المصدر: Getty
مقال

حروب قصص لبنان

ركّز سامي الجميّل على الانقسامات التي تقوّض بلاده في خطابٍ لاقى اهتمامًا كبيرًا الأسبوع الماضي.

 عصام القيسي
نشرت في ٦ مارس ٢٠٢٥

انعقد مجلس النواب اللبناني، في 26 شباط/فبراير، في اليوم الثاني من جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام. في ظلّ ظروفٍ عادية، كانت لتطغى على الجلسة الخطابات السياسية والتفاصيل الصغيرة الأخرى المتعلّقة بشؤون الحكم، ولكن حين ألقى رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل كلمته، خاض في مواضيع أكثر إيلامًا، متحدّثًا عن الوعي التاريخي المُجزَّأ للبنانيين، ودورات العنف التي لا تزال تفتك ببلادهم.

وكان يُفترَض أن يناقش الجميّل أساسًا البيان الوزاري للحكومة، إلا أن ملاحظاته بشأن التشييع الشعبي لأمين عام حزب الله حسن نصر الله، الذي بُثّ مباشرةً على الهواء في 23 شباط/فبراير، دفعته إلى التطرّق عوضًا عن ذلك إلى ما اعتبره أزمة لبنان الوجودية. فقد رسم الجميّل صورة قاتمة لبلدٍ عالقٍ في حالة من فقدان الذاكرة الجماعية، بلد ينتقل من كارثة إلى أخرى من دون مواجهة أيّ من الأسباب الجذرية لمشاكله.

كان آخر هذه الكوارث، بطبيعة الحال، الصراع الذي اندلع بين حزب الله وإسرائيل العام الماضي، والذي أسفر عن تدمير مناطق ذات غالبية شيعية في لبنان. ولمّا كان الجميّل خصمًا قديمًا لحزب الله، كان مُتوقَّعًا أن يعرض نتائج الحرب على أنها انتصارٌ لمعسكره السياسي، ولكنه تبنّى عوضًا عن ذلك نهجًا أكثر دقّة يهدف، على الأقلّ من الناحية الخطابية، إلى الارتقاء فوق الانقسامات الطائفية في لبنان، والتأكيد على مسؤولية الدولة، خصوصًا تجاه الشيعة في وقت حاجتهم. ولم يتكلّم الجميّل عن الشيعة والسنّة والمسيحيين والدروز فحسب، بل أيضًا عن اللبنانيين العلمانيين، الذين يميلون جميعًا إلى رؤية تاريخ بلادهم من منظورٍ متشظّ، حيث لكلّ مجموعة رؤيتها الخاصة للبنان، وقصّته، وأبطاله، وشهدائه، وأشراره.

يجلّ الشيعة في غالبيتهم شخصيات مثل نصر الله، في حين يستذكر الكثير من المسيحيين بحنينٍ بشير الجميّل، الذي اغتيل في العام 1982 على يد حلفاء سورية. في المقابل، يبجّل السنّة رفيق الحريري، رمز ارتباط الطائفة السنّية بالعالم العربي الأوسع، الذي اغتيل في شباط/فبراير 2005، في جريمةٍ تورّط فيها أعضاء من حزب الله. أما الدروز، فلا يزالون يكرّمون كمال جنبلاط الذي اغتيل بالرصاص في العام 1977، على الأرجح بأوامر من الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد.

هذه الشخصيات ليست مجرّد رموز سياسية، بل تمثّل خطوط الصدع الراسخة التي تخترق لبنان. فبينما قاد بشير الجميّل الميليشيات المسيحية التي اشتبكت مع كلّ من الفصائل اللبنانية المسلمة والفلسطينية والقوات السورية، حارب جنبلاط ضدّ الجميّل في السنوات الأولى من الحرب الأهلية. أما اغتيال الحريري، فأشعل التوتّرات بين السنّة والشيعة. واليوم، تنتقد شرائح واسعة من المسيحيين والسنّة والدروز إرث نصر الله وحزب الله. وفي حين أن هذه السرديات ليست سوى البعض القليل من السرديات المتنافسة الكثيرة في لبنان، تبقى الحقيقة التي لا مناص منه أنها لا تزال سردياتٍ غير محسومة.

ما ألمح إليه الجميّل بدقّةٍ أكبر هو أن النظام السياسي في لبنان يعزّز هذه الانقسامات، إذ يشجّع التدخّل الأجنبي، لا بل يدعو إليه، وهو أمرٌ لطالما كانت كل مجموعة طائفية مستعدّة لاستغلاله في سعيها إلى الهيمنة. وقد كان حزب الله المثال الأحدث والأوضح على هذا السلوك، حيث دعا اللبنانيين الشيعة إلى الاعتماد على الدعم الإيراني، في وقتٍ بنى فيه ترسانته، واستخدم القوة للهيمنة على المشهد السياسي الداخلي. بيد أن الحزب لم يكن الوحيد الذي تصرّف بهذا الشكل، فكلّ طائفة أساسية في لبنان فعلت الأمر نفسه.

