في غضون أسبوعٍ ونيّف فقط، شهد بشار الأسد سقوط حكمه الوحشي إثر هجومٍ شنّته فصائل المعارضة من الشمال الغربي، وأعقبه هجومٌ موازٍ من الجبهة الجنوبية. وانهارت مظاهر القوة العسكرية عندما عمَد الجيش السوري، الذي قصف المدنيين بلا رحمة بالبراميل المتفجّرة واستخدم غاز السارين ضدّ الأطفال، إلى التخلّي عن مواقعه تاركًا خلفه ترسانةً من العتاد، في انسحابٍ فضح الأُسُسَ الجوفاء التي قام عليها النظام.
وبينما تداعت قوات الأسد من حوله، وقف يتفرّج عاجزًا على انسحاب كلٍّ من روسيا إلى معقلَيه الساحليَّين، اللاذقية وطرطوس، والقوات الإيرانية شرقًا إلى العراق، بعد أن ساندته طهران وموسكو لفترة طويلة. هكذا تُرِك طبيب العيون الذي تحوّل إلى طاغية ليتأمّل أنقاض نظامه الاستبدادي الذي بُنيَ على معاناةٍ إنسانيةٍ يستحيل استيعابها.
والواقع أن جذور هذه اللحظة تعود إلى العام 2012، حينما التزمت إيران للمرة الأولى بالحفاظ على حكم الأسد. آنذاك أجرى اللواء قاسم سليماني، القائد الراحل لفيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، سلسلةً من الزيارات إلى سورية لتقييم مدى استقرار نظام الأسد. وأفادت التقارير بأن هذه الزيارات أثارت قلقه بشأن قدرة النظام على الصمود في وجه المدّ الثوري وضغط المتمرّدين. كذلك سافر سليماني إلى لبنان حيث التقى الأمين العام الراحل لحزب الله، حسن نصر الله، لتدعيم دفاعات الأسد.
ساهمت الضغوط التي مارسها نصر الله وسليماني في تشكيل قرار إيران بالتدخّل عسكريًا في سورية، وخاصةً في إقناع المرشد الأعلى علي خامنئي والمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بالتغلّب على تردّدهما الأوّلي. وكان خامنئي أعرب عن هواجس كبيرة بشأن الالتزامات المالية والعملياتية الضخمة التي يتطلّبها تنفيذ تدخّل برّي واسع النطاق. لكن نصر الله وسليماني قدّما مبرّرات أطَّرَت التدخّلَ على أنه ضروري للحفاظ على مستقبل حزب الله ونفوذ إيران الإقليمي الأوسع. وارتكزت حجّتهما على التهديد الوجودي الذي قد يشكّله سقوط الأسد على مصالحهما الاستراتيجية، وعلى ما يُسَمّى بمحور المقاومة.
واليوم، بعد مرور أكثر من عقدٍ من الزمن، ثمّة مفارقة بالغة في النتيجة. فسليماني ونصر الله لم يعيشا ليشهدا انهيار رؤيتهما الاستراتيجية الكبرى، بل أصبح تدخّلهما، الذي كان يُفترَض أن يرسّخ دور محور المقاومة في المنطقة، إيذانًا بتقهقره. إن الاستراتيجية نفسها التي صُمّمَت لتقسيم سورية والسيطرة عليها سقطت تحت وطأة ثقلها، مؤشّرةً لا إلى نهاية حكم الأسد فحسب، بل أيضًا إلى انحسارٍ محتملٍ للمحور لا يمكن تداركه.
لقد استثمرت إيران على مدى الأعوام الثلاث عشرة الماضية نحو 30 إلى 50 مليار دولار في سورية، ما عبّر عن التزامها الراسخ بضمان بقاء نظام بشار الأسد. واضطلع المستشارون الإيرانيون، ولا سيما أولئك التابعون لفيلق القدس، بدورٍ حاسمٍ في حماية حكومة الأسد خلال الحرب الأهلية. وتشير التقارير الرسمية إلى مقتل ما يزيد عن 2000 عنصر من "المدافعين عن الحرم"، وهو مصطلح ملطّف تستخدمه إيران للدلالة إلى قواتها في سورية. يُعتقَد أن معظم هؤلاء الضحايا مواطنون أفغان جُنّدوا ضمن لواء فاطميون، مع أن إيران خسرت أيضًا أعدادًا كبيرةً من عناصر الحرس الثوري، خصوصًا خلال معركة خان طومان في العام 2016.
