ستيفان مالساين كاتب وأستاذ مادّة التاريخ في معهد الدراسات السياسية في باريس (Sciences-Po). هو مؤلّف كتب عدّة، من ضمنها كتابٌ بعنوان Fouad Chéhab, Une Figure Oubliée de l’Histoire Libanaise (فؤاد شهاب: شخصية منسيّة من تاريخ لبنان) صدر عن دار Karthala للنشر في العام 2011، وآخر بعنوان Sous l’Œil de la Diplomatie Française: Le Liban de 1946 à 1990 (تحت أنظار الدبلوماسية الفرنسية: لبنان بين 1946 و1990) صدر عن دار Geuthner للنشر في العام 2017. علاوةً على ذلك، شارك مع ديما دو كليرك في تأليف كتاب سيصدر قريبًا بعنوان Le Liban En Guerre: De 1975 à Nos Jours (لبنان في زمن الحرب: من العام 1975 وحتى يومنا هذا)، مع الإشارة إلى أن هذا الإصدار هو نسخة محدّثة من كتاب نُشر في العام 2021. أجرت "ديوان" مقابلة مع مالساين في أواخر شباط/فبراير لمناقشة السيرة الذاتية التي وضعها عن فؤاد شهاب.
مايكل يونغ: كتابك سيرة آسرة وضرورية جدًّا عن فؤاد شهاب، الذي كان رئيس جمهورية لبنان بين العامَين 1958 و1964. لكن هل لي أن أستهلّ هذه المقابلة باختلافٍ في الرأي؟ العنوان الفرعي لكتابك هو "شخصية منسيّة من تاريخ لبنان". لكن شهاب ليس شخصية منسيّة في لبنان على الإطلاق، بل يبدو أن الكثير من اللبنانيين في حالةٍ من الترقّب الدائم لعودة شخصية شهابية إلى المشهد السياسي. عمّ أردتَ أن تعبّر من خلال هذا العنوان الفرعي؟
ستيفان مالساين: سيرة فؤاد شهاب، التي نُشرت في العام 2011، هي ثمرة بحثي في إطار إعداد رسالة الدكتوراه، حيث سعيتُ إلى سدّ فجوة تاريخية كبيرة في حياة هذه الشخصية السياسية الإصلاحية اللبنانية البارزة وإرثها. عند تاريخ نشر الكتاب، لم تتوافر سيرة علمية باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو العربية عن شهاب، الأمر الذي دفعني إلى إجراء هذا البحث. ومع أن الكثير من الباحثين رأوا قواسم مشتركة بين شهاب وشارل ديغول، تبدو أهمية هذه المقارنة مبالغًا فيها. كان الغرض من بحثي إذًا معرفة أسباب استمرار مكانة فؤاد شهاب وشعبيّته في أوساط اللبنانيين.
في ظلّ غياب سيرٍ شاملة حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بقي فؤاد شهاب زعيمًا عربيًا مغمورًا في مجال البحث الأكاديمي، ولم يكن معروفًا تقريبًا للجمهور الغربي، ولا سيما في فرنسا، حيث صدر كتابي. أُجادل في هذه السيرة الذاتية، بأن فؤاد شهاب (1902-1973) لا يمكن اختزاله في الشهابية التي تشير إلى فترة رئاسته الإصلاحية (1958-1964) والتي بقيت روحيّتها مستمرّة خلال عهد خلفه شارل حلو (1964-1970). توفّر مسيرة شهاب الشخصية منظورًا فريدًا يمكن من خلاله دراسة الأحداث والقضايا الرئيسة التي شكّلت تاريخ لبنان الحديث، بدءًا من فترة الانتداب الفرنسي ووصولًا إلى الحرب الأهلية في العام 1975.
