المصدر: Getty
مقال

أصداء سقوط الأسد تتردّد عبر المتوسط

جمعت علاقاتٌ وثيقة بين الدكتاتور السوري وخليفة حفتر في شرق ليبيا، وخسر هذا الأخير حليفًا مقرّبًا.

نشرت في ١٧ ديسمبر ٢٠٢٤

في أعقاب التطورات الكبرى في سورية، كان الإتيان على ذكر ليبيا أمرًا لا مفرّ منه، لكن حدث ذلك في معظم الأحيان في سياق مقارنات مضلّلة وغير مناسبة بين الوضع في سورية من جهة، والانقسامات التي شهدتها ليبيا وانزلاقها إلى لُجج الحرب الأهلية بعد الإطاحة بالدكتاتور معمّر القذافي في العام 2011 من جهة أخرى. افتقرت هذه التحليلات إذًا إلى فهمٍ معمّق للعوامل المشابهة التي ساهمت خلال العقد الذي أعقب الانتفاضات العربية في تشابك مصيرَي البلدَين وتشكيلهما، والأهم، لآلية تأثير الانهيار المذهل لنظام بشار الأسد على الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية للفصائل الليبية.

تتخبّط الفصائل الليبية منذ سنواتٍ عدة في حالة جمودٍ سياسي حال في الغالب دون نشوب صراعٍ كبير في البلاد، لكنه اعتمد إلى حدٍّ بعيد على تفاهمٍ بين روسيا وتركيا اللتَين تنتشر قواتهما العسكرية بشكلٍ كبير على الأراضي الليبية. وقد يؤثّر سقوط الأسد على هذا التوازن الهشّ، من خلال تغيير المواقف الاستراتيجية لكلٍّ من هاتَين القوتَين في المنطقة، وبخاصّةٍ من خلال عرقلة قدرة موسكو على نقل المقاتلين والأسلحة إلى ليبيا.

غالب الظن أن تبلغ هذه التداعيات ذروتها في شرق ليبيا، حيث وفّر نظام الأسد منذ مدّة طويلة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، الدعم للإدارة القمعية التابعة للمشير خليفة حفتر وأبنائه، وذلك من خلال إيديولوجيا مشتركة عمادها السلطوية وحكم القلّة، وشبكات الأعمال غير المشروعة التي ساهمت في تعظيم ثروات النظامَين، فضلًا عن المساعدات العسكرية التي تلقّياها من روسيا.

بعد أن عمَد حفتر إلى توطيد أركان حكمه في شرق ليبيا، عَقِب صراع دموي على السلطة في مدينة بنغازي امتدّ من العام 2014 إلى العام 2017، سُرعان ما أدرك أن الأسد يمكن أن يوفّر نموذجًا للشرعية السياسية ومصدرًا للدعم العسكري والاقتصادي. لذا، أعادت حكومة حفتر ومقرّها شرق البلاد افتتاح السفارة الليبية في دمشق في العام 2020، وحظيت هذه الخطوة بتشجيع وتسهيل الإمارات العربية المتحدة التي تضطلع منذ فترة طويلة بدور سياسي وعسكري داعمٍ له، وكانت آنذاك تقود الجهود العربية لإعادة تطبيع العلاقات مع الدكتاتور السوري. وبدت رمزية هذه الخطوة واضحة للمواطنين في البلدَين. فقد مالت الدفّة لصالح الثورة المضادّة والمناهضة للإسلاميين بعد العام 2011، بقيادة أبو ظبي، وبدرجة أقلّ المملكة العربية السعودية، وكذلك للسردية القائلة إن الحكّام السلطويين ذوي القبضة الحديدية، على غرار حفتر والأسد، هم وحدهم القادرون على ضمان الاستقرار.

في الوقت نفسه، حين عمَدت الحكومة التركية إلى إرسال آلاف المرتزقة السوريين الذين قاتلوا نظام الأسد لفترةٍ طويلة، إلى طرابلس ومحيطها – في إطار تدخّلٍ عسكري أوسع نطاقًا لدعم الحكومة الليبية المُعترَف بها دوليًا والتي كانت قوات الميليشيا التابعة لحفتر تحاول إسقاطها - لجأ حفتر إلى استقدام آلاف المقاتلين السوريين الموالين للأسد، والذين عملت روسيا على تسهيل وتنسيق سفرهم إلى ليبيا بتفويضٍ من النظام السوري. ومع أن تأثير هؤلاء المقاتلين في ساحة المعركة لم يكن كبيرًا في نهاية المطاف، ساهم توافدهم في توسيع التعاون اللوجستي بين موسكو ودمشق، وتجلّى ذلك من خلال زيادة الدعم العسكري والاقتصادي لنظام حفتر، واستمرّ إلى حين وقوع الأحداث الجسام في سورية مؤخرًا.

