المصدر: Getty
مقال

دروز سورية يقفون وحدهم

فيما بدأت الولايات المتحدة برفع العقوبات عن سورية والانخراط مع قيادتها، تتوجّس الأقليات ممّا هو آتٍ.

 رابح غضبان
نشرت في ٢٦ مايو ٢٠٢٥

في ليلةٍ صحراويةٍ خارج مدينة السويداء، يتكئ رجلٌ مسنٌّ على عصاه، ملفوفًا بسترة صوفية فوق العباءة السوداء التقليدية، وجعبته مليئة بالذخيرة، ويخاطب الناس المتحلّقين حوله، قائلًا: "اللي بيشتغل معنا صح، نحنا معه صح". لكن إن لم يفعلوا ذلك، "حتى المريض اللي على عكّازته، بس يلزم بيزتّ عكّازته وبيحمل سلاحه".

هذا الرجل هو الشيخ يحيى الحجار، قائد حركة رجال الكرامة، أبرز ميليشيا درزية في سورية. خلال زيارتي الأخيرة إلى السويداء والمناطق المحيطة بها، تحدّثتُ مع مقاتلين وزعماء دينيين ومواطنين وصفوا واقعهم بعبارات صريحة، شارحين أن الدروز معزولون ويشعرون بالتهديد ومتروكون لتدبّر أمورهم بأنفسهم.

خلال الأسابيع الأخيرة، أفادت تقارير بمقتل أكثر من 100 درزي على خلفية انتشار تسجيل صوتي مُفبرَك مُسيء للنبي محمّد نُسب إلى أحد أفراد الطائفة الدرزية. وسرعان ما وقعت اشتباكاتٌ عنيفة في السويداء ومناطق درزية في ريف دمشق. وقد تنصّلت الحكومة من المسؤولية، مُلقيةً اللوم على "عناصر خارجين عن القانون"، لكن مشاهد الدبابات والقتل والإذلال العلني للدروز غمرت مواقع التواصل الاجتماعي.

يظهر في أحد مقاطع الفيديو مسلحٌ يُرغم رجلًا مسنًّا على الثغاء كالخراف، فيسأله الرجل "معقول عم تطلب منّي هيك؟"، قبل أن يُصفع مرارًا. وفي مقطع آخر، يجري حلق شوارب شبّان دروز قسرًا بهدف تحقيرهم عبر استهداف رمز ثقافي له جذور عميقة لدى الدروز. إذًا، عادت ممارسات الإذلال التي طبعت لفترةٍ طويلة الحكم السلطوي في سورية إلى المشهد بقوة. ردًّا على ما يحدث، أصدر الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز في سورية، نداءً عاجلًا بتوفير الحماية الدولية، واصفًا هذه الهجمات بأنها "جرائم إبادة".

انتشرت المشاعر المعادية للدروز في أماكن أخرى أيضًا. ففي حماة، هتف المتظاهرون "الدرزي عدّو الله". وفي جامعة في حمص، دعا متظاهرٌ إلى ذبح أي درزي يُصادفونه، ما أدّى إلى نزوح جماعي للطلاب الدروز إلى مناطق ذات غالبية درزية، حيث قال لي أحد سكانها: "إننا مستهدفون".

ليست هذه المرة الأولى التي يحدث ذلك. ففي العام 2015، أقدم عناصر من جبهة النصرة، التي أصبحت لاحقًا هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع، على قتل 20 درزيًا على الأقل في قرية قلب لوزة في محافظة إدلب. وأُرغم آخرون على اعتناق المذهب السنّي، وجرى تدنيس مقامات  الدروز وقبورهم. وفي العام 2018، نفّذ تنظيم الدولة الإسلامية تفجيرات وهجمات منسّقة في مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية، ما أسفر عن مقتل أكثر من 250 شخصًا وخَطف عشرات النساء والأطفال.