فضلًا عن ذلك، تغلغلت إيران في هياكل عسكرية وشبه عسكرية أساسية في سورية، منها على سبيل المثال قوات الدفاع الوطني، وهي شبكة ميليشيات موالية للنظام ساعدت إيران في تنظيمها وتسليحها وتدريبها. شُكّلَت هذه القوات في العام 2013 تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، وأصبحت قوةً مساعِدةً أساسيةً تدمج المقاتلين المحليين في استراتيجية الأسد العسكرية، وتكمّل الجيش السوري المنهك. كذلك نسجت إيران علاقات وثيقة ببعض أقسام الجيش السوري، ولا سيما الفرقة الرابعة المدرّعة والحرس الجمهوري. فقد حظيت الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر الأسد، شقيق بشار، بالتدريب والأسلحة والمساعدات المالية من إيران بسبب موثوقيتها وفعاليتها في الهجمات الكبرى. وعلى نحو مماثل، استفاد الحرس الجمهوري، المُكلَّف بحماية الدائرة الداخلية للنظام وبنيته التحتية الأساسية، من الدعم اللوجستي والعملياتي الإيراني، ما ضمن استمرار ولائه للأسد.
لكن إيران شهدت في العام الماضي وحده تفكّك قيادتها وسيطرتها في سورية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2023، أدّت الهجمات الإسرائيلية على دمشق إلى اغتيال سيد رضا موسوي، أحد كبار مستشاري الحرس الثوري الإيراني، الذي كان بمثابة القناة الرئيسة للمصالح الإيرانية في سورية. وقد تبعت هذه الضربة ضربةٌ أكثر أهمية في 1 نيسان/أبريل 2024، عندما استهدفت مقاتلات إسرائيلية من طراز "إف-35" القسم القنصلي في السفارة الإيرانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل الجنرال محمد زاهدي، القائد السابق للقوات البرية في الحرس الثوري الإيراني. في غضون ذلك، كان محور المقاومة التابع لإيران في دائرة الخطر. هذه الخسائر، إلى جانب التدهور الشديد في هيكل قيادة حزب الله في لبنان، بما في ذلك قيادته في ظلّ نصر الله، قلّصت بشكل كبير نفوذ إيران الإقليمي.
حين شنّت القوات التابعة لفصائل المعارضة هجومها في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، كانت إيران نفسها في موقع ضعيف لا يسمح لها بالتدخّل على نحو فعّال لدعم الأسد. فعلى خلاف العام 2016، عندما استكملت القوات البرية الإيرانية الدعم الجوّي الروسي في حصار حلب، لم تبدُ موسكو وطهران مستعدّتَين أو قادرتَين على شنّ هجوم مضادّ مشابه، ذلك أنهما ازدادتا إحباطًا من تعنّت الأسد. وهكذا، بقي الأسد رجلَهما إلى أن لم يَعُد كذلك.
بحلول أوائل العام 2024، كان موقف كلٍّ من إيران وروسيا قد تغيّر تجاه الرئيس السوري. فروسيا كانت غاضبة بصورة خاصة من انتهاكاته المتكرّرة لاتفاق خفض التصعيد في إدلب، ومقاومته العنيدة لأيّ شكلٍ من أشكال التسوية عن طريق التفاوض. في موازاة ذلك، رأت إيران أن نفوذها الذي كان كبيرًا على دمشق يتراجع باطّراد، إذ بدأ الأسد يشقّ بشكل متزايد مسارًا مستقلًّا تَعارَض في الكثير من الأحيان مع أهداف طهران الإقليمية. وتنامت شكوك إيران حيال الأسد عقب سلسلةٍ من التسريبات التي كشفت عن تحرّكات مسؤولين في الحرس الثوري الإيراني، وبلغت ذروتها في الغارات الإسرائيلية التي استهدفت هؤلاء المسؤولين في سورية. ولاحظ فيلق القدس، الذي كان يتمتّع نسبيًا بالحرية في سورية، أن السلطات السورية أصبحت تقيّد تحرّكاته أكثر فأكثر، إذ رفض الأسد مثلًا مطالبات بفتح جبهة الجولان ضدّ إسرائيل. وربما كان الأمر الأكثر استفزازًا لإيران بدء دمشق بفرض قيود على الأنشطة الدينية الشيعية في أنحاء سورية، ما شكّل تحدّيًا مباشرًا لجهود طهران الرامية إلى توسيع نفوذها الإيديولوجي والثقافي في المنطقة.