ويرتبط السبب الثاني لعنوان الكتاب بنظرة الشعب اللبناني إلى تاريخه. فكثرٌ من الناس لا يزالون يعتقدون أن العصر الذهبي للبنان وأسطورة "سويسرا الشرق" مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بعهد كميل شمعون (1952-1958)، عندما طُبّقَت السرية المصرفية في لبنان (1957)، أكثر من ارتباطهما بفترة رئاسة خلفه فؤاد شهاب (1958-1964). لكن السيرة التي وضعتُها تشدّد على أن العصر الذهبي يكمن في مكان آخر، في أول محاولةٍ في عهد شهاب لبناء دولة حديثة في لبنان قائمة على المؤسسات الحديثة، والعدالة الاجتماعية، وسياسة تنمية المناطق الطرفية المتأخرة تنمويًا. كان معظم اللبنانيين، باستثناء الأجيال الشابة، يعرفون فؤاد شهاب، لكنني أدركت خلال بحثي أن معظمهم لم يدرك أهمية الإصلاحات المؤسسية والاجتماعية التي انطلقت في عهده بمساعدة البعثة الفرنسية التابعة للمعهد الدولي للبحث والتدريب والتعليم بقيادة الكاهن الدومينيكاني لويس جوزيف لوبريه. في الواقع، لا تُدرّس هذه الفترة المهمّة من تاريخ لبنان في المدارس اللبنانية اليوم، ولا تزال غير مُدرَجة بشكل جيّد في مناهج الجامعات اللبنانية.
وبفضل المصادر الجديدة وغير المنشورة التي أُتيحت لي فرصة الاطّلاع عليها، قدّمت تحليلاً أدقّ بكثير لهذه الفترة الإصلاحية، كي يتمكّن اللبنانيون من إعادة اكتشاف تاريخهم. لقد ترك شهاب إرثًا مزدوجًا في السرديات اللبنانية الحالية: صورة رئيسٍ أجرى إصلاحات مهمة وحاول تقويض النظام الطائفي؛ وصورة رئيسٍ انتهك الحريات وأرسى نظامًا سلطويًا من خلال ضباط المكتب الثاني الشهير في الجيش اللبناني، أو جهاز الاستخبارات العسكرية، ولا سيما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي نفّذها الحزب السوري القومي الاجتماعي في العام 1961. وعلى الرغم من أن المكتب الثاني تدخّل بلا شك في العمليات الانتخابية خلال ستينيات القرن المنصرم، أظهرتُ أن هذه السمعة كانت جزءًا من رواية تآمرية عن فؤاد شهاب صاغها خصومه من المسيحيين والمسلمين السنّة. وبعد وفاة شهاب، تبنّى الكثير من السياسيين والنخب الإصلاحية في لبنان إرثه وسعوا إلى التركيز على قضية إصلاح الدولة والعدالة الاجتماعية، بما في ذلك خلال سنوات الحرب الأهلية (1975-1990). وفي أعقاب الحرب، ظلّ الحديث عن شهاب وسياساته الإصلاحية يطلّ بانتظامٍ على المشهد السياسي اللبناني، وبخاصةٍ حينما تحدّر الرؤساء المنتخبون، مثل شهاب نفسه، من المؤسسة العسكرية. وقد رأينا ذلك مجدّدًا في الآونة الأخيرة مع انتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية.
يونغ: بعد أن أنهيتَ كتابك، ما الخلاصات البارزة التي توصّلت إليها حول شهاب، وهل تشعر أن شهابًا آخر ممكنٌ في السياق اللبناني الراهن؟
مالساين: تبيّن هذه السيرة الذاتية بوضوحٍ احتقار فؤاد شهاب للطبقة السياسية اللبنانية. فهو رأى أن بلاده تعاني من الشلل بسبب الطائفية السياسية وشبكات المحسوبيات التي كان يسمّيها "أكَلَة الجبنة"، أو أولئك الذين اعتادوا على تقاسم "قالب جبنة" الدولة في ما بينهم. علاوةً على ذلك، لم تُغره أبدًا السلطة أو الاحتفاظ بها. وبصفته قائدًا للجيش اللبناني، رفض بدايةً الترشّح للرئاسة في العام 1952، على الرغم من الدعوات المتكرّرة له بذلك. وفي العام 1958، في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية الأولى، قبِل على مضض بالترشّح في اللحظة الأخيرة لأن اسمه كان موضع توافق بين مصر بقيادة جمال عبد الناصر والأميركيين. وقد ذكر شهودٌ حتى أن أجراس بلدته الكسروانية قُرعَت حزنًا على انتخابه في تموز/يوليو. وخلال عهده، أنجز مهمّته في إرساء النظام وإطلاق سلسلةٍ من الإصلاحات في الدولة وإداراتها. وفي تموز/يوليو 1960، أعلن عن استقالته من رئاسة الجمهورية، لكنه تراجع في نهاية المطاف عن قراره هذا بضغطٍ من النواب، وربما من زوجته أيضًا. لكن ما أبداه شهاب من ازدراءٍ للسلطة شكّل ظاهرةً غير مسبوقة في تاريخ لبنان بعد الاستقلال. وفي العام 1964، رفض تمديد ولايته، مع أن كثرًا شجّعوه على ذلك.