يرى الكثير من الدروز أن الشرع، الذي حارب في العراق إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية، قبل تأسيس هيئة تحرير الشام في سورية، يشكّل امتدادًا للإيديولوجيات المتطرّفة. وهم لا ينظرون إلى أعمال العنف الراهنة على أنها حوادث معزولة، بل جزءٌ من حملات ترويع متواصلة تُذكي مخاوف الدروز الراسخة منذ قرونٍ من وصمهم بأنهم زنادقة ومنبوذون.

إن ألم الدروز نتيجة تخلّي الحكومة الجديدة عنهم حادٌّ بشكلٍ خاص نظرًا إلى الدور الذي اضطلعوا به خلال الانتفاضة السورية. ففي السويداء، سرعان ما تحوّلت المظاهرات التي بدأت في آب/أغسطس 2023 احتجاجًا على ارتفاع أسعار الوقود، إلى مطالب أوسع نطاقًا بتغيير النظام. وكان مئات المتظاهرين يحتشدون في ساحة الكرامة في السويداء كل يوم جمعة. وقد أثار توقيت ذلك قلق كثيرين، إذ تزامن الأمر مع مساعي حذرة كان يبذلها جزءٌ من المجتمع الدولي تدريجيًا لإعادة تأهيل الأسد. واستنادًا إلى ما شهدتُه من قبل، حذّرتُ من أن الأسد، إن سنحت له الفرصة، سيردّ على أحداث السويداء كما فعل في المدن السورية المُعارضة الأخرى، من خلال قصفها وتهجير سكانها وشنّ حملة اعتقالات جماعية. لكن، مع ضعف قبضة الأسد، انضمّت حركة رجال الكرامة إلى فصائل المعارضة من درعا وتقدّمت نحو العاصمة.

قال لي الشيخ الحجار، "كنا في غرفة العمليات مع الفصائل الأخرى"، ثمّ أضاف وهو يضحك ضحكةً مكتومة: "وصلنا إلى دمشق قبل ساعاتٍ من وصول هيئة [تحرير الشام]". كان ذلك رهانًا جريئًا. فحينما سقط نظام الأسد أخيرًا، توقّع الدروز أن يتمّ الاعتراف بهم كشركاء في الانتفاضة.

لكن على العكس، قوبِلوا بالتجاهل، وعمَد الشرع إلى تهميش قادة الدروز من العملية الانتقالية. فقد استُبعد الشيخ الهجري من الحوار الوطني ومن صياغة مسودة الإعلان الدستوري المؤقت التي اتُفق عليها في آذار/مارس. وتحدّث خلال اجتماعنا عن حصوله على رسائل تطمين مبهمة من مبعوثين ثانويين، وقد شاركه الحجار إحباطه. وحذّر الهجري من أن دخول القوات التابعة للحكومة إلى المناطق الدرزية "سيُعتبر بمثابة احتلال"، في ظلّ غياب الضمانات الواضحة بأن سورية ما بعد الحرب ستكون مكانًا "لجميع الأطياف، لا للون واحد فقط".

ففي بلدة حضر الحدودية المختلطة بالقرب من مرتفعات الجولان المحتلّة، كانت أجواء التوتّر ملموسة. فقد أُطلق النار مؤخرًا على شيخ درزي، في جريمةٍ وصفها كثرٌ بأنها جريمة كراهية. وبعد أيام، شُوّه مقام للدروز عبر كتابة عبارة "مقام للدروز والكلاب" عليه بالغرافيتي. وفي ظلّ امتناع الدولة عن تأمين حماية حقيقية للدروز، لجأ هؤلاء إلى تولّي زمام الأمن بأيديهم، إذ باتت الميليشيات المحلية تسيّر دوريات في الشوارع، وتنخرط في حلّ النزاعات، وتصدّ محاولات الدخول إلى المناطق الدرزية.

وقد دخلت إسرائيل إلى الخطّ لملء هذا الفراغ، مصوّرةً نفسها حاميةً الدروز. فبعد أيامٍ على اندلاع أعمال العنف، شنّت الطائرات الحربية الإسرائيلية هجماتها الأوسع في سورية، مستهدفةً منطقة مجاورة لقصر الشعب.

