اندلعت احتجاجات شبابية واسعة في مناطق عدّة حول العالم، بدأت في نيبال في تموز/يوليو 2024، ثم امتدّت إلى مدغشقر وبيرو. وتندرج هذه التحرّكات ضمن توجّهٍ عالمي أوسع يشهد تضييقًا متزايدًا على حرية التظاهر والتعبير. ومنذ أواخر أيلول/سبتمبر الفائت، عمّت المظاهرات مدنًا وبلداتٍ مغربية وحملت اسم "جيل زد 212"، إذ يشير رقم 212 إلى رمز الاتصال الدولي للمغرب. وقد انطلقت شرارة الحراك جزئيًا من خلال وقفةٍ احتجاجٍية أصغر نطاقًا أمام مستشفى الحسن الثاني في أغادير، على إثر وفاة عددٍ من النساء نتيجة عملياتٍ قيصرية، وسُرعان ما تحوّل إلى موجةٍ أوسع من المظاهرات بسبب تراكم تظلّماتٍ طويلة الأمد.
في أواخر أيلول/سبتمبر، خرج المتظاهرون إلى الشوارع مردّدين شعار "حرية، كرامة، عدالة اجتماعية"، ومعظمهم شبابٌ تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والرابعة والثلاثين، ويشكّلون نحو ثلث سكان المغرب والفئة الأكثر تعرّضًا للإقصاء من سوق العمل. فقد وصلت معدّلات البطالة في أوساط الشباب المغاربة إلى 35 في المئة، ناهيك عن أن حوالى ثلثهم غير منخرطين في سوق العمل وغير ملتحقين بالتعليم. يُشار مع ذلك إلى أن أرقام البطالة متباينة: ففيما تشير تقديرات البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية إلى أن البطالة في صفوف الشباب بين سنّ الخامسة عشرة والرابعة والعشرين بلغت 22 في المئة في العام 2024، ذكرت بيانات وطنية وتقارير إعلامية نسبًا أعلى تصل إلى 35 في المئة. هذا الجيل، الذي وُلد في الفترة الممتدّة بين منتصف التسعينيات وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يرى أنه أكثر جرأةً في تحدّي الهياكل القائمة مقارنةً مع الأجيال السابقة، ويطالب بالتغيير الفعلي لا بالوعود.
مع أن الكثير من المطالب المطروحة اليوم تعيد إلى الأذهان تلك التي رفعتها حركة 20 فبراير التي وُلدت خلال موجة الانتفاضات العربية في العام 2011، فإن حراك "جيل زد 212" يتبنّى أساليب مختلفة وينشط ضمن سياق سياسي واقتصادي يشهد تحوّلات متسارعة، على وقع تزايد استثمارات المملكة في المشاريع الضخمة ومشاركتها في استضافة فعالياتٍ رياضية عالمية، مثل كأس الأمم الأفريقية للعام 2026 وبطولة كأس العالم المُقرَّرة للعام 2030.
واقع الحال أن حراك "جيل زد 212" سلّط الضوء على التوزيع غير المتكافئ للثروة في المغرب، إذ ما زالت المناطق الريفية مُهمّشة مقارنةً مع المدن، ولم تؤدِّ عوائد نمو الاقتصاد الكلّي والمشاريع الضخمة إلى تحسين سُبل عيش جميع الفئات السكانية. لذلك، يطالب حراك الجيل الجديد بإصلاحٍ جذري لنظامَي التعليم والرعاية الصحية كي يتمكّنا من توفير خدماتٍ مجانية وعالية الجودة للجميع. ويدعو كذلك إلى تفعيل آليات المحاسبة لتطال كل من ثبُت تورّطه في ملفّات الفساد في مؤسسات الحكومة والإدارة العامة. وإذ حمل الحراك رايةَ قضايا تمسّ جميع المواطنين على اختلاف مناطقهم وطبقاتهم الاجتماعية، فقد نجح في نسجٍ رابطٍ وثيقٍ مع حركات احتجاجية سابقة، جامعًا بين المطالب التي طُرحت في العام 2011 وتلك التي نادت بها مظاهراتٌ أصغر نطاقًا، مثل الاحتجاجات التي شهدتها بلدة إميضر (2011)، ومنطقة الريف (2016–2017)، ومدينة جرادة (2017–2018).