طرح سامي الجميّل سؤالًا مركزيًا يكمن في صلب الشلل السياسي في لبنان: هل تستطيع الطوائف اللبنانية تجاوز هذه الروايات المتعدّدة، وصوغ سرديةٍ وطنيةٍ مشتركة؟ وهل تستطيع التوفيق بين سردياتها المتضاربة بما يفسح المجال أمام تحقيق السلام والازدهار للجميع؟ ودعا الجميّل إلى عقد "مؤتمر وطني للمصارحة والمصالحة" كخطوة أولى لكسر حلقة العنف المدمّرة في لبنان، محذّرًا من أن التاريخ سيعيد نفسه، ولبنان سيظلّ يعود إلى حالةٍ من الاضطراب، ما لم يُجرَ هذا الحساب. لا بدّ من إيجاد إطار عمل جديد لأن التاريخ أظهر أن فئة واحدة لا يمكن أن تهيمن على الآخرين، ولا يمكن لأيّ "رواية" أن تدّعي التفوّق المطلق. ولكي يحقّق لبنان استقرارًا دائمًا، عليه أن يأخذ في الحسبان رواياته كلّها، مهما كانت غير مريحة أو مثيرة للانقسام.

إن الفكرة القائلة بأن صراعات لبنان تنشأ من التفسيرات التاريخية المتضاربة ووجهات النظر المتباينة ليست بفكرة جديدة، ولكن قلّة من السياسيين تحلّت بالصراحة اللازمة للتطرّق إليها بهذا الوضوح من على منبر مجلس النواب. فمنذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1990، تجنّبت البلاد إلى حدّ كبير مواجهة ماضيها، حيث لم يُشرَع قطّ في مسارٍ رسميّ للمصالحة الوطنية. فالواقع أن الكثير من أمراء الحرب، الذين كانوا قادة ميليشيات في السابق، سلّموا سلاحهم، باستثناء حزب الله بصورة رئيسة، ثم أصبحوا جزءًا راسخًا من النظام السياسي ما بعد الحرب، فيما دُمِج مقاتلوهم السابقون في الدولة. هذا ولا يزال اتفاق الطائف للعام 1989، الذي أنهى الحرب، مُطبَّقًا جزئيًا فقط، حيث جرى تجاهل أحكامه المتعلّقة بالإصلاح السياسي وإلغاء الطائفية بشكل كبير. وقد دعا خطاب الجميّل إلى حدّ ما إلى تنفيذ الوعود غير المُحقَّقة للاتفاق، كما ألمح إلى أن جيلًا جديدًا من القادة اللبنانيين يمكن أن يعمل على دمج سرديات البلاد المتضاربة في تاريخ وطني تعدّدي مقبول، على خلاف القادة الأسلاف الذين برزوا خلال فترةٍ من الحرب والانقسام الشديد.

وقد يكون خطاب الجميّل وضع إطارًا للمشكلة، إلا أنه لم يقدّم طريقًا واضحًا للسير قدمًا، ما يدلّ على أن التشخيص من دون وصفة علاجية غير مُجد. واقترح البعض أن الحلّ يكمن في اعتماد النظام الفدرالي، الذي يمنح كل طائفة قدرًا أكبر من الاستقلالية ضمن إطار وطني. لكن هذه الفكرة أبعد ما تكون عن القبول العام، إذ يرى منتقدوها أنها لن تؤدّي سوى إلى ترسيخ الانقسامات الطائفية وإضعاف الدولة. ومع ذلك، تزداد الدعوات اليوم إلى تطبيق نوعٍ من اللامركزية، ولا سيما أن تاريخ لبنان يشير إلى أن أيّ محاولة لفرض إرادة سياسية واحدة على الجميع ستلقى مقاومة شرسة.

علاوةً على ذلك، قد يجادل منتقدو الخطاب بأنه كان في غير مكانه كليًا وبأن الجميّل فشل في التطرّق إلى قضايا مهمة أخرى. من منظور عملاني، لا تتمحور الاهتمامات الرئيسة للبنانيين راهنًا حول السرديات الطائفية التاريخية بل حول مسائل ملموسة مثل عملية إعادة الإعمار عقب الصراع الأخير مع إسرائيل، أو استرداد الودائع المصرفية، أو تأمين الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء. من هذا المنظور، يُعدّ السعي وراء "تاريخ مشترك" استراتيجية إلهاء عن التعامل مع مشاكل أشدّ إلحاحًا. قد يتمادى البعض ويشكك في الافتراض ذاته بأن الهوية الطائفية هي المحور المُحدّد للسياسة اللبنانية. وعلى الرغم من أن هذه الانتقادات ليست بلا مبرر، إلا أنها قد تتجاهل الدور المستمر الذي لا تزال تؤديه الهويات الطائفية في المجتمع اللبناني. ليست هذه الهويات مجرّد روايات فُرضت فرضًا، بل تبقى متجذّرة بعمق في كيفية تنظيم وتعبئة الطوائف، وفي كيفية تشارك السلطة أو التنافس عليها في نهاية المطاف.

الواقع أن خطاب الجميّل أثار تساؤلات أكثر مما أعطى إجابات. لكنه لم يكتفِ بطرح صيغ متناقضة من التاريخ فحسب، بل تطرّق إلى مستقبل النظام السياسي في لبنان. ولم يكن مجرّد دعوة لتذكّر الماضي فحسب، بل للتفكير في كيفية تعايش الطوائف اللبنانية، التي لا تزال جهات فاعلة حقيقية على الساحة السياسية. هل ستتجه البلاد نحو إرساء نوعٍ من اللامركزية؟ أم أنها ستشجّع مرة أخرى الطائفة الأقوى على فرض إرادة سياسية واحدة على الجميع؟ من خلال طرح هذه الأسئلة، أجبر الجميّل اللبنانيين على مواجهة مثل هذه الحقائق المُزعجة في أحاديثهم السياسية. يبقى أن نرى ما إذا كان هذا يشير إلى تحوّل حقيقي في نظرة لبنان لنفسه أم أن الأنماط القديمة ستسود.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.