إلى جانب العمليات العسكرية التي نفّذتها إسرائيل، عمَدت أيضًا إلى حشد قوةٍ رمزيةٍ أكثر تتمثّل في مواطنيها الدروز. يرى كثرٌ من الدروز أن أشكال التعبير الديني والثقافي مصانةٌ في إسرائيل أكثر ممّا هي عليه في لبنان أو سورية، وهما البلَدان الآخران اللذان يقيم فيهما أبناء الطائفة الدرزية التي تضمّ حوالى مليون نسمة. أخبرني الشيخ الهجري في المقابلة التي أجريتُها معه أن الدروز "يتمتّعون بحقوقهم هناك على الأقل"، أما "نحن فما زلنا نعيش في حالة انتظار". وفي خطوة مُدبَّرة بعناية، سهّلت السلطات الإسرائيلية دخول مشايخ دروز سوريين لأداء فريضة الحج في مقام ديني شمال إسرائيل، وأقلّتهم على متن حافلات عسكرية تحت حراسة الشرطة عبر أراضٍ سورية احتلّتها إسرائيل مؤخرًا.

يحظى ولاء الدروز بثناءٍ علني في إسرائيل، ويرفرف علمهم بحرية، وهو حقّ تعبيرٍ لا يُمنح للمواطنين الفلسطينيين، إلّا أن هذه المسرحية لم تنطلِ على معظم الناس. إن الدروز في إسرائيل هم العرب الوحيدون المُلزمون بأداء الخدمة العسكرية، ويُرسَلون إلى قطاع غزة ونقاط التفتيش في الضفة الغربية، ويشرفون على مراكز احتجاز الفلسطينيين، الذين يقبع عددٌ كبيرٌ منهم من دون محاكمة. ولا تزال بلداتهم تعاني من التهميش الاقتصادي والإهمال ومستويات مرتفعة من الجريمة. وقد صنّفهم قانون الدولة القومية للشعب اليهودي الذي أُقرّ في العام 2018 مواطنين من الدرجة الثانية. واقع الحال أن الدروز اقتُلعوا من جذورهم التاريخية والثقافية، وتعاملهم إسرائيل بشكلٍ متزايد لا كجزءٍ من العالم العربي أو الإسلامي الأوسع، بل كمجموعة إثنية دينية متمايزة، الأمر الذي يخدم المصالح الإسرائيلية.

خلال جولتي، أخبرني سكان حضر أن مسؤولين إسرائيليين زاروهم في اليوم السابق، وعرضوا عليهم المساعدات وقدّموا رسائل التطمين. وأبلغني أحدهم، مشيرًا بإصبعه نحو جبل الشيخ، حيث تعبر الأنهار التي تغذيها الثلوج لبنان وسورية وإسرائيل: "هم ]الإسرائيليون[ يأخذون مياهنا أساسًا. ونحن نعلم أن لا خير سيأتي ]منهم[". وعبّرت امرأةٌ من سكان السويداء عن ذلك بصراحةٍ أكبر، حين أشارت إلى المذبحة التي ارتُكبت بحقّ الدروز في العام 2018، قائلةً: "أين كانوا عندما كنا نتعرّض للذبح على يد تنظيم الدولة الإسلامية؟" وأضافت أن "الأمر لا يتعلّق بالحماية بل بالتوسّع"، مُستشهدةً بسيطرة إسرائيل على منطقة مساحتها 400 كيلومترٍ مربع في الأراضي السورية بعد سقوط نظام الأسد، وهي خطوةٌ صرّح الإسرائيليون أنها ستدوم إلى أجل غير مسمّى.

