في 14 نيسان/أبريل، شنّت إيران هجومًا على إسرائيل ردًّا على قصف قنصليتها في دمشق، إلا أنه كان دراميًا ودون التوقعات. أما الحملة الترويجية للردّ الإيراني فكانت جديرةً بجائزة أوسكار، ولا سيما صور إطلاق الطائرات المسيّرة ثم الصواريخ من إيران باتّجاه إسرائيل. شكّلت هذه العملية إذًا خروجًا من حرب الظل الدائرة بين الجانبَين منذ عقود، نحو المواجهة العلنية والمباشرة.
يبدو أيضًا أن الهجوم فرض قواعد اشتباكٍ جديدة. فقد صرّح القائد العام للحرس الثوري، حسين سلامي، للتلفزيون الإيراني أن طهران كرّست "معادلة جديدة [مع إسرائيل]. من الآن فصاعدًا، إذا هاجم النظام الصهيوني مصالحنا أو أصولنا أو شخصياتنا أو مواطنينا في أي وقت، فسوف يُقابَل بهجوم مضادّ من الجمهورية الإسلامية الإيرانية". في الواقع، دفعت التوترات بين إيران وإسرائيل منطقة الشرق الأوسط إلى شفير الهاوية، وأصبح خطر اندلاع حرب إقليمية أكبر من أي وقتٍ مضى.
خلال السنوات الماضية، بقي ردّ إيران على قصف إسرائيل مواقع تابعة لها في سورية محدودًا، بينما سعت إلى تعزيز شراكاتها الاستراتيجية في مختلف أنحاء المنطقة، بالتزامن مع حرصها على تفادي نزاعٍ إقليمي أوسع يستوجب تدخّل الولايات المتحدة ودول أخرى. لكن قصف القنصلية شكّل اعتداءً على أرضٍ إيرانية ذات سيادة، ما قد يشجّع إسرائيل على شنّ هجمات مباشرة على الداخل الإيراني إن لم يُقابَل بردّ.
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، رأت إيران في الحرب على غزة فرصةً لحشد وكلائها وشركائها من أجل توطيد نفوذها الإقليمي وزعزعة استقرار المنطقة. فقد أسفرت هجمات حركة أنصار الله في اليمن عن تعطيل حركة التجارة العالمية في البحر الأحمر، فيما يواصل حزب الله الضغط على حدود إسرائيل الشمالية متسبّبًا بنزوح نحو 80 ألف إسرائيلي. كذلك، ساهم تحسّن العلاقات بين إيران والدول العربية المجاورة الحريصة على تفادي نزاعٍ أوسع، في القبول بنفوذ طهران الإقليمي. فهي استغلّت عوامل عدّة لخدمة مصالحها الخاصة، من ضمنها تراجع مكانة إسرائيل عالميًا نتيجة تورّطها في غزة، والمأزق الأخلاقي الذي يعيشه الغرب أمام المذابح المُرتكَبة في القطاع، وعجز الولايات المتحدة عن وقفها. وقبل الجولة الراهنة من الصراع، بدا أن القضية الفلسطينية أصبحت عبئًا على دول الخليج. لكن الاستنكار العارم في مجتمعات المنطقة والعالم إزاء الوضع في غزة ولّد سلسلةً من ردود الفعل تجاه الهجوم الإيراني ضدّ إسرائيل، تراوحت بين رضا عن وقوف طرفٍ في وجهها، وأسفٍ لأن الإيرانيين هم من فعلوا ذلك، وقلقٍ ممّا سيحدث في المرحلة المقبلة.
اختارت إيران الردّ على إسرائيل بشكل مباشر، وليس عبر وكلائها، وحرصت على عدم إشعال صراعٍ إقليمي. وقد أبلغت طهران الولايات المتحدة ودول المنطقة بنيّتها شنّ هجوم على إسرائيل قبل 72 ساعة من وقوعه. ونظرًا إلى بطء الطائرات المسيّرة الإيرانية، تسنّى لإسرائيل الاستعداد لها قبل بلوغها المجال الجوي الإسرائيلي. وفيما اعتبر البعض أن الهجوم الإيراني شكّل فشلًا ذريعًا ومُحرجًا، إذ لم يصل سوى عددٍ قليل من الطائرات المسيّرة والصواريخ إلى الأهداف المحدّدة، رأى البعض الآخر في هذه العملية محاولةً مدروسة هدفت إلى إعادة إرساء قوة الردع، والكشف عن نقاط ضعف إسرائيل واعتمادها على دعم حلفائها.أيًّا يكن التفسير الصحيح، من الواضح أن الهجوم كان مجرّد نقطةٍ في بحرِ ما كان ليحدث لو أن شركاء إيران انضمّوا إلى العملية، ولو أن طهران لم تتوخَّ الحذر الشديد عبر توجيه رسائل كشفت فيها عن نواياها. ولكن إيران، بشنّها هجومًا مباشرًا على إسرائيل، اجتازت خطًّا لا رجعة فيه، يُفسح المجال أمام إسرائيل لتوجيه ضربات عسكرية مباشرة ضدّها.