إضافةً إلى العلاقات السياسة وتدفّقات الأسلحة، ارتبط الشرق الليبي بسورية عبر شبكات متينة ومتداخلة من التجارة غير المشروعة، شملت بيئتَين واسعتَين من الجريمة المنظّمة صبّ التفاعل بينهما في خدمة الطرفَين. فعلى مدى سنوات، نشطت شركة الطيران السورية الخاصة "أجنحة الشام"، التي لطالما دعمت نظام الأسد من خلال نقل الأموال والمخدّرات والمعدّات والمقاتلين، ومن ضمنهم المرتزقة الروس، في عمليات نقل المهاجرين غير النظاميين من بنغلادش وباكستان وسورية وفلسطين ومصر والهند إلى شرق ليبيا. وبعد وصولهم إلى هناك، تولّت الميليشيات المرتبطة بحفتر تيسير وتنسيق رحلتهم المحفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، بقيادة ابنه الطموح صدام الذي حقّق أرباحًا طائلة من هذه التجارة. وعلى الرغم من الاتفاقات التي أبرمتها بعض دول الاتحاد الأوروبي مع حفتر لكبح موجات الهجرة، لم تتأثّر عمليات نقل المهاجرين عبر "أجنحة الشام" من دمشق إلى شمال شرق ليبيا واستمرّت من دون انقطاع. وأصبحت هذه الرحلات جزءًا لا يتجزّأ من شبكات الإتجار بالبشر عبر البحر الأبيض المتوسط، وبلغ عدد الذين سافروا على متنها أحيانًا حوالى نصف إجمالي الوافدين إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر ليبيا. حقّقت هذه التجارة إيراداتٍ سنوية بملايين الدولارات، وتمّ تخصيص جزءٍ كبير منها لتحالف حفتر المسلّح.

لم يستفِد حكم حفتر في شرق ليبيا من الإتجار بالبشر فحسب، بل أيضًا من التعاون مع النظام السوري في تهريب المخدّرات. فقد أصبح إنتاج الكبتاغون، وهو منشّط يحتوي على مادّة الأمفيتامين، قطاعًا يدرّ مليارات الدولارات في سورية خلال عهد الأسد، وانتشرت هذه الحبوب في السوق الليبية عبر ممرّ دمشق-بنغازي، ما أسهم في إثراء صدام حفتر وشركائه. ومع أن هذا المخدّر الخطير والمُسبّب للإدمان محظورٌ في الكثير من البلدان، فقد انتقل من ليبيا جنوبًا وغربًا نحو السودان ومنطقة الساحل والجزائر وغيرها. في موازاة ذلك، كانت رحلات "أجنحة الشام" نفسها تُستخدم بصورة منتظمة لنقل الأسلحة من السوق السوداء في سورية إلى ليبيا التي كانت تشهد ازدهارًا في تجارة السلاح.

علاوةً على ذلك، ازدهر طريق بحري بين البلدَين، أتاح نقل شحنات السلع غير المشروعة، بما في ذلك عمليات تهريب الوقود التي انتشرت بشكل واسع في شرق ليبيا خلال السنتَين الماضيتَين تحت إشراف صدام حفتر. فقد أُعيد، بصورةٍ غير قانونية، تصدير قسم كبير من الوقود الذي استوردته المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، ووصل بعض هذه الشحنات إلى سورية في نهاية المطاف. وكشف خبراء لدى منظمة The Sentry للتحقيقيات الاستقصائية الدولية عن أن قيمة الإيرادات السنوية التي أدرّها إجمالي التبادلات التجارية غير المشروعة بين ليبيا وسورية بلغت 300 مليون دولار تقريبًا.