وبحلول الوقت الذي شنّ فيه الثوّار هجومهم، لم ترَ إيران ولا روسيا جدوى كافية في إنفاق المزيد من الموارد لدعم نظامٍ أصبح عبئًا أكثر منه مكسبًا. فقد قوّض استقلالُ الأسد المتنامي الشراكات التي أدامت فعليًا حكمَه لما يزيد عن عقد من الزمن. وفي نهاية المطاف، عرضت روسيا على الأسد اللجوء لدواعٍ إنسانية، وإن بدا ازدراء موسكو للأسد واضحًا في تعليقات سيرغي لافروف في منتدى الدوحة، حيث وبّخ محاورَه لأنه أراد "إغراقه" في الأسئلة عن سورية.
والحال أن الضعف الأساسي للجيش السوري أصبح جليًّا بشكل صارخ حتى قبل استيلاء فصائل المعارضة على حلب. فالنقاشات التي دارت على منصّات التواصل الاجتماعي الإيرانية، خصوصًا القنوات الموالية للحرس الثوري الإيراني على منصّة تلغرام، عكست هذه الحقيقة، إذ بدأ المواطنون الإيرانيون العاديون في هذه المنصّات ينتقدون علنًا الأسد وعدم كفاءة جيشه. وقد يكون الأمر الأكثر دلالةً التحوّل في مشاعر أشدّ مناصري الحرس الثوري التقليديين، الذين أخذوا يعبّرون عن استيائهم من فساد الأسد وعدم فعالية الجيش السوري.
استجابت إيران في البداية وفقًا لنهجها المعتاد، من خلال حشد الميليشيات العراقية بهدف تعزيز دفاعات الأسد. لكن الحكومة العراقية رفضت السماح لهذه القوات بعبور الحدود إلى سورية. وبدلًا من الاعتراض على هذا القرار، رضخت إيران للأمر بسهولة مفاجئة. أمّا التطوّر المذهل، فكان انسحاب القوات المدعومة إيرانيًا، من دون مقاومة، من المعبر الحدودي بين سورية والعراق الذي يُعدّ أكثر المواقع استراتيجيةً بالنسبة إليها. كذلك، انسحبت قوات الحرس الثوري الإيراني والمقاتلون العراقيون الموالون لطهران من دير الزور قبل وصول القوات الكردية، ليسقط معبر القائم-البوكمال الحدودي سريعًا في أيدي قوات سورية الديمقراطية.
كانت محافظة دير الزور ومعبرها الحدودي الواقع في مدينة البوكمال بمثابة جوهرة تاج إيران في سورية، إذ شكّلت رابطًا حيويًا في طموحات طهران الإقليمية. فبعد أن انتزعت إيران السيطرة على دير الزور من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2017، حوّلت هذه المنطقة الواقعة في شرق سورية إلى ممرٍّ أساسي لاستعراض قوّتها في منطقة المشرق العربي. وأضحى معبر القائم-البوكمال ركيزةً مهمة للجسر البرّي بين إيران ولبنان، ولا سيما أنه سهّل نقل الأسلحة والمقاتلين والعتاد إلى وكلاء طهران في جميع أنحاء المنطقة.
لم تقتصر أهمية دير الزور على المستوى اللوجستي. فإيران استثمرت بشكل كبير أيضًا في تأمين هذه المنطقة وأنشأت شبكة من القواعد العسكرية ونسجت علاقات وطيدة مع مشايخ العشائر المحلية. واستغلّت إيران تظلّمات السكان العرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية ولاحقًا قوات سورية الديمقراطية، واستخدمت في الوقت نفسه المنطقة للضغط على القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة التنف وبالقرب من حقل كونيكو للغاز. يُشار إلى أن الميليشيات المدعومة من إيران شنّت هجمات متكرّرة على المواقع الأميركية من هذه المنطقة، فتحوّلت إلى ساحة للتنافس الإقليمي الأوسع بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية. لكن حين بدأ نظام الأسد بالانهيار، اتّخذت طهران قرارًا مفاجئًا بالتخلّي عن هذه المنطقة الحيوية لصالح قوات سورية الديمقراطية. ربما عكس هذا الانسحاب استراتيجيةً أكثر مكرًا على المدى الطويل، تستند إلى رهان إيران على أن تولّد التوتّرات المستمرة بين القوات الكردية والسكان المحليين العرب وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، فرصًا جديدةً تتيح عودة النفوذ الإيراني إلى هذه المنطقة في نهاية المطاف.
