كم الساعة؟ هذا سؤال كانت إجابته واضحة ومباشرة في لبنان، لكنه بات على مدى اليومَين الماضيَين مُربِكًا بسبب الخلل البنيوي في سياسات البلاد. فبعد أن عمدت الدولة اللبنانية إلى تدمير عملتها الوطنية، بيدو أن هدفها الجديد هو نسف الوقت بحدّ ذاته.
منذ العام 1998، بدأ لبنان باعتماد التوقيت الصيفي اعتبارًا من آخر يوم أحد من شهر آذار/مارس. لكن هذا العام، حاولت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي تأجيل تقديم التوقيت ساعة، وذلك لمدّة أربعة أسابيع، إراحةً للصائمين خلال شهر رمضان المبارك، من خلال تقليص فترة صوم المسلمين الذين يتناولون الإفطار عند غروب الشمس، ساعةً من الزمن. لكن بعد دراسة المسألة، قرّر مجلس الوزراء إبطال هذا الإجراء، وبدا ذلك منطقيًا نظرًا إلى الصعوبات التقنية الناجمة عنه، ولا سيما أن معظم الدول الأوروبية تقدّم توقيتها ساعة واحدة في اليوم نفسه.
ففي عالمنا الشديد الترابط، يتعيّن على أي حكومة تعتزم تعديل توقيتها المعتاد إبلاغ هيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصّصة (IANA) قبل اتخاذ القرار، لتتمكّن من إدخال التعديلات المناسبة في قاعدة بيانات المنطقة الزمنية. وتقوم الهيئة بدورها بإبلاغ دول العالم كافة بتغيير توقيت البلاد، وتضمن أن تكون الوثائق الرسمية ممهورة بأختام زمنية تشير إلى أوقات إصدارها وتحديثها، إضافةً إلى أمور أخرى. لم يكن لبنان يخطّط لتبنّي هذا الإجراء حين ناقشت حكومة ميقاتي المسألة في البداية، لذا بدا أن التوقيت الصيفي سيبدأ كالمعتاد في 26 آذار/مارس.
لكن قبل ثلاثة أيام من هذا التاريخ، أعلن ميقاتي أن لبنان سيؤجّل بدء العمل بالتوقيت الصيفي لغاية 21 نيسان/أبريل، من دون تقديم أي شرح لذلك. لكن بعض وسائل الإعلام المحلية حصلت على مقطع فيديو لمحادثة بين ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري، طلب خلاله بري من ميقاتي تأجيل اعتماد التوقيت الصيفي حتى يتمكّن المسلمون من تناول الإفطار في وقت أبكر خلال شهر رمضان.
يتولّى بري، وهو شخصية شيعية وأحد حلفاء حزب الله الأساسيين، رئاسة مجلس النواب منذ العام 1992، ويتمتع بنفوذ كبير داخل النظام السياسي. أما ميقاتي، وهو شخصية سنّية، فيترأس حكومة تصريف الأعمال منذ أيار/مايو 2022، حين أجرى لبنان انتخابات نيابية باتت القوى السياسية بعدها منقسمة للغاية بحيث عجزت عن تشكيل حكومة. يُضاف إلى ذلك أن البلاد لم تنجح في انتخاب رئيس مسيحي ماروني للجمهورية منذ انتهاء ولاية ميشال عون في تشرين الأول/أكتوبر 2022. لم يدرك ميقاتي وبري أن قرارهما سيثير هذا الكمّ من الشحن الطائفي والاتهامات المتبادلة.
اتُّخذ هذا القرار التعسّفي باعتماد توقيت بري-ميقاتي في لبنان يوم الخميس، خلال أسبوع شهد مسائل خلافية عدّة. وقد دفع هذا الأمر بعض النواب الإصلاحيين إلى التساؤل عما إذا كان الهدف الفعلي من هذا القرار هو إلهاء الرأي العام عن القضايا الأساسية. ومن المسائل الخلافية إعلان حكومة تصريف الأعمال عن عزمها بناء مبنى جديد في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، وتلزيمها العقد لشركة من دون إجراء مناقصة رسمية.
علاوةً على ذلك، عقدت بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت بيروت يوم الخميس مؤتمرًا صحفيًا اتّهمت خلاله السلطات اللبنانية بأنها "بطيئة جدًّا" في تنفيذ برنامج الصندوق. وحذّر رئيس البعثة من أن لبنان "سيغرق في أزمة لا نهاية لها" في حال لم ينفّذ الإصلاحات سريعًا. وعلى الرغم من أن المسؤولين اللبنانيين وقّعوا اتفاقًا على مستوى الخبراء مع صندوق النقد قبل عام تقريبًا، لم تحقق الدولة إنجازًا يُذكر منذ ذلك الحين. والجدير بالذكر أن الليرة اللبنانية خسرت 98 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي منذ العام 2019، ما أدّى إلى شلل الاقتصاد، وارتفاع حاد في معدل التضخم، وانتشار الفقر على نطاق واسع، واتّساع موجة الهجرة.