خلال الأسبوع الفائت، انكشفت نوايا إسرائيل. فحين حاول دروزٌ فيها عبور الحدود والانضمام إلى القتال في سورية، أوقفتهم السلطات الإسرائيلية، ما أثار احتجاجات أدّت إلى قطع طرقٍ في الشمال. وعبّر مثقّفون وسياسيون دروز إسرائيليون حتى عن مخاوفهم، إذ حذّر عضوٌ سابق في الكنيست من أن الطائفة تُستخدم "أداةً في خدمة السياسات الإسرائيلية الطويلة الأمد".

في حمأة هذه الأحداث المتتالية، برزت من جديد أسئلة عدّة في أوساط الدبلوماسيين والمحلّلين: ما الذي يحدث مع الدروز؟ وهل يثق الهجري برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ وهل سيؤدّي إبرام اتفاق مع الحكومة السورية إلى حلّ المشكلة؟ والمعنى الضمني واضحٌ لا لبس فيه، وهو إلقاء اللوم على الطائفة نفسها، بدلًا من الدولة السورية التي فشلت في حمايتها.

يغيب عن الكثير من ردود الفعل فهمٌ أساسي لما يعنيه العيش كأقليةٍ شهدت تاريخًا طويلًا من الاضطهاد والصدمات المتوارثة عبر الأجيال. قال لي أحد السكان إن "النساء والأطفال مرعوبون ولا يغادرون بيوتهم". يتردّد صدى هذا الخوف في أوساط الأقليات المهمشّة في سورية، ولا سيما بعد قتل مئات العلويين، إن لم يكن عددهم قد فاق الألف، في آذار/مارس الماضي، نتيجة هجمات شنّتتها مجموعات مسلحة وقوات تابعة للحكومة، عقِب أعمال عنف نفّذها فلول نظام الأسد. وطالبت منظمة العفو الدولية التحقيق في المجازر المُرتكبة في الساحل السوري بحق المدنيين العلويين باعتبارها جرائم حرب مُحتملة.

وما يثير القلق بالقدر نفسه هو ميل الاتحاد الأوروبي المتزايد، وراهنًا الولايات المتحدة، إلى التغاضي عن إخفاقات حكومةٍ لا تخضع للمساءلة ولا تمثّل جميع أطياف المجتمع. وبفعل الضغوط المُمارَسة لإحراز تقدّمٍ على مسار التطبيع وكسب نفوذٍ في دمشق، غضّ الكثير من القوى الخارجية والمحلية الطرفَ عن سجلات قادةٍ غير منتخبين ومتورّطين في ارتكاب جرائم، باتوا اليوم جزءًا من الحكومة الانتقالية الجديدة في سورية. وفي اندفاعةٍ واضحة لإبرام صفقات تجارية، زار الرئيس دونالد ترامب السعودية في الآونة الأخيرة وأعلن عن رفع العقوبات الأميركية عن سورية، قبل الاجتماع بأحمد الشرع في اليوم التالي في الرياض. حصل كل ذلك على الرغم من فشل الحكومة السورية في توفير الحماية للأقليات.

ما يحدث مع الدروز ليس معقّدًا. فهم برفضهم طلب الحكومة تسليم سلاحهم، تحدّوا سرديتها عن تنفيذ عمليةٍ انتقالية سلسة ما بعد الحرب. ولم تكن حملة العنف التي أعقبت هذه العملية مجرّد مصادفة، بل كانت رسالة. والتكهنات بأن الشيخ الهجري أو الدروز تحالفوا مع إسرائيل تغفل حقيقةً أعمق. فهذه ليست قصة عدم ولاء، بل قصة صمود وبقاء.

فيما يجد دروز سورية أنفسهم عالقين بين حكومة غير مستقرّة إنما قمعية وجماعات متطرّفة ازداد نفوذها من جهة، ومناورات إسرائيل الإقليمية من جهة أخرى، ما كان منهم إلّا أن اعتمدوا مجدّدًا على الثابت الوحيد الذي عرفوه: أنفسهم. وكما قال لي الشيخ الهجري: "سنحمي أرضنا وكرامتنا وإخوتنا، فوق كلّ شيء".

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.