة تركيبة الدولة ولا تقتصر على الأشخاص المتحزّبين. وباستطاعة الهيئة مناقشة قضايا وطنية مهمة، منها: تحقيق العدالة لمَن أساءت لهم الدولة وغيرهم، ومستقبل الأقليات، وإعادة الممتلكات إلى أصحابها ودفع التعويضات، ودور الدين في الدولة، وسُبل ضمان حقوق الإنسان، فضلًا عن قضايا ملحّة مثل المياه وتغيّر المناخ. قد يسهم هذا المسار في تجنّب بعض مخاطر التحيّز الحزبي والتدخّل الخارجي. وقد أثبتت هذه الهيئات في أماكن أخرى قدرتها على تهدئة التوترات وتقديم إجابات مشروعة على أسئلةٍ قد تكون خلافية.
يجب التفكير بعناية في شكل الأحزاب السياسية ودورها مستقبَلًا. فوضع القواعد السياسية مباشرةً بعد انتهاء الصراع قد يرسّخ الانقسامات، كما شهدنا مثلًا في البوسنة ولبنان. هذه نتيجة مؤسفة وقد تؤدّي إلى الجمود. سيتطلّب الأمر توزيع السلطات بعض الشيء في سورية للتكيّف مع الواقع. ومن المهم أيضًا تفادي السياسات التي تتمحور فقط حول الهويات الدينية أو الإثنية. ويمكن تحقيق ذلك مثلًا من خلال اختيار النظام الانتخابي السليم، وتشكيل حكومة تبدأ من السلطات المحلية وصولًا إلى المستويات الأعلى، ودفع الأحزاب إلى طرح مرشحين في جميع مناطق البلاد، وربما إدراج بنود انقضاءٍ تحدّ من النشاط السياسي المثير للخلافات لفترة معيّنة، وتفسح المجال أمام المزيد من الحريات مع مرور الوقت.
توكماجيان: لقد ارتكبت جميع القوى المنخرطة في الصراع السوري جرائم، أفظعها كان على أيدي المجموعات الجهادية والنظام السوري، الذي ثبُت أنه أحد أكثر الأنظمة بطشًا في العالم العربي، إن لم يكن في العالم أجمع. واليوم بعد سقوط النظام، كيف يجب أن تتعامل هيئة تحرير الشام مع جرائم الحرب، وأن تضمن تحقيق العدالة الانتقالية، وأن تعزّز المصالحة؟ وما العبر التي يمكن استخلاصها من حالاتٍ شبيهة أخرى؟
تمبلر: تتجلّى العدالة الانتقالية بأشكال عدّة قد تكون خلافيةً كما قد تكون أساسًا للتعافي. ويُحتمَل أن تستغرق هذه العملية وقتًا أطول بكثير ممّا يودّ الضحايا، وأن تحقّق أهدافًا أقل بكثير ممّا يحتاجون. مع ذلك، ثمّة الكثير من الدروس التي يمكن استقاؤها من تجارب أخرى حول العالم. أولًا، ينبغي الاحتفاظ بأكبر قدرٍ ممكن من الأدلة، ليس داخل سورية وحسب، بل أيضًا في مخزن خارج البلاد. ثانيًا، يجب مقاضاة الأشخاص المتّهمين بارتكاب أفظع الجرائم الذين يمكن القبض عليهم راهنًا، في إطار محاكمات مفتوحة بقيادة محلية في سورية. وثالثًا، يجب أن يُتاح للضحايا أن يرووا قصصهم التي يمكن أن تسهم في تشكيل سردية جديدة للبلاد، ترفض مثل هذا العنف الشديد. يمكن فعل ذلك بطرق عدّة منها: عبر الشروع في عمليةٍ رسمية لاستجلاء الحقيقة وتحقيق المصالحة؛ ومن خلال إتاحة السجلات أمام الباحثين وغيرهم؛ وعبر إنشاء مواقع لإحياء الذكرى وإعداد أرشيف لحفظ السجلات التاريخية. قد يكون من المغري محو سجن صيدنايا من على وجه الأرض كونه ينضح بالألم والرعب، لكن يجب إبقاؤه. فهذه المواقع التي شهدت معاناةً مروّعة تتمتّع بقوةٍ هائلة لأنها تجعل من الصعب نسيان جرائم الماضي.