بغضّ النظر عن السبب الكامن وراء قرار بري-ميقاتي، من المستبعد أن رئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب قد توقّعا حجم ردود الفعل السلبية التي ولّدها قرارهما. فقد أعلنت شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية أنها، عمليًا، لن تقرّب مواعيد رحلاتها ساعة واحدة بناءً على توقيت بري-ميقاتي، حتى لو أنها ستضيف التوقيت المحلّي إلى بطاقات السفر تماشيًا مع القرار الحكومي. هل التبست عليكم الأمور أم بعد؟
بحلول السبت، أصدرت جميع الأحزاب والمكوّنات السياسية المسيحية الكبرى (باستثناء المرشّح لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية الذي يدعمه بري) بيانات ندّدت بقرار بري-ميقاتي وأفادت بأنها ستعمد إلى تقديم ساعاتها ساعةً واحدة اعتبارًا من منتصف ليل السبت-الأحد. كذلك، أعلنت معظم القنوات التلفزيونية اللبنانية – باستثناء NBN التابعة لبري، والمنار التابعة لحزب الله، وتلفزيون لبنان التابعة للدولة – عدم التزامها بقرار تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي. وبالتالي، تقرّر بثّ نشرات أخبار الساعة الثامنة التي تحظى بالشعبية بحسب التوقيت الصيفي لغالبية المشاهدين. وقد أصدرت الكثير من مدارس الإرساليات المسيحية في لبنان بدورها بيانات أيّدت قرار بدء العمل بالتوقيت الصيفي.
وأعلنت البطريركيّة المارونيّة عدم التزام الكنيسة المارونية بقرار بري-ميقاتي، وأثّر ذلك على الشبكة الواسعة من المدارس والمؤسسات الخاضعة لها. إذًا، بدا أن التوقيتَين المختلفَين في دولة تبلغ مساحتها نحو 10,000 كيلومترًا مربّعًا ولّدا انقسامات طائفية. فقد التزمت معظم المؤسسات الإسلامية والمؤسسات العاملة في المناطق ذات الغالبية المسلمة بتوقيت بري-ميقاتي، فيما تبنّت معظم المؤسسات المسيحية وتلك العاملة في المناطق ذات الأكثرية المسيحية التوقيت الصيفي. ورأى دعاة تحويل لبنان إلى جمهورية فدرالية (أو حتى تقسيمه) على أسس طائفية في قرار بري-ميقاتي فرصةً لتعزيز مشروعهم.
في غضون ذلك، بدأ التشكيك جديًّا بشرعية قرار ميقاتي الأحادي. فعندما أُقرّ العمل بالتوقيت الصيفي الراهن في العام 1998، تم ذلك بموافقة مجلس الوزراء مجتمعًا، وليس بقرار من رئيس الحكومة منفردًا. لكن ميقاتي اتّخذ هذا القرار من دون الحصول على تأييد مجلس الوزراء. ونتيجةً لذلك، أعلن وزير التربية والتعليم العالي المقرّب من الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن المدارس في مختلف المناطق اللبنانية ستتبع التوقيت الصيفي اعتبارًا من يوم الاثنين، على غرار السنوات السابقة. لكن، بعد طلب من ميقاتي الذي دعا إلى انعقاد جلسة حكومية طارئة في 27 آذار/مارس لمناقشة مسألة التوقيت، تراجع وزير التربية عن قراره، وأعطى لكل مدرسة صلاحية اتّخاذ القرار حول التوقيت الذي يناسبها. هل خفّ الالتباس قليلًا أم لا؟
في نهاية المطاف وفي وجه الضغوط المتنامية، تراجع ميقاتي عن قراره بتأجيل بدء العمل بالتوقيت الصيفي خلال الجلسة الحكومية، خوفًا من الانقسام الطائفي. وأعلن أن التوقيت الصيفي سيصبح ساري المفعول اعتبارًا من 30 آذار/مارس، لإعطاء مؤسسات الدولة مهلة يومَين لإجراء "تعديلات تقنية". لكن الضرر السياسي والاقتصادي الناجم عن هذه البلبلة سيبقى محفورًا لفترة طويلة في أذهان اللبنانيين.
خلال اليومَين اللذَين اعتمدت فيهما مناطق لبنانية توقيت بري-ميقاتي، كان الوضع مُربكًا للغاية بالنسبة إلى غالبية اللبنانيين. فخلال هذه الفترة الغريبة، استند الكثير من اللبنانيين لمعرفة الوقت على الانتماءات السياسية أو الدينية لأشخاص محدّدين أو مؤسسات معينة. فكان جيرانٌ في المبنى نفسه في بيروت، وحتى أفراد من العائلة نفسها، يعملون بحسب توقيتَين مختلفَين.
لكن للمرة الأولى، تمّ التراجع عن قرار اتّخذه بري، من خلال ميقاتي، نتيجة العصيان المدني الجماعي له. وهذه بادرة مشجّعة للأشخاص الذين يأملون برؤية الشعب اللبناني ينتزع بعض السلطة من قبضة الكارتيل السياسي الذي يتربّع عرش النظام السياسي المُتداعي باطّراد في لبنان.