اضطلع ماهر الأسد، شقيق بشار الأصغر وقائد الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المُدرّعة النخبوية في الجيش السوري، بدورٍ أساسي في جميع مفاصل شبكة الجريمة المنظّمة السورية الليبية، إذ أشرف على إنتاج الكبتاغون وتنسيق عمليات غسل الأموال التي عظّمت ثروات الموالين الأساسيين للنظام وساعدته في التهرّب من العقوبات الدولية. يُشار إلى أن ماهر الأسد سافر في آذار/مارس 2023 إلى شرق ليبيا للقاء صدام حفتر ومناقشة سبُل تعزيز تعاونهما في الأنشطة غير المشروعة، ما سلّط الضوء على العلاقات الشخصية للغاية والروابط الرفيعة المستوى التي عزّزت دعم النظام السوري لسلطة حفتر.

نتيجة التطورات الأخيرة في سورية والقطع المفاجئ لهذه الروابط، بات حفتر وجماعته في وضعٍ جديد غير مريح. وبدا ذلك جليًا في التغطية المحدودة التي خصّصتها وسائل الإعلام الموالية له للأحداث في سورية، فضلًا عن غياب ردود فعلٍ شعبية ملحوظة في المدن الواقعة شرق ليبيا، ما تعارض بشكل صارخ مع الاحتفالات الصاخبة التي شهدتها مدينتا مصراتة وطرابلس في غرب البلاد. فالرحيل السريع للأسد، الذي صوّر نفسه، على غرار المشير الليبي، بأنه حصنٌ منيع ضدّ الإسلاموية ونعت خصومه بالإرهابيين والجهاديين، أضرّ بسرديّة ديمومة الرجل القوي، مع أن القادة العرب السلطويين الآخرين المؤيّدين لحفتر، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الإماراتي محمد بن زايد، ما زالوا راسخين في مناصبهم. مع ذلك، قد تدفع التغييرات في سورية حفتر إلى إعادة تشكيل الركائز اللوجستية التي تقوم عليها شبكته الإجرامية، وربما العمل مع فلول نظام الأسد في المنفى والعصابات التابعة لها، أو التركيز بشكلٍ أكبر على مصادر تمويل أخرى. وقد يحثّه الوضع الجديد أيضًا على إعادة النظر في اصطفافاته السياسية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما أن أحد داعميه الخارجيين الأساسيين يرزح أيضًا تحت وطأة الضغوط.

وبالفعل، ترتبط النتيجة الرئيسة الثانية التي يمكن أن تحدث في ليبيا عَقِب إسقاط الأسد بهذا الداعم، أي روسيا. لقد أدّت موسكو دورًا مهمًّا في تشجيع وصول حفتر إلى السلطة بدءًا من أوائل العام 2014، عبر مساندة حملته العسكرية في شرق ليبيا، وتوفير الفنيين والمستشارين وتقديم الدعم الاستخباراتي والدعائي، وطباعة الأوراق النقدية لحكومته غير المُعترَف بها - حتى في ظلّ انخراطها مع قوى أخرى في ليبيا. ومع هجوم حفتر على حكومة طرابلس في العام 2019، زادت روسيا تواجدها في ليبيا من خلال نشر آلاف المرتزقة من مجموعة فاغنر (التي أُعيدت هيكلتها منذ ذلك الحين)، وأفراد عسكريين نظاميين، وطائرات، وأنظمة دفاع جوي. وفيما فشلت قوات حفتر في السيطرة على السلطة في العاصمة بسبب التدخّل العسكري التركي، تكيّفت موسكو بسرعة مع الوضع، واحتفظت بالكثير من عناصرها وأسلحتها في قواعد جوية رئيسة بالقرب من منشآت النفط. وفي السنوات الأخيرة، إلى جانب دعم موسكو المستمر لحفتر، استخدمت روسيا ليبيا كقاعدة حيوية لإرسال مقاتلين وإمدادات عسكرية إلى دول منطقة الساحل الأفريقي وغيرها.

قد يهدّد سقوط الأسد، أو يعقّد على أقلّ تقدير، طريق الإمداد هذا إلى أفريقيا، وإلى شرق ليبيا، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لحفتر. يُعزى ذلك إلى أن معظم الإمدادات مرّت عبر سورية، وخصوصًا عبر قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. وقد اتّخذ الكرملين خطوات للتوصّل إلى اتفاق مع القيادة الجديدة في سورية بشأن الاحتفاظ بهاتَين القاعدتَين العسكريتَين الحيويتَين، إلّا أن حصيلة هذه المفاوضات غير مؤكّدة. فمن دون السلطة المركزية لنظام الأسد الاستبدادي، قد يكون الحفاظ على قاعدتَي طرطوس وحميميم أكثر تكلفة وأشدّ تعقيدًا لموسكو، ولا سيما في ظلّ وجود معارضة محلية أو بنى لوجستية هشّة، وكلّ هذا من شأنه أن يؤثّر على حفتر.