إذا افترضنا أن الإيرانيين يكترثون لأمر غزة، فالعملية التي نفّذوها قد تشكّل أيضًا خطأ استراتيجيًّا فادحًا لأسباب عدّة. أوّلًا، تَسبّب الهجوم بتراجع أولوية غزة في جدول الأعمال العالمي، على الأقلّ في الوقت الراهن، إذ انتهك مقولة نابوليون الشهيرة: لا يجب أبدًا مقاطعة العدو أثناء ارتكابه الأخطاء. فالصدمة العالمية إزاء حصيلة الضحايا المدنيين والمجاعة في غزة، في حرب يُنظَر إليها على نطاق واسع بأنها إخفاقٌ استراتيجي وأخلاقي، دفعت حتى بحلفاء إسرائيل المقرّبين إلى التفكير في احتمال فرض قيود على تسليم الأسلحة إليها. أما اليوم فقد تبدّل هذا النقاش، وحجبت صورةُ إسرائيل وهي تتعرّض للهجوم مشهدَ الأوضاع الإنسانية المروِّعة في غزة ومقتل عمّال الإغاثة في منظّمة المطبخ المركزي العالمي. وفي الأيام التي سبقت العملية الإيرانية، أعلنت إدارة بايدن عن استعدادها توفير الدعم اللازم للدفاع عن إسرائيل، بعد الحديث عن تباعدٍ بين الولايات المتحدة وإسرائيل. والآن، تراجع القلق على غزة وحلّ مكانه الحديث عن تصعيد إقليمي. في غضون ذلك، قد يزداد احتمال حدوث توغّل برّي إسرائيلي في رفح، بينما تبدو فرص التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار عن طريق التفاوض والإفراج عن الرهائن أبعد من أي وقت مضى.
ثانيًا، قد يمنح الهجوم الإيراني مصداقيةً أكبر للموقف الأمني الإسرائيلي الذي يشجّع على توجيه ضربات استباقية لأعداء إسرائيل، والذي ساهمت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر في تعزيزه. وقد استخدمت إسرائيل هذا المنطق لتبرير حربها على غزة والاجتياح البرّي الذي تنوي شنّه في رفح، فضلًا عن ضرباتها المتكرّرة على لبنان وتهديداتها بشنّ حرب شاملة ضدّه. وقد نشهد في الأسابيع المقبلة قبولًا دوليًا أكبر للأعمال العدوانية الإسرائيلية، فيما لم يتّضح بعد ما إذا كان الهجوم الإيراني قد أعاد فعليًا إرساء "معادلة" الردع التي تحدّث عنها سلامي. ولسوء الحظ أيضًا، منح الإيرانيون رئيس الوزراء الإسرائيلي المأزوم داخليًا، بنيامين نتنياهو، فرصةً لإطالة أمد الحرب والاحتفاظ بسلطات الطوارئ التي تُبقيه في منصبه.
مع ذلك، تسبّب الهجوم الإيراني أيضًا بمعضلة لإسرائيل. فعلى الرغم من أنه لم يُحدِث دمارًا واسعًا، كان جريئًا إلى حدٍّ لا تستطيع إسرائيل التغاضي عنه ببساطة. فقد أظهر أن إسرائيل لم يعد بإمكانها مواصلة مسارها التصعيدي ضدّ إيران من دون تكبُّد أي خسائر نسبيًّا. ويجب على إسرائيل أيضًا أن تأخذ في الاعتبار، قبل إقدامها على أي خطوات مُقبلة، التأثير النفسي على السكان الإسرائيليين، فضلًا عن العبء الاقتصادي للصراع. فالتقديرات تشير إلى أنها أنفقت ما يفوق مليار دولار أميركي من أجل التصدّي لمسيّرات وصواريخ إيرانية تبلغ قيمتها نحو 300 مليون دولار.
إذًا، يقع على عاتق المجتمع الدولي إرغام إسرائيل على إنهاء المذابح في غزة، والتخفيف من حدّة ردّها المُرتقب على إيران، للحؤول دون اندلاع نزاعٍ إقليمي يبدو أننا نندفع نحوه بخطىً متسارعة، على الرغم من أن جميع الأفرقاء (باستثناء الحكومة الإسرائيلية) عبّروا عن رغبتهم في تجنّبه. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تنفيذ وقف إطلاق النار على صعيد المنطقة ككل.