لكن انسحاب إيران من سورية كان أكبر بكثير من مجرّد التخلّي عن دير الزور، إذ شكّل انعطافةً كاملة لانخراطها العسكري في البلاد. وفي الليلة التي سبقت هروب الأسد من دمشق، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن إيران بدأت بإجلاء قادتها العسكريين وموظفيها من سورية. أما الحقيقة الصارخة الكامنة وراء انسحاب إيران فجاءت على لسان محلّل مقرّب من النظام الإيراني، قال للصحيفة إن "إيران بدأت بإجلاء قوّاتها وعناصرها العسكريين لأننا لا نستطيع القتال كقوّة استشارية داعمة إذا كان الجيش السوري نفسه لا يريد القتال... خلاصة الأمر أن إيران أدركت أنها لا تستطيع إدارة الوضع في سورية في الوقت الراهن بالعمليات العسكرية، وبالتالي لم يعد هذا الخيار مطروحًا".
واقع الحال أن انهيار نظام الأسد قوّض الاستثمارات التي قامت بها إيران في سورية على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن، وفكّك شبكة النفوذ المعقّدة التي حاكها قاسم سليماني. فقد بلور، بصفته قائد فيلق القدس، استراتيجيةً لزعزعة الاستقرار الإقليمي، ألحقت أضرارًا جسيمةً بالشعوب والدول في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. اعتمد مقاربةً منهجيةً شملت الخطوات التالية: تحديد الدول الهشّة، واستغلال مكامن ضعفها، وملء الفراغ القائم في السلطة بميليشيات مدعومة إيرانيًا باتت تُعرف بوحشيّتها واستغلالها للسكان المحليين. كان المنطق الكامن وراء هذا النهج ينبع من اعتقاد سليماني بأن ضعف الحكومات هو أرضٌ خصبة لتجذّر النفوذ الإيراني وازدهاره. بلغت هذه الاستراتيجية ذروتها في سورية، حيث ساعد سليماني على تحويل انتفاضةٍ شعبيةٍ إلى حربٍ أهليةٍ كارثية.
ما بدأ كتدخّلٍ في سورية لإنقاذ محور المقاومة، أضحى بدلًا من ذلك إيذانًا بانحداره. كان من المفترض أن تشكّل هذه الشبكة من الوكلاء والأنظمة الحليفة، الممتدّة من طهران إلى بيروت وصنعاء، حلًّا لعزلة إيران الإقليمية والضغوط الغربية التي تواجهها. وانهار النموذج الذي بدا فعّالًا للغاية في لبنان مؤخرًا بعد أن أنهكت إسرائيل حزب الله خلال حرب استنزاف بلغت ذروتها بحملة قصف مدّمرة وغزو برّي لجنوب لبنان، بدأ في 1 تشرين الأول/أكتوبر. في نهاية المطاف، اتّضح أن هذا النموذج غير مستدامٍ في سورية.
لا يزال الكثير من الغموض يكتنف القرارات الإيرانية التي اتُّخذت في الأيام الأخيرة من حكم الأسد. صحيحٌ أن طهران لا يمكنها أن تأمل واقعيًا في استعادة مستوى النفوذ الذي كانت تتمتّع به خلال عهد الأسد، إلّا أن حساباتها تتجاوز على الأرجح الأزمة الراهنة. ونظرًا إلى أن إيران أثبتت مرارًا وتكرارًا مهارتها في استغلال الفوضى الإقليمية لصالحها، قد تكون تراهن على أن العملية الانتقالية في سورية ما بعد الأسد ستتيح لها فرصًا جديدة لبسط نفوذها، ولا سيما في ظلّ تنافس مختلف الفصائل على السلطة والموارد. على سبيل المثال، يمكن أن تشكّل معاداة الأكراد السوريين للنفوذ التركي في سورية فرصةً مماثلة. كذلك، قد تؤدّي قدرة إيران على العمل مع المجموعات السنّية إلى تشكيل تحالفات براغماتية مُعارِضة لإسرائيل، ولا سيما بعد احتلالها المنطقة العازلة المنزوعة السلاح التي أُنشئت في العام 1974 بموجب اتفاقية فضّ الاشتباك في جنوب سورية.
يندرج كلّ ما سبق إلى حدٍّ كبير في إطار التكهّنات. لكن الأكيد أن سقوط الأسد المُهين كشف حجم الأضرار الجسيمة التي لحقت بسورية من جرّاء حكمه والقوى الخارجية التي ساندته. سوف تكشف لنا الأشهر المقبلة ما إذا ستنجح إيران في التكيّف مع الواقع السوري الجديد، أم أن سقوط الأسد سيضع بالفعل حدًّا لطموحاتها في سورية.