Rally organized by lawyers from the Toulouse Bar to protest against the arrest of their Tunisian colleague Sonia Dahmani and journalists, in front of the consulate in Toulouse, southwest of France, on May 16, 2024
المصدر: Getty
مقال

لماذا فقدت تونس ثقتها في الديمقراطية

يرى كثرٌ في المجتمع أن سنوات ما بعد الثورة انطبعت بأزمات اقتصادية متتالية وبانعدام الاستقرار السياسي.

 ياسمين خليل
نشرت في ٢٢ يوليو ٢٠٢٤

يوم 11 أيار/مايو 2024، اقتحم أفراد ملثّمون من قوات الأمن التونسية مقرّ الهيئة الوطنية للمحامين في تونس وألقوا القبض على المحامية البارزة سونيا الدهماني. وأتى توقيفها على خلفية إدلائها بتصريحات خلال برنامج تلفزيوني، انتقدت فيها سياسة الرئيس قيس سعيّد المناهضة للهجرة غير النظامية، وادّعاءه بأن المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يخطّطون للبقاء في تونس، علمًا أن الإحصاءات تظهر عمومًا أن هدفهم هو المغادرة إلى أوروبا. وقد اندرج هذا الاعتقال في إطار سلسلةٍ من الإجراءات القمعية الكثيرة التي اتّخذها نظام سعيّد منذ وصوله إلى سدة الحكم في العام 2021، ما دفع كثرًا، ولا سيما في خارج تونس، إلى التساؤل كيف انزلقت عملية الانتقال الديمقراطي التي لقيت استحسانًا كبيرًا إلى الدكتاتورية السلطوية.

لكن الإجابة واضحة لمن تابع عن كثب التطورات التونسية. في الواقع، لم تحقّق عملية الانتقال الديمقراطي في تونس نجاحًا قط، بل بالكاد انطلقت. منذ إطاحة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في العام 2011 إثر المظاهرات الشعبية العارمة، تولّت مقاليد السلطة حكومات متعاقبة ذات رؤى سياسية مختلفة، وأطلقت وعودًا باستحداث المزيد من فرص العمل للشباب وإرساء الاستقرار السياسي. مع ذلك، تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.7 في المئة في المتوسط بين العامَين 2011 و2019، بعدما كان 3.5 في المئة بين العامَين 2000 و2010. ونظرًا إلى تدنّي الإنتاجية الاقتصادية، تباطأت بشكلٍ كبير عملية استحداث فرص العمل وتدهورت الظروف المعيشية للفئات الشابة خصوصًا. ففي شهر كانون الأول/ديسمبر 2013، بلغ معدّل البطالة في صفوف الشباب 31.9 في المئة بعد أن كان 13.3 في المئة في العام 2005. لم تنتهِ معاناة الاقتصاد التونسي في ظلّ الائتلاف الحاكم بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وحزب النهضة، إذ بلغت قيمة الدين الخارجي المستحق على تونس 30.1 مليار دولار في العام 2016. وتبيّن أن حزب النهضة الإسلامي الذي انتُخب بشكل أساسي بسبب إعطائه الأولوية لتحقيق الازدهار الاقتصادي، قد أطلق وعودًا واهية.

كانت التطلّعات أكثر إشراقًا بكثير في العام 2011، حين خرج ملايين التونسيين في شهر كانون الثاني/يناير إلى شوارع العاصمة تنديدًا بارتفاع معدلات البطالة، وتردّي الظروف المعيشية، وتفاقم الفساد والقمع السياسي على يد نظام بن علي الذي كان يحكم البلاد منذ العام 1987. أذكر أنني كنتُ في العاشرة من عمري حين شاركتُ في إحدى هذه المظاهرات، وجلستُ على كتفَي أبي ملوّحةً بالعلم التونسي بيديّ المتعرّقتَين، وأنا أهتف "خبز وماء.. وبن علي لا" مع سائر المتظاهرين، وأصلّي كي لا تطلق الشرطة الغاز المسيّل للدموع علينا. وفي وقتٍ لاحق من ذلك الشهر، فرّ بن علي من البلاد وسقط نظامه.