يستغرق تحقيق العدالة الانتقالية وقتًا ويتطلّب صبرًا. قد يبدو الحديث عن ذلك وكأنه ترفٌ ورفاهية في بلادٍ تشهد انهيارًا اقتصاديًا ويعاني شعبها من الجوع. أرى أن على السوريين تصميم هذه العملية وتولّي قيادتها بأنفسهم، وعدم إشراك أطراف خارجية إلّا حين يختارون هم فعل ذلك. لكن أعتقد أن بإمكان المجتمع الدولي المساهمة في تأسيس صندوق تعويضات، ربما باستخدام أيٍّ من أصول نظام الأسد المجمّدة في الخارج، التي يمكن أن تقدّم الموارد الضرورية لمساعدة الضحايا على إعادة بناء حياتهم. ويجب إيلاء الأولوية لإتاحة المعلومات أمام عائلات المفقودين ومساعدة ضحايا التعذيب. فهذه الخطوة ملحّة جدًّا وتشكّل جزءًا لا يتجزّأ من عملية إحلال السلام. فضروب التعذيب على هذا النطاق تنخر روح الوطن نخرًا، ولا بدّ من التصدّي لها.
توكماجيان: يمكن القول إن الحرب الأهلية السورية هي من بين الصراعات الأكثر تدويلًا في التاريخ الحديث، وستبقى البلاد في أعقابها ضعيفةً وعرضةً للتأثير الخارجي. ما الخطوات التي ينبغي على القوى الخارجية اتّخاذها لدعم نجاح المرحلة الانتقالية في سورية؟
تمبلر: لسوء الحظ، سوف تتدخّل القوى الخارجية كافة في تشكيل مستقبل سورية، ولا سيما إسرائيل وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية، سعيًا إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ما سيؤدّي بشكلٍ شبه مؤكّد إلى التنافس في ما بينها واستمرار حالة انعدام الاستقرار. فقد تدخّلت باكستان بلا هوادة في أفغانستان، إذ دعمت حركة طالبان وأطالت أمد الحرب والبؤس هناك. والآن، ساءت العلاقات كثيرًا بين باكستان وطالبان، وتواجه إسلام أباد حالةً متزايدة من انعدام الاستقرار. واقع الحال أن ما تزرعه الدول سوف تحصده في نهاية المطاف، ويجب أن يشكّل هذا الأمر عبرةً للجميع. لكن، للأسف، تبدو الدول دومًا مستعدّة لتفضيل المكاسب التكتيكية قصيرة الأمد على تحقيق الاستقرار طويل الأمد، وأنا متأكّد من أن الأوضاع في سورية ستسير وفق هذا المنوال.
ربما ثمّة فائدة تُرجى من "مجموعة أصدقاء سورية"، وهي عبارة عن تجمّعٍ لمعظم الدول المذكورة آنفًا، إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لتنسيق الإجراءات في ما بينها ومحاولة التوصّل إلى نوعٍ من التوافق في وجهات النظر حول كيفية تحقيق التعافي في سورية وإرساء الاستقرار في المنطقة. وسيتطلّب ذلك بذل مجهودٍ دبلوماسي يتّسم بالمهارة والوعي، وهذا ما يفتقر إليه المشهد الراهن على ما يبدو. لكن بشكلٍ عام، كلّما قلّ تدخّل القوى الخارجية، كان ذلك أفضل. من الصعب الإشارة إلى أي نجاحات حديثة في عمليات بناء الدول ما بعد الصراعات بمشاركة الأطراف الخارجية. لذا، سيكون من الأفضل للسوريين أن يديروا هذه العملية بأنفسهم، إذ إن في أوساطهم أعدادًا غفيرة من الأشخاص الأذكياء والقادرين على ذلك، سواء في الداخل أو الخارج. ولكن قد يكون من السذاجة للغاية التفكير بأن الأطراف الخارجية ستسمح لهم بتسلّم زمام الأمور بمفردهم.