في وجه حالة اللايقين هذه، قد تُقرّر روسيا ممارسة ضغوط على حفتر من أجل تأمين وصول بحري أكثر ديمومة إلى ميناء طبرق، الذي يشكّل مركزًا يتدفّق عبره الأفراد والمعدّات الروسية إلى أفريقيا. لكن هذه الخطوة قد تلقى معارضةً أكبر من جانب حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، ما يفاقم المعضلة التي يواجهها حفتر في تحقيق توازنٍ بين مطالب داعميه كافة.

بدلًا من ذلك، يمكن لروسيا توجيه شحناتها الجوية إلى القواعد الليبية الخاضعة لسيطرتها. لكن هذا الخيار مكلفٌ أيضًا، والأهم أنه يتطلب إذنًا من تركيا لاستخدام مجالها الجوي. ونظرًا إلى التوتّرات بين البلدَين حول عددٍ من القضايا، وخصوصًا التفاهم القائم بينهما في ليبيا، غالب الظن أن تضع أنقرة شروطًا مقابل بادرة حسن النية هذه.

أما التأثير المُحتمَل الثالث، والأكثر غموضًا، فهو ما إذا سيتغيّر سلوك تركيا في ليبيا، وكيف سيتغيّر، نتيجة التحوّل في موازين القوى الإقليمية لصالحها، عَقِب سقوط الأسد. لم تكتفِ حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد ترسيخ الوجود التركي في شمال غرب ليبيا في العام 2020، بالحفاظ على السلام المنقوص في العاصمة وحولها. بل سعت إلى تحقيق أهداف اقتصادية على ارتباط متزايد بشرق ليبيا - أي الأراضي التي يحكم قبضته عليها الفصيل التابع لحفتر، والذي خاضت أنقرة سابقًا معارك ضدّه خلال الحرب من أجل السيطرة على طرابلس. لكن منذ العام 2021، بذلت تركيا جهودًا كبيرة لزيادة التعاون مع أسرة حفتر وحلفائها، إذ افتتحت قنصلية في الشرق الليبي الخاضع لسيطرة حفتر، وأدّت دورًا فعّالًا في ضمان توقيع الشركات التركية الكثير من العقود لتنفيذ مشاريع في مدن مثل بنغازي ودرنة، حيث تجري عملية إعادة الإعمار تحت إشراف الأسرة بشكلٍ يفتقر إلى الشفافية. يسلّط هذا المسار الضوء على تركيز تركيا الحازم على توسيع نطاق نفوذها في شرق ليبيا. وكما اتّضح في سورية مؤخّرًا، عندما ترى تركيا فرصةً لتعزيز نفوذها، فهي تغتنمها بصورةٍ سريعة وحاسمة، حتى لو تطلّب ذلك الانقلاب على روسيا.

أحد السيناريوهات المحتملة هو أن عملية عرقلة أو تقويض الممرّ السلس الذي كانت تستخدمه روسيا لتزويد حفتر بالمساعدات قد تشجّع الفصائل الليبية المتحالفة مع تركيا في غرب البلاد على تحدّي سلطة أمير الحرب في شرق البلاد، نظرًا إلى أن قدرته على فرض حصار نفطي وإملاء الشروط على حكومة طرابلس اعتمدا جزئيًا على القوة الرادعة المتمثّلة في الوجود العسكري الروسي. وإذا اعتبرت الفصائل المناهضة لحفتر أن هذا الدعم قد تراجع بسبب إجراء موسكو عملية إعادة تقييم لحساباتها أو إعادة نشر لقوّاتها في مرحلة ما بعد الأسد، قد تسعى هذه الفصائل إلى انتزاع السيطرة على منشآت نفطية حيوية، معتبرةً أن تكلفة المواجهة باتت أقلّ في الوقت الراهن.