حاول فؤاد شهاب، بصفته رئيسًا للجمهورية وانطلاقًا من إعجابه بشارل ديغول، رسم صورة الرئيس الصادق والتقي الذي يعيش حياة بسيطة ويرفض الثراء والتكريم. كانت قضاياه الرئيسة هي المصلحة العامة، ووحدة اللبنانيين، والاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، وسيادة بلاده. أراد إذًا أن يقدّم نموذجًا مضادًّا للطبقة السياسية الحاكمة في لبنان.
ثانيًا، كان لديه إيمانٌ راسخٌ بأن الالتزام الصارم بالدستور اللبناني أمرٌ أساسي لاستقرار لبنان. مع ذلك، كان متردّدًا بشدّة في ممارسة التعيينات السياسية والإدارية على أساس الانتماء الطائفي، وهو ما اعتبره عقبة كبرى أمام تطوّر البلاد. وقد تَجسّد هذا الموقف من خلال تصريحه الشهير في 4 آب/أغسطس 1970، بأنه لا يستطيع الترشّح لولاية رئاسية جديدة ما لم يتمّ إصلاح الدستور. وكان يعلم جيّدًا استحالة هذا الأمر آنذاك. فهو أدرك أن الجهود الرامية إلى تنفيذ الإصلاحات ستُقابَل على الأرجح بمعارضة القوى المحافِظة التي كانت تسعى إلى الحفاظ على امتيازاتها. فَشِل شهاب إذًا في تحدّي الطائفية السياسية. مع ذلك، أثبت أنه كان رجلًا رؤيويًّا، لأن هذه القضايا يحملها اليوم جيلٌ صاعدٌ من الإصلاحيين الذين أدركوا أن الطائفية السياسية كانت عاملاً رئيسًا في شلل العملية الإصلاحية في لبنان.
إن المقارنة بين رئاسة شهاب والحاضر اللبناني ليست سابقة لأوانها فحسب، بل هي أيضًا مقاربة غير مُجدية تاريخيًا. فالسياقان مختلفان تمامًا ويجب على المؤرّخين تجنّب اقتراف هذا الخطأ. وليس من الحكمة الحديث عن شهاب جديد في العام 2025 مقابل جوزاف عون، كما فعل البعض. ثمّة بعض أوجه التشابه، بما في ذلك حقيقة أن الاثنَين قائدان سابقان للجيش اللبناني تمّ انتخابهما في سياق الحرب بعد التوصّل إلى توافق إقليمي ودولي (مصر والولايات المتحدة في العام 1958؛ ثم الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، على ضوء ضعف حزب الله، في العام 2025). وقد رأى الكثير من المراقبين الغربيين في شهاب وعون رجلَين قادرَين على إنقاذ بلادهما. لكن الشبه ينتهي عند هذا الحدّ. فالكثير من اللبنانيين ما عادوا يطالبون برجل واحدٍ لإنقاذهم؛ فقد أوضحوا خلال الحراك الاحتجاجي في العام 2019 أنهم يريدون رئيسًا قادرًا على الشروع في الإصلاحات.
في العام 1958، انتُخب شهاب في مجلس النواب من دون وجود جيش أجنبي. كان هذا عكس العام 2025، بعد أن قصف الجيش الإسرائيلي ودمّر جزءًا كبيرًا من لبنان، ولا سيما جنوب البلاد وضاحية بيروت الجنوبية، ما أسفر عن الكثير من القتلى في صفوف المدنيين اللبنانيين، وأعدادًا كبيرة من النازحين، واحتلال جزءٍ من الجنوب. ولم يتمّ كذلك انتخاب شهاب بحضور سفراء أجانب أتوا لتقديم دعمهم، كما حصل في العام 2025 مع جوزاف عون الذي تلقّى التهنئة أمام عدسات الكاميرات من مسؤولين أميركيين وفرنسيين وعرب، ما أعطى انطباعًا بأنه رئيسٌ ضعيف يرزح تحت سيطرة الغرب المباشرة ويعتمد على المساعدات المالية الغربية لتنفيذ الإصلاحات. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن جوزاف عون كان قبل تولّيه رئاسة الجمهورية قائدًا لجيشٍ ضعيفٍ ومُهان في آن. فقد كان هذا الجيش عاجزًا تمامًا عن حماية البلاد من القصف الإسرائيلي. ونظرًا إلى الموارد العسكرية المحدودة التي كانت متاحة لشهاب آنذاك، من المرجّح أن أداءه كان ليكون مشابهًا.