خلال العقد الذي أعقب الثورة التونسية، شهدت البلاد تجارب عدّة من التحوّل الديمقراطي، أفضت جميعها إلى أزمات اقتصادية وانعدام الاستقرار السياسي. ولكن الناس في الخارج ظلّوا ينظرون إلى التطورات في البلاد بتفاؤل مُفرَط. فقد نالت تونس الإشادة بعد إجراء أول انتخاباتٍ تعدّدية في تاريخها في تشرين الأول/أكتوبر 2011. ثم عزّزت الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها في العام 2014 هذه الواجهة الديمقراطية. وفي العام 2015، حاز الرباعي الراعي للحوار الوطني التونسي، المؤلّف من أربع منظمات من المجتمع المدني أدّت دورًا رائدًا في صياغة دستور العام 2014، على جائزة نوبل للسلام. واستمرّت وسائل الإعلام الغربية والسياسيون الغربيون في اعتبار تونس منارةً مضيئة للتحوّل الديمقراطي في العالم العربي.

لكن كيف يمكن إطلاق هذا الوصف فيما لا تزال المطالب الاقتصادية لملايين التونسيين غير محقَّقة، بل يتم تجاهلها؟ الإجابة على هذا السؤال هي أن "ديمقراطية" حزب النهضة موّلتها أنظمة القروض النيوليبرالية، إذ تلقّت تونس قروضًا من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والحكومة الأميركية ومجموعة البنك الدولي. لكن بدلًا من استخدام هذه الأموال لإنشاء نظام حماية اجتماعية يصبّ في صالح المناطق المهمّشة، وبالتالي يخفّف من وطأة الأوضاع الاقتصادية المزرية التي يشكو منها التونسيون منذ الثورة، استثمرتها النخب التونسية لخدمة أهدافها الخاصة. وضمّت هذه النخب أشخاصًا كانوا مقرّبين من بن علي وأعادوا تشكيل صورتهم على أنهم ديمقراطيون، فضلًا عن إسلاميين تنامى نفوذهم حديثًا. وأقدمت هذه النخب مع داعميها الغربيين النيوليبراليين على اختطاف الثورة من أيدي الطبقة الوسطى. وهكذا، استمرّت فجوة اللامساواة في الاتّساع بين الطبقات الاجتماعية الاقتصادية، وسرعان ما تبدّد الأمل ليسود مكانه اليأس، ما ولّد فيضًا من الحنين إلى زمن الدكتاتورية الاشتراكية في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة في الفترة الممتدّة بين 1956 و1987.

ساور التونسيين المُحبَطين شعورٌ بأن الديمقراطية عاجزة عن تحقيق المطالب التي رفعوها في العام 2011. وقد استغلّ سعيّد هذه المشاعر وصاغ دستورًا جديدًا في العام 2022، تضمّن أحكامًا عدّة مناهضة للقيم الديمقراطية، من بينها المرسوم 54 الذي نصّ على معاقبة كل من يتعمّد نشر معلومات مضلّلة بالسجن لمدة خمسة أعوام وبغرامة قدرها خمسون ألف دينار (نحو 16,200 دولار). ومنذ ذلك الحين، استُخدم هذا القانون وغيره لاستهداف الأشخاص المعارضين للموقف الحكومي الرسمي، ما أدّى إلى تضييق هوامش حرية التعبير، واشتداد حملة الاعتقالات الواسعة التي تطال رموز المعارضة.

اليوم، يوشك الاقتصاد التونسي على الانهيار. لكن الإطار السياسي الديمقراطي لم يعد يحظى بالدعم في أوساط الكثير من التونسيين، الذين فقدوا الثقة في المبدأ القائل إن الديمقراطية أفضل، أو حتى ضرورية، لتحقيق الازدهار الاقتصادي. لكن، بدلًا من إلقاء اللوم على التونسيين لدعمهم نظامًا دكتاتوريًا من أجل الحصول على حدٍّ أدنى من الاستقرار الاقتصادي، على المحلّلين الغربيين الترويج لنموذج الديمقراطية على حقيقتها، أي: إعلاء الأصوات المهمّشة والمقموعة. ما لم تقترن الديمقراطية بوضع اقتصادي سليم، لن تحظى بتأييد كبير. فالديمقراطية تتجاهل مبادئها عندما تدعم فقط ما يتماشى مع السياسات الغربية النيوليبرالية على حساب إسكات أصوات الغالبية. إذًا، ستبقى ثورة العام 2011 غير مكتملة إلى حين إرساء ديمقراطية حقيقية تلبّي في المقام الأول المطالب الاقتصادية للمواطنين التونسيين.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.