أما السيناريو البديل، والأكثر واقعيةً، هو احتمال أن تكثّف تركيا تواصلها السياسي والاقتصادي مع حفتر، مستفيدةً من الفرصة التي يتيحها راهنًا انشغال روسيا في التداعيات الناجمة عن سقوط الأسد. إذا اتّبع أردوغان هذا المسار، سيسعى على الأرجح إلى الحفاظ على دورٍ لموسكو على الأرض في ليبيا، ولكنه سيكون أقلّ من السابق، ما قد يزيد من قيمة تركيا لحلف شمال الأطلسي باعتبارها محاورًا وثقلًا موازيًا. وقد يُبدي حفتر استعدادًا لقبول مثل هذه المبادرات من أنقرة، وخصوصًا إذا شعر بأن مكانته على المستوى المحلي قد تتأثّر بسبب إضعاف الشبكة السورية الروسية، فيما يتعرّض لضغوط أميركية وأوروبية من أجل ثنيه عن منح مزيدٍ من القواعد الدائمة إلى روسيا التي تحاول إعادة تجميع ونشر قواتها بعد انهيار النظام السوري.

من الضروري عدم تصوير ليبيا على أنها خاضعة بالكامل للديناميات الخارجية، أو لسياسات الدول الأجنبية التي تتدخّل في شؤونها، والتي لا يقتصر على روسيا وتركيا فحسب، بل تشمل أيضًا منذ فترة طويلة الإمارات العربية المتحدة ومصر وقطر والولايات المتحدة وفرنسا. مع ذلك، غالب الظن أن الأحداث التي شهدتها سورية هذا الشهر، والتي تُضاف إلى الحرب المستمرة منذ عامٍ ونيّف في غزة، سيتردّد صداها داخل المجتمع الليبي، حيث لا تزال القوى السياسية المحلية والفصائل المسلحة تضطلع بالأهمية وتؤدّي دورًا فعّالًا.

صحيحٌ أن الحمى الثورية التي أشعلت انتفاضات العام 2011 قد تبدو خامدة، إلّا أنها لم تنطفئ بعد. كذلك، لا تزال تيارات الإسلام السياسي والجهادي تنشط في الخفاء ومن خلف الكواليس، على الرغم من تراجعها الملحوظ في السنوات الأخيرة، علمًا أن التعبئة السياسية والمسلحة في ليبيا حدثت في الكثير من الأحيان بمعزلٍ عن هذه التصنيفات المحدّدة بشكلٍ فضفاض والتي كثيرًا ما يُساء استخدامها. فمن المهمّ التذكير بمئات الشباب الليبيين الذين ذهبوا إلى سورية للمشاركة في القتال هناك في ذروة الحرب الأهلية، بعد أن جنّدتهم في الكثير من الأحيان شبكاتٌ إسلامية أو جهادية، ولكن مصدر إلهامهم الأعمق تمثّل في تعاطفهم مع النضال الثوري ضدّ طاغية مستبدٍّ شبيهٍ بذاك الذي أطاحوا به في بلدهم. أخبرني أحد هؤلاء المقاتلين المتطوعين ما مفاده: "لقد ذقنا طعم المعاناة، وكنا نعرف أن السوريين يعانون أيضًا". ولا بدّ من الانتظار لرؤية أي شكلٍ من أشكال التضامن أو التعبئة الأعمق سيلهمه في ليبيا الانتصار المُلفت الذي حقّقته هيئة تحرير الشام والفصائل المرتبطة بها في سورية، وكيف ستتردّد أصداء ذلك في المشهد السياسي في البلاد.

من المُحتمل للغاية أن المأزق السياسي الليبي، الذي منع البلاد من المضيّ قدمًا نحو إنهاء الفترة الانتقالية عبر إرساء سلطة تنفيذية مُنتخَبة شعبيًا وحلّ الانقسامات المؤسسية الكبيرة، قد يتفاقم ويشعل جذوة الصراع في المستقبل القريب. ولن تحدث هذه الانتكاسة نتيجة التحولات المفاجئة في موازين القوى الإقليمية وحدها، بل من خلال تضافر هذه التغييرات مع صدمةٍ كبيرة في الداخل، مثل انكماش الاقتصاد الكلّي، ما من شأنه أن يقوّض مساومات النخب السياسية التي ضمنت حالةً من الاستقرار الهشّ على مدى السنوات الماضية.

 

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.