ومع أن مطالب حراك "جيل زد 212" تركّز بشكلٍ أساسي على الإصلاحات الاجتماعية الاقتصادية، لا تزال القضايا السياسية في صميم هذه الاحتجاجات من خلال الدعوة إلى محاسبة المسؤولين، وتحديد المسؤوليات، وتنظيم الاعتصامات السلمية. كذلك، يسجّل الحراك لقاءات مسموعة (بودكاست) منتظمة، تستضيف صحافيين وناشطين في الشأن العام يتسنّى لأعضاء الحراك مناقشتهم، وتُبثّ لاحقًا على يوتيوب. وقد تلقّى الحراك مستوياتٍ متفاوتة من التأييد في أوساط الطبقة السياسية المغربية، شملت أحزابًا يسارية مثل حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي الموحّد؛ إضافةً إلى حزب العدالة والتنمية ذي التوجّه الإسلامي الذي تراجع عن دعمه للحراك بعد تسجيل أعمال عنف؛ وكذلك قوى المجتمع المدني التي قدّمت دعمًا ميدانيًا للحراك. لكن هذا لا يعني أن الحراك يتبنّى إطارًا إيديولوجيًا محدّدًا. فهو تجنّب حتى الآن الوقوف مع طرف بعينه، ما سمح له بالتركيز على المطالب الاجتماعية والاقتصادية من جهة، والانخراط في نقاشٍ وطني مفتوح واستشراف مسارات بديلة.
لا يزال حراك "جيل زد 212" من دون قيادة مركزية، الأمر الذي تعتبره الحكومة عقبةً أمام تنظيم الحوار معه. لكن هذا القرار يستند إلى أسباب متعدّدة، منها الخوف من استتباع أعضائه أو معاقبة الأفراد المُستهدَفين، فضلًا عن الرغبة في الحفاظ على الروح الجماعية. تشهد المنصّات المملوكة لشركة ميتا، مثل فايسبوك وإنستغرام، التي أدّت دورًا بارزًا في انتفاضات العام 2011، عمليات اختراقٍ على نحو متزايد من شبكات الحسابات الآلية المشبوهة والمتصيّدين الإلكترونيين، ونشر أخبار مُضلِّلة. لذلك، تشكّل الحسابات باستخدام منصّة "ديسكورد" والشبكة الخاصة الافتراضية (VPN)، التي لا تتطلّب أكثر من وضع اسم مستعار، منصّات بديلة توفّر فيها غرف الدردشة النصّية والصوتية الفورية مساحةً للنقاش المدني، وفرصةً لدحض الشائعات والإجابة عن أسئلة أعضاء الحراك. ويشكّل هذا الأمر اختلافًا كبيرًا مع منصّات الأخبار التقليدية ومنصّات التواصل الاجتماعي التي كانت مهيمنة قبل أكثر من عقد. والجدير بالذكر أن خادم "ديسكورد" الخاص بحراك "جيل زد 212" يضمّ راهنًا أكثر من 250 ألف عضو.
ومع اتّساع نطاق الاحتجاجات، باتت الركيزة الرقمية للحراك أساسية لتصحيح السرديّات وإدارة التكتيكات الميدانية. على سبيل المثال، في اليومَين الأوّلَين من الاحتجاجات، وتحديدًا 27 و28 أيلول/سبتمبر، تعرّض الحراك لموجة قمع واعتقالات، لكنه استطاع التكيّف سريعًا. فبدل التجمّع في الأماكن المعتادة، قرّر الناشطون نقل الاحتجاجات إلى أحياء الطبقة العاملة. وبعد اندلاع أعمال عنف في مدن وبلدات مثل القليعة وسيدي بيبي، وفي إقليم شتوكة، وتسجيل وفيات ثلاث أثناء تدخّل أمني، أعاد أعضاء الحراك تقييم الوضع عبر منصّة "ديسكورد"، حيث ناقشوا تفاصيل الأحداث والحاجة إلى تنظيم احتجاجات سلمية، متصدّين بذلك لمحاولات تصوير الحراك على أنه فوضوي وعنيف.
ووسط الشائعات التي رافقت حراك "جيل زد 212"، مثل الاتهامات بالتدخّل الخارجي أو بأنه يُعارض النظام الملكي، سعى المتظاهرون إلى إظهار أن حراكهم يستند إلى مبدأ المواطنة. كذلك، رفعوا لافتات داعمة للملك، وعلّقوا احتجاجاتهم مؤقّتًا بالتزامن مع الخطاب الذي ألقاه أمام البرلمان في 10 تشرين الأول/أكتوبر، قبل أن يستأنفوها يوم 18 تشرين الأول/أكتوبر. علاوةً على ذلك، أُثيرت تساؤلات حول أساليب الاحتجاج بحدّ ذاتها، مقابل الدعوة إلى اتّخاذ إجراءات موّجهة أكثر مثل المقاطعة. فعلى سبيل المثال، دعا الحراك عبر صفحاته على منصّة "إكس" إلى مقاطعة بطولة كأس الأمم الأفريقية، إذ أعلنت مجموعات "الألتراس" تعليق حضورها في المدرّجات، ردًّا على موجة اعتقالاتٍ طالت المتظاهرين. ونُظّمت أيضًا حملات مقاطعة موجّهة طالت شركات مُرتبطة برئيس الحكومة عزيز أخنوش.
الأمر البالغ الأهمية هو أن حراك "جيل زد 212" سلّط الضوء على نقطتَين مترابطتَين. أولًا، كشف عن التحديات التي لا تزال ماثلة من دون حلّ في المغرب. صحيحٌ أن المملكة نجحت، بعد عقودٍ من الإصلاحات الهيكلية، في إرساء الاستقرار وتحقيق النمو في بعض القطاعات، إلّا أن مشاكل عدّة لا تزال قائمة، منها الفجوة المستمرة بين المركز والأطراف، والبطالة، وضيق أُفق الارتقاء الاجتماعي، والتفاوت في الحصول على الخدمات الأساسية. وبالتالي، يبدو أن الأسئلة الأساسية التي يطرحها الحراك لا تتعلّق بإعادة توزيع الثروة فحسب، بل تتناول أيضًا مسألة إعادة تحديد الأولويات: ما المشاريع التنموية التي يجب أن تُنفّذ ولصالح من؟
ثانيًا، وبعد سنواتٍ من الإرهاق السياسي والمؤسّساتي، أتى جيلٌ يعتزم التعبير عن توقّعاته والمشاركة في النقاش السياسي. والأهمّ أن التحديات التي تواجه الحراك والمطالب التي يُعبّر عنها تُظهر أن الشباب المغربي متنوّعٌ في مواقفه ومهتمٌّ بالشأن السياسي.
وفي تطوّرٍ لافت، أصدر القصر الملكي يوم الأحد بيانًا، عُرض أمام مجلس الوزراء، ومفاده أن المملكة ستُخصّص 15 مليار دولار من ميزانيتها لقطاعَي الرعاية الصحية والتعليم، في زيادةٍ بنسبة 16 في المئة عن العام الفائت. وأصدر الحراك بدوره بيانًا رحّب فيه بالقرار، لكنه أكّد على أنه سيراقب تنفيذ هذا الإجراء عن كثب، إلى جانب الإفراج عن المعتقلين، وهو مطلبٌ يعتبره "الاختبار الحقيقي لجدّية الدولة، والشرط الأساسي لاستعادة الثقة وبناء مستقبل مشترك".
سواء كُتب الاستمرار للحراك أم لا، فهو نجح في إعادة فتح نقاشٍ مدني كان يُعتقد أنه انحسر من الفضاء العام المغربي. وذكّر الحراك المراقبين بأن الأمن والاستقرار لا يتحقّقان بالتنمية وحدها، بل يتطلّبان أيضًا الحفاظ على الأمل وإعادة بناء الثقة. فلجيلٍ نشأ على وعود الإصلاح، يبدو أن الاحتجاجات لا تتعلّق بتزعزع الاستقرار بقدر ما تعبّر عن فقدان الثقة بالنهج التدرّجي لإحداث التغيير.