في بداية ولاية شهاب، عند نهاية أزمة العام 1958، عاين بيئةً إقليمية أكثر استقرارًا ممّا هي عليه اليوم. وقد سهّل عليه ذلك تنفيذ إصلاحاتٍ حظيت بدعم غالبية الأحزاب السياسية المتناحرة. وقد اجتمعت هذه الأحزاب في السابق ضمن حكومة تشكّلت تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب" عقِب الحرب الأهلية المصغّرة في العام 1958.
شكّلت سياسة شهاب الخارجية القائمة على الحياد الصارم خطوة استراتيجية لتهدئة الخلافات الداخلية الناجمة عن توجّهٍ اعتبره المسلمون غربيًا على نحو مفرط، ساد خلال رئاسة كميل شمعون، وتوجّهٍ اعتبره المسيحيون عروبيًا على نحو مفرط، حملت رايته الفصائل الناصرية. وقد أثمرت هذه المقاربة الدبلوماسية عن مكاسب مهمّة، إذ وفّرت للبنان نحو ست سنوات من الاستقرار النسبي على الرغم من الانقلاب الفاشل الذي نفّذه الحزب السوري القومي الاجتماعي في العام 1961. وقد سهّلت هذه الأوضاع المستقرة النظر في تطبيق إصلاحاتٍ طويلة الأمد تهدف إلى إرساء دولة حديثة قائمة على مبادئ الإصلاح والعدالة الاجتماعية وتنمية المناطق بشكلٍ متناسق.
في السياق الراهن، يبدو أن الشروط الآنفة الذكر لانتهاج سياسة إصلاحية مستقلة تحظى بقبول جميع اللبنانيين غير متوافرة، بسبب البيئة الخارجية غير المستقرة إطلاقًا. فإسرائيل لا تزال تحتلّ خمسة مواقع داخل لبنان، على الرغم من البنود التي تنصّ على انسحابها الكامل من البلاد؛ ولا يزال الجيش الإسرائيلي ينتهك السيادة اللبنانية بانتظام من خلال إرسال طائرات مسيّرة لقصف مواقع يقول إنها تابعة لحزب الله. إضافةً إلى ذلك، تُعدّ الضغوط الغربية (الأميركية بشكل أساسي) والإسرائيلية على الحكومة اللبنانية كبيرة جدًّا ولا تسهم في إرساء الاستقرار. فالشيعة يتعرّضون للضغوط ويشعرون بأنهم مستهدَفون من التحالف الجديد بين الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام. فبدلاً من انتهاج سياسة "لا غالب ولا مغلوب"، صدرت أوامر للحكومة اللبنانية، بإشراف أميركي وإسرائيلي، بتقليص نفوذ حزب الله قدر المستطاع، وإلّا فستخسر المساعدات المالية. حتى إن الحكومة اللبنانية اضطرّت إلى حظر الرحلات الجوية بين بيروت وطهران. وعلى الرغم من أن إسرائيل اغتالت كبار القادة في حزب الله، وأن الجيش اللبناني انتشر في الجنوب، ما زال الحزب، المتمسّك بسلطته، يحتفظ بترسانة عسكرية كبيرة ويواصل ممارسة نفوذه من خلال التأثير على سياسات الحكومة التي تُعلن أنها إصلاحية. ومن السابق لأوانه بعد معرفة ما إذا ستنجح هذه الحكومة في تنفيذ الإصلاحات اللازمة.
يونغ: ثمة بُعدٌ سوسيولوجي مثيرٌ للاهتمام في شهاب، الذي تحدّر من عائلة نبيلة. في العادة، لا يلتحق أشخاصٌ مثله بالجيش، لكن والده اختفى عندما كان فؤاد شابًا وكانت عائلته بحاجةٍ إلى المال، لذا يبدو أنه انضمّ إلى الجيش بسبب الضائقة المادّية. كيف أثّر ذلك على هذا الرجل؟
ملساين: ترك الجيش أثرًا عميقًا في شخصية فؤاد شهاب ومسيرته المهنية. فعلى الرغم من انتمائه إلى عائلة مارونية عريقة تتحدّر من الأمير بشير الثاني، حاكم جبل لبنان في القرن التاسع عشر، التحق بالجيش بعد الحرب العالمية الأولى لأسباب اقتصادية. فقد عانت عائلته الكسروانية الأصل الأمرّين خلال الحرب. وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، تمّ إرساله إلى الأكاديميات العسكرية الفرنسية لتلقّي التدريب. وسرعان ما لاحظ الضباط الفرنسيون إمكانياته القيادية، وأصبح في العام 1945 الأب المؤسس للجيش اللبناني، وهو دور لا تزال المؤسسة العسكرية في لبنان تحترمه حتى يومنا هذا. تركت الفترة التي أمضاها في فرنسا تأثيرًا لا يُمحى في نفسه، بحيث نسج رابطًا عميقًا مع فرنسا، وحمل نحوها مشاعر إعجاب قوية وجّهت قراراته السياسية خلال ولايته الرئاسية منذ العام 1958. عند عودته إلى لبنان، تبوّأ مناصب عدّة في صفوف "قوات الشرق الخاصة" التي قادها ضباط فرنسيون.
في تلك المرحلة، ترك أمران أثرًا في نفسه: كان الأول لقاءه بشارل ديغول في لبنان في أواخر عشرينيات القرن الماضي. لقد أُعجب شهاب بديغول كثيرًا واعتبره قدوة سياسية مدى الحياة، على الرغم من أن شهاب لم يلتقِ به رسميًا خلال عهده الرئاسي. وتمثّل الأمر الثاني في انخراطه كضابط شاب في تأمين المناطق الخاضعة للانتداب الفرنسي من خلال مكافحة قطّاع الطرق. وهكذا، لاحظ عن كثب حالة التأخّر التنموي الذي عانى منه الكثير من السنّة والشيعة في المناطق النائية من شمال لبنان وجنوبه وسهل البقاع. لقد ساعد الجيش شهاب على رؤية المشاكل الاجتماعية والتنموية التي يتخبّط فيها لبنان. فالكثير من اللبنانيين المسلمين، الذي أهملتهم الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، لم يعتبروا أنفسهم لبنانيين في دولة لبنان الكبير التي أعلنتها فرنسا في العام 1920. فجزءٌ كبير من الأراضي اللبنانية الطرفية لم تكن لديها طرق أو مدارس، ولم تصل إليها شبكات الكهرباء أو المياه.
هذا السياق ضروري لفهم ثورة العام 1958 التي قادها الزعماء السنّة من هذه المناطق ضدّ كميل شمعون، الذي اتُّهم بانتهاك الميثاق الوطني على خلفية سياساته الموالية للغرب وتفضيله بيروت ولبنان المسيحي على حساب المناطق المسلمة. وقد رفض شهاب، الذي كان قائدًا للجيش في العام 1958، رفضًا قاطعًا تنفيذ أوامر كميل شمعون باستخدام الجيش لقمع من أسماهم شمعون آنذاك "المتمردّين".
كان موقف الحياد الذي اتّخذه الجيش اللبناني خلال أحداث العام 1958 ضروريًا من أجل تهدئة الأوضاع في البلاد، وتمهيد الطريق أمام تقديم فؤاد شهاب كمرشّح توافقي للرئاسة، وهو أمرٌ قَبِل به المعسكران المتناحران. لقد أظهر شهاب التزامًا ثابتًا بالحفاظ على هذا الموقف الحيادي خلال مسيرته المهنية. وأدرك أن السبيل لتعزيز وحدة بلاده وترسيخ الهوية اللبنانية لا يكمن فحسب في تبنّي الحياد في الشؤون الخارجية، بل أيضًا في انتهاج سياسة طموحة لتنمية المناطق النائية، وهي خطة شرع في تنفيذها خلال ولايته الرئاسية. أسّس شهاب الجيش اللبناني وتولّى قيادته، فكان نموذجًا ومرآةً للمجتمع. وشكّلت المؤسسة العسكرية تحت قيادته مثالًا ساطعًا للوحدة الوطنية والمواطنة والشجاعة والعمل الدؤوب. مع ذلك، ساهم الجيش عن غير قصد أيضًا في السردية التآمرية حول الشهابية، حين اتُّهم ضباط خلال ولايته الرئاسية وبعدها بالتدخل في الألاعيب السياسية لدعم المرشحين الشهابيين، مع العلم بأن شهاب أكّد دومًا أنه لم يشجّع مثل هذا التدخل.
يونغ: كيف تصف جهود شهاب الإصلاحية خلال ولايته الرئاسية؟ ما نوع النخبة الجديدة التي شكّلها، ومَن تولّى تنفيذ إصلاحات الرئيس، وهل كانت ناجحة؟
ملساين: في بداية ولاية شهاب الرئاسية، أطلق سلسلة من الإصلاحات، كان أولها إصلاحات إدارية نُفِّذت بموجب مرسوم اشتراعي في العام 1959، بهدف تعزيز كفاءة الدولة اللبنانية. وتمّ تأسيس هياكل جديدة لا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم، بما فيها مجلس الخدمة المدنية الذي يحرص على تعيين موظفين يتمتّعون بكفاءة أكبر لخدمة الدولة، ومديرية الإحصاء المركزي التي تهدف إلى جمع بيانات دقيقة حول الظروف الاقتصادية والاجتماعية في لبنان. وشكّل مفهوم تحصين الدولة وتحسين فاعليتها، من خلال إنشاء جهاز إحصائي ووضع سياسة تخطيط مرنة، نهجًا جديدًا في لبنان، حيث فضّلت النخب تاريخيًا منذ استقلال البلاد في العام 1943 جمهورية التجار ومبدأ عدم تدخل الدولة في الاقتصاد.
أما المجال الأساسي الثاني الذي طالته الإصلاحات فقد ارتبط بالتنمية الاقتصادية في المناطق، وشملت التدابير المُتّخذة ربط الأنحاء النائية بسائر مناطق البلاد من خلال شبكة الطرق، وإيصال الكهرباء إلى القرى البعيدة، وإنشاء شبكة إمدادات خاصة بمياه الشرب، وتطوير المدارس في القرى.
عهَد شهاب بهذه السياسة التنموية إلى وزارة التصميم العام التي أُنشئت في عهد شمعون، والتي تعزّزت صلاحياتها بدءًا من العام 1959 وما بعد. وتعاونت هذه الوزارة بشكل وثيق مع البعثة الفرنسية التابعة للمعهد الدولي للبحث والتدريب والتعليم، التي كلّفها شهاب بمهمة أساسية في أعلى مستويات الدولة. خلال العام 1959، أُوكلت إلى هذه البعثة، التي ضمّت خبراء فرنسيين ولبنانيين، مهمة تقييم حاجات السكان وإمكانيات التنمية في المناطق الطرفية اللبنانية. وفي العام 1960، نشرت البعثة تقريرًا استُشهد به على نطاق واسع، وكشف النقاب عن التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الضخمة بين أقلية تستحوذ على الجزء الأكبر من الثروة وتتمركز بشكل أساسي في محيط بيروت، وبين شريحة سكانية كبيرة وفقيرة من المسلمين الشيعة كانت معزولة تمامًا عن مركز الرخاء هذا. وخلُص التقرير أيضًا إلى ضرورة تطوير القطاعات الإنتاجية، على غرار قطاعَي الزراعة والصناعة اللذَين لا يسهمان بشكل كافٍ في الناتج القومي الإجمالي مقارنةً مع قطاع الخدمات. وبالتزامن مع عمل البعثة، أصدر لبنان قانون الضمان الاجتماعي استنادًا إلى النموذج الفرنسي، مُرسيًا بذلك أُسس دولة الرفاه الاجتماعي.
أما المفهوم الأساسي الجديد التي قدّمه عهد شهاب فتمثّل في الرغبة غير المسبوقة في زيادة الجدارة داخل دوائر الدولة بدلًا من ممارسات التوظيف التقليدية القائمة على الطائفية والمحسوبيات، والتي انحازت لصالح العائلات السياسية التقليدية أو الزعامات. بدلًا من ذلك، حاول شهاب الترويج للتكنوقراط باعتبارهم نواة نخبة سياسية جديدة داخل الدولة، تستند بصورة أساسية إلى المهارات. وضمّت هذه النخبة الكثير من المهندسين المسلمين الذين شغلوا، للمرة الأولى في تاريخ لبنان، الكثير من المناصب المهمّة في الدولة. إذًا، شكّلت الشهابية العصر الذهبي الأول للمهندسين اللبنانيين، الذين تلقّوا بمعظمهم التدريب خارج البلاد، وأيضًا للخبراء الأجانب المتخصّصين في جميع المجالات الذين استعانت بهم الدولة لتحديث البلاد.
شغل هؤلاء التكنوقراط اللبنانيون، الذين تمعّنتُ في دراسة أدوارهم، مناصب استراتيجية في مختلف الإدارات الرسمية (وشكّلوا بالفعل إدارة موازية لم يعد ينطبق فيها منطق التوظيف على أساس الانتماء الطائفي)، وفي المديريات العامة للوزارات، وحتى في الرئاسة، حيث كان فريق من الخبراء يقدّم المشورة لشهاب. وقد تولّى بعضهم منصب رئاسة الدولة، على غرار الياس سركيس خلال الحرب الأهلية بين العامَين 1975 و1990، فيما سعى بعضهم الآخر إلى إحياء روحيّة الإصلاحات الشهابية، مثلًا خلال الحرب الأهلية وخلال مرحلة إعادة إعمار لبنان بعد العام 1990.
لا بدّ من تقييم نتائج الإصلاحات الشهابية. لا شكّ في أن الدولة اللبنانية الحالية تدين بقسم مهم من مؤسساتها إلى شهاب. وخير مثال على ذلك المجلس الوطني للبحوث العلمية الذي أسّسه فؤاد شهاب، ونشر مؤخرًا تقريرًا مفصّلًا عن حجم الدمار الهائل الذي أحدثته إسرائيل في 2023-2024. وأدّت سياسة تنمية المناطق التي أُطلقت في الستينيات إلى مدّ شبكة الطرق إلى الكثير من القرى وتزويدها بالتيار الكهربائي، ناهيك عن تطوير أساليب الريّ والقطاع الزراعي. مع ذلك، لم ينجح تدخّل الدولة في إرساء التوازن بين القطاعات الإنتاجية في لبنان. لقد واجه شهاب مقاومة من الزعماء المحليين ومن مسؤولي الكنيسة المارونية، الذين رأوا أن تدخل الدولة في تنمية المناطق يهدّد امتيازاتهم وصلاحياتهم. كذلك تمّ إلغاء بعض الإصلاحات التي أجراها شهاب في عهد الرئيس شارل حلو، ناهيك عن أن النخب التكنوقراطية التي عيّنها شهاب فشلت في فرض نفسها في وجه السياسيين. وأدّى تشييد الطرق لربط المناطق الطرفية بالمركز إلى تسريع نزوح الفقراء الشيعة من الجنوب نحو ضاحية بيروت الجنوبية في أواخر الستينيات، الأمر الذي عزّز الراديكالية السياسية للشيعة قُبيل الحرب الأهلية. هذه إحدى مفارقات الشهابية التي اعتبرنا أنا وزميلتي ديما دو كليرك أنها شكّلت عاملًا من العوامل المؤدّية إلى الحرب الأهلية، في كتابنا Le Liban En Guerre: De 1975 à Nos Jours (لبنان في زمن الحرب: من العام 1975 وحتى يومنا هذا)، والذي يصدر في آذار/مارس الجاري، مع الإشارة إلى أنه نسخة محدّثة من كتاب نشرناه في العام 2021.
يونغ: تطرّقت في السيرة الذاتية التي وضعتها إلى فترة ما بعد العام 1964، أي بعد انتهاء ولاية شهاب الرئاسية، حين شهد لبنان اضطرابات كبيرة، إذ وقعت أعمال قتالية في جنوب البلاد بين الفلسطينيين وإسرائيل، أفضت إلى إبرام اتفاق القاهرة في العام 1969. إذا أمكنك أن تلخّص شهاب خلال تلك الفترة، فما هو أكثر ما كان يلفت النظر فيه؟
ملساين: بعد العام 1964، اعتزل شهاب رسميًا الحياة السياسية، لكنه بقي مؤثّرًا، بحيث كان كثرٌ يقصدونه لاستشارته حيال التطوّرات في البلاد. ومع أنه لم يعد قائدًا للجيش اللبناني منذ العام 1958، ظلّ يتمتّع بهيبة قوية جدًّا داخل المؤسسة العسكرية. وفي عهد الرئيس شارل حلو، كثُرت المزاعم بتدخّل المكتب الثاني في السياسات الانتخابية لصالح المرشحين الشهابيين، لكن شهاب لطالما أكّد على أن هذه الممارسات هي تجاوزات لا يقبلها. وفي النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كان شهاب قلقًا للغاية حيال التطوّرات في لبنان، بعد إلغاء بعض الإصلاحات الاقتصادية التي نفّذها، بضغطٍ من القوى المحافظة.
أما المسألة الثانية التي أثارت قلقه فتمثّلت في الانقسامات المتزايدة داخل المجتمع اللبناني والحياة السياسية في البلاد، فضلًا عن تنامي أعمال العنف نتيجة التأثير المتزايد للعامل الفلسطيني بعد حرب حزيران/يونيو 1967. وفي آخر أيامه، أُصيب شهاب بالخيبة. وفي رسالة كتبها في العام 1965، توقّع اندلاع حربٍ أهلية جديدة في لبنان، وقد اشتعلت جذوتها بالفعل بعد عشر سنوات. لقد اعترف شهاب بشرعية القضية الفلسطينية والكفاح المسلح الذي تخوضه منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه رفض السماح لها بالتمركز في لبنان لتنفيذ عملياتها العسكرية ضدّ إسرائيل، حفاظًا على وحدة بلاده. وقد أعرب بوضوحٍ عن رفضه اتفاق القاهرة الذي وقّعه قائد الجيش اللبناني آنذاك العماد إميل البستاني في العام 1969.
يونغ: ختامًا، وكما ذكرنا سابقًا، يرى البعض أن الرئيس اللبناني الجديد جوزاف عون يسير على خطى فؤاد شهاب (سنرى قريبًا إن كانوا محقّين أو خاطئين). في إطار دراستك لما تسمّيه الأسطورة المحيطة بشهاب وتأثيرها وصداها، هل يكشف لنا ذلك نوع التحديات التي يُحتمل أن يواجهها الرئيس الحالي؟
ملساين: بُعيد انتخاب جوزاف عون رئيسًا للجمهورية، سارع بعض المحللين ووسائل الإعلام اللبنانية إلى تصويره على أنه رئيس قوي والشخص المناسب لهذا المنصب، حتى قبل أن يشرع في أي إصلاحات. لكننا رأينا الظروف الخاصة المحيطة بعملية انتخابه. وقد حدث الأمر نفسه في العام 1958 مع فؤاد شهاب، الذي أصبح رجل المرحلة مباشرةً بعد الحرب الأهلية المصغّرة. لكن كان لشهاب مطلق الحرية في تنفيذ برنامج إصلاحي طموح من دون ضغوط دولية، ومن دون أن يضطر إلى التعامل مع وجود قوة عسكرية نافذة في البلاد، مثل حزب الله الذي يصفه كثرٌ اليوم بأنه دولة داخل الدولة. ولم يكن شهاب أيضًا في مواجهة جيش إسرائيلي ينتهك سيادة الأراضي اللبنانية بصورة يومية، ويستهدفها بطائراته الحربية ومسيّراته. هذه هي تحديدًا النقطة التي تدعم الحجة القائلة إن المُقارنة بين شهاب وعون ليست مجدية في نهاية المطاف. لقد استحق شهاب في نهاية ولايته الرئاسية لقب الرئيس الإصلاحي ورجل الدولة لأنه امتلك رصيدًا سياسيًا حقيقيًا يصبّ في مصلحته. وساهم موقفه الحيادي في السياسة الخارجية واستقلاليته عن القوى العظمى في تسهيل عملية اتخاذ القرارات. وعلى الرغم من دعم الولايات المتحدة لانتخابه، لم يختر الانحياز إلى واشنطن، مفضّلًا الاعتماد على مساعدة فرنسا في إنماء بلاده.
ربما بدأت بالفعل مساعٍ لتشكيل أسطورة جوزاف عون. لكن غياب أي تدابير ملموسة لتحقيق تعافي لبنان بسرعة، من دون إقصاء أي طائفة لأسباب سياسية (الطائفة الشيعية هي مثال راهن)، قد يحوّل هذه المساعي إلى مجرّد واجهة خادعة. وتبدو قدرة عون على المناورة بشكل مستقل، من دون الرضوخ لضغوط إدارة ترامب الجديدة وللابتزاز من أجل الحصول على المساعدات المالية الغربية، محدودة راهنًا. إن الوقت وحده كفيلٌ بإخبارنا ما إذا كان عون يتحلّى بالشجاعة الكافية للوقوف في وجه واشنطن والارتقاء إلى مصاف الأسطورة التي يحاول البعض